عزلة الاستثمار: لماذا أوقفت الصناديق الدولية ضخ الأموال في “السعودية”؟
تؤكد المؤشرات الأخيرة في الأسواق المالية العالمية أن مديري الصناديق الدولية اتخذوا قراراً فعلياً بالتوقف المؤقت عن ضخ تدفقات نقدية جديدة في “السعودية”. ويأتي هذا التحرك مدفوعاً بضعف أداء سوق الأسهم وتزايد المخاوف بشأن تراجع نمو الأرباح المتوقع للشركات المدرجة خلال العام المقبل. ورغم أن ملكية المؤسسات الأجنبية في الأسهم المحلية بلغت مستويات قياسية في مطلع عام 2025، إلا أن وتيرة هذا النمو شهدت تباطؤاً حاداً في الأشهر الأخيرة، بحسب الأرقام الصادرة عن مؤسسة “كوبلي” لأبحاث الصناديق (Copley Fund Research)، مما يعكس حالة من الانكفاء الاستثماري تجاه الوعود الاقتصادية التي تروج لها الرياض. وتكشف مقارنة البيانات المالية بين دول المنطقة عن فجوة عميقة في الثقة؛ حيث نجحت الإمارات في جذب صافي تدفقات استثمارية بلغت 2.2 مليار دولار خلال العام المنتهي في نوفمبر، بينما لم تستقطب “السعودية” سوى 679 مليون دولار في ذات الفترة. هذا التباين يشير بوضوح إلى أن المستثمرين الأجانب باتوا يفضلون البيئة الاستثمارية الأكثر استقراراً وعائداً في الأسواق المجاورة، تاركين “السعودية” تواجه تبعات تقييماتها المرتفعة التي لا تتناسب مع الأداء المالي الحقيقي للشركات. وعلى صعيد الأداء العام، رصد المحللون ضياع فرصة استفادة “السعودية” من انتعاش أسهم الأسواق الناشئة الذي شهده العام الحالي، وسط توقعات باستمرار هذا الأداء الضعيف حتى عام 2026. هذا الركود لم يتوقف عند المؤشرات العامة، بل امتد ليضرب سوق الاكتتابات العامة الأولية (IPOs)، التي بدأت تفقد زخمها بشكل ملحوظ. ورغم التصريحات الرسمية الصادرة عن إدارة البورصة حول وجود قائمة “نشطة” من الشركات المستعدة للإدراج في العام القادم، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى عزوف المستثمرين الدوليين عن المشاركة في هذه الإدراجات، مما يضع ضغوطاً إضافية على الشركات الجديدة التي تجد نفسها أمام سوق يفتقر للسيولة الأجنبية الكافية. ويربط خبراء الاقتصاد هذا الفتور الاستثماري بالتغيرات المفاجئة في السياسة المالية، وتحديداً خطط “الحكومة السعودية” لخفض الإنفاق الرأسمالي ومراجعة الجدوى الاقتصادية للعديد من مشاريع صندوق الاستثمارات العامة. إن التراجع عن تدابير جذب المستثمرين التي تم الإعلان عنها سابقاً، معطوفاً على الضغوط المرتبطة بأسعار النفط، أدى إلى تبخر حالة التفاؤل التي سادت في سنوات سابقة. كما أن تركيز النظام على تمويل المشاريع العملاقة من خلال السيولة المحلية أدى إلى مزاحمة القطاع الخاص، وهو ما يعتبره مديرو الصناديق الدولية إشارة سلبية حول استدامة النمو الاقتصادي بعيداً عن الدعم الحكومي المباشر. بالإضافة إلى ذلك، تبرز “فجوة التقييم” كأحد أهم العوائق النقدية؛ حيث يتم تداول العديد من الأسهم القيادية في “السعودية” بمكررات ربحية تعتبر مرتفعة جداً مقارنة بمتوسطات الأسواق الناشئة، وهو ما يجعل المخاطرة في هذا السوق غير مبررة في ظل تباطؤ نمو الأرباح. ويرى مدوّنون وخبراء ماليون أن الاعتماد المستمر على الاكتتابات كوسيلة لتوليد الزخم لم يعد مجدياً في ظل غياب الإصلاحات الهيكلية التي تضمن حماية حقوق صغار المستثمرين والشفافية في إدارة الأصول السيادية. إن توقف الصناديق الدولية عن تخصيص أموال جديدة لـ “السعودية” ليس مجرد إجراء فني، بل هو قراءة نقدية لواقع اقتصادي يعاني من تعثر خطط الانفتاح الموعودة. ومع دخول عام 2026 في دائرة التوقعات المتشائمة، يجد السوق نفسه أمام خيارات صعبة للتعامل مع عزلة رأس المال الدولي، خاصة وأن محاولات “تجميل” الأداء من خلال الإدراجات المتلاحقة بدأت تؤدي إلى نتائج عكسية، مما يعمق حالة الركود ويؤكد أن الأزمة تتجاوز مجرد تقلبات عابرة لتصل إلى جوهر المصداقية الاستثمارية للنظام المالي الحالي. موضوع اجتذاب المال الخارجي لطالما شكّل هاجساً لدى النظام السعودي، وذلك باعتباره معيارا مهما لمدى نجاح حملته الممتدة منذ ما قبل العام 2017، أي مع انطلاق رؤية 2030 التي ارتكزت في جزء كبير منها على استقطاب الاستثمارات الخارجية. ومؤشرات اضطراب هذا المعيار عديدة ومن أبرزها على سبيل المثال صافي الأصول الأجنبية، فقد تراجع صافي الأصول في البنوك التجارية العاملة في “السعودية”، وهو ما سُجّل على مدار 8 أشهر متتالية كان أقصاها في فبراير من العام الجاري، حيث بلغ سالب 52.5 مليار ريال سعودي، وفقًا لبيانات البنك المركزي السعودي. ويعد صافي الأصول الأجنبيّة أو الاستثمارات الخارجية مؤشرًا هامًا على قدرة النظام المصرفي على تلبية الطلب على العملات الصعبة في أوقات الضغوط المالية، وبالتالي هروب الاستثمارات يؤدي إلى فشل النظام المصرفي بهذه المهام. وثمة أسباب عدة تقود إلى هروب الأصول الأجنبية، وفي مقدمتها: تحول الاستثمارات إلى أسواق أخرى أكثر استقرارًا، وزيادة الدين الخارجي مما يعكس ضغطًا على الأصول الأجنبية، عدم استقرار النظام السياسي، بمعنى ارتكاب الانتهاكات وممارسة القمع من قبل النظام السعودي.
