“تم القبض” على الحقيقة: التجريد الانتقائي للأمن في “السعودية”
عباس الصادق*
من احتكار العنف إلى احتكار السرد في الدولة الحديثة، لم تعد السلطة تقتصر على احتكار العنف، بل باتت تحتكر المعنى، فتُحدّد ما يُقال وما يُخفى، وما يُبرَّر وما يُحرَّم. في “المملكة السعودية” منذ 2015، اتخذت السلطة الأمنية مسارًا جديدًا في ظل حكم الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان، حيث انتقل الأمن من كونه وظيفة إدارية إلى كونه بنية رمزية متكاملة، تُعاد صياغتها عبر الإعلام ومنصات التواصل كأداة لبناء شرعية سياسية.وسط هذا التحول، تَقترح هذه المقالة مفهوم “التجريد الانتقائي للأمن” بوصفه مفتاحًا نقديًا لتحليل المشهد السياسيّ في “المملكة السعودية”؛ إذ تقوم الدولة بإعادة تأويل الممارسة الأمنيّة من كونها أداة قمع إلى أداء مؤسّسيّ مجرّد من السّياسة، يُعرض على الجمهور كفعل إداريّ محض، لكنّه لا يُطبّق بالتّساوي، بل يُنتقى فيه ما يُعلن وما يُخفى وفق اعتبارات تتّصل بصناعة الشرعيّة وتحييد المُساءلة. تتجلّى هذه الاستراتيجيّة في التّباين الواضح بين الاحتفاء العلنيّ باعتقال الجنائيين، والتّعتيم الصّارم على اعتقال النّشطاء السّياسيين. فبينما تُقدَّم حملات “تمّ القبض” كدليل على انضباط الدّولة، يُسحب المعارضون من الفضاء الرمزيّ، ويُمحى أثرهم من “الوعي الوطنيّ”، في تجسيد دقيق للتجريد الانتقائيّ للأمن بوصفه بنية سلطويّة تتجاوز القمع إلى محو الحضور السياسيّ للمعارضين. في قبضة رجال المكافحة.#بالمرصاد pic.twitter.com/1s1NlzSgNo — مكافحة المخدرات (@Mokafha_SA) April 3, 2025 سرديّة الأمن كأداء رمزيّ حملات “تمّ القبض”، التي تُنشر بانتظام عبر الحسابات الرسميّة لوزارة الداخلية ويعيد الإعلام السعوديّ تدويرها، ليست مجرّد توثيق، بل مسرحيّة أمنيّة تُنتج الدّولة من خلالها صورةَ ذاتِها بوصفها حاميةً للمجتمع. حيث تُعرض صور الموقوفين مرفقةً بأوصاف مُضخّمة، وتُرافق بتقارير إعلاميّة تُكرّس خطابًا يُشرعن الاستعراض الأمنيّ. هذه الممارسات تتّسق مع ما يمكن وصفه بـ”ثقافة الخوف المؤسسيّة”، حيث تتحول الإجراءات الأمنيّة إلى طقس يوميّ يُنتج الرّهبة كوسيلة للضبط الاجتماعيّ. وباسم محاربة الجريمة، يتمّ إنتاج حالة من الخوف المشروع، تجعل من الدّولة المُتغوّلة ضرورة، ومن التّماهي معها سلوكًا وقائيًا. هنا، يصبح التّجريد الانتقائيّ ليس فقط تمييزًا بين نوعي الاعتقال، بل بنيةً لصناعة الحقيقة الرسميّة وإخفاء غيرها.ويمتدّ هذا الأداء إلى الاستعراضات العسكريّة المصاحبة لمواسم الحج، والتي تُعرض كبرهان على الجاهزيّة الأمنيّة، لكنّها في جوهرها طقسٌ رمزيٌّ يُعيد تأكيد التفوّق السلطويّ على الفضاء العام والرمزيّ في آنٍ معًا. محو المعارض عندما يكون الصّمت عقوبة الاعتقالات السياسيّة في “المملكة السعوديّة” لا تقتصر على الحِرمان من الحريّة، بل تتعمّد سحبَ المعارضِ من الحضور الرمزيّ، بحيث لا يظهرُ صوتُه، ولا اسمُه، ولا صورتُه. تُنفّذ بعض الإعدامات السّياسية دون محاكمات علنيّة، وتُصاغ بلاغات مقتضبة تتحدّث عن “الإرهاب” أو “الخيانة”، ممّا يحوّل الاعتقال من عقوبة إلى اختفاء رمزيّ. في هذا السّياق، يظهر التّجريد الانتقائيّ للأمن كآليّة تُخفي السّياسيّ داخل ثنايا الجنائيّ، وتُسكت المعارضة من خلال الحذف الرمزيّ. وحتى حين تمّ استدعاء خطاب رمزيّ للمصالحة كما في تصريح رئيس أمن الدولة عبد العزيز الهويرينيّ في آذار/مارس 2025، فقد جاء ضمن محاولة لاستيعاب المعارضة داخل سرديّة الدّولة، لا كاعتراف بحقها السياسيّ، بل كعرض “عفو مشروط”، يعيد تعريف المعارض بوصفه ضالًّا يُمكن إصلاحه، لا صاحب قضية.وفي الفضاء الرقميّ، تتولّى “الصّقور الرقميّة السعوديّة” – الامتداد الجديد للذباب الإلكترونيّ السعوديّ – مهمّة تأديبيّة، تشنّ هجمات جماعيّة على كل خطاب حقوقيّ. بهذا المعنى، يتحوّل الأمن إلى بنية شاملة تضبط السلوك والمواقف، وتُحول المواطن نفسَه إلى أداةِ مراقبة للآخرين، في حالة من “التّأديب الجماعيّ الرمزيّ.” ازدواج الحقيقة: تسويق القبض الجنائيّ، وإخفاء السّجن السياسيّ تقوم بنية الحكم في “المملكة السعوديّة” على نموذج مزدوج؛ فهي تُسوّق صورتها كدولة قانونيّة تنفذ العدالة، بينما تُخفي في الوقت نفسه منظومة قمع مُمأسسة. هذه الازدواجيّة القانونيّة تُنتج خطابًا إصلاحيًا للتسويق الخارجيّ، وإجراءً سلطويًا للقمع الداخلي.إنّ التجريد الانتقائيّ للأمن هو ما يسمح بهذا الازدواج، حيث يُعاد تشكيل “القبض” كمنجز دعائيّ، و”السّجن السياسي” كعارٍ يُسحب من التّداول. وبينما تتحدّث “الدّولة” عن “التّحول الوطنيّ”، تُنفّذ سياسات رقابية تُفرغ هذا التّحول من مضمونه، عبر أدواتٍ لا تُعلن بقدر ما تُمارس كجزء من روتين يوميّ لقمعٍ مُموّه. في قبضة رجال الأمن . #تم_القبض pic.twitter.com/8Dj3NXCeqh — الأمن العام (@security_gov) March 29, 2025 خاتمة: من يعتقل الحقيقة؟ في المشهد “السعوديّ” المعاصر، تمارس السلطة من خلال إنتاج السرديّة الرسميّة وحذف البدائل بما يوازي العنف أو أكثر، وهنا يتأكّد حضور مفهوم “التّجريد الانتقائيّ للأمن” ويكشف: كيف تتحوّل الدّولة إلى كاتبٍ حصريّ للحكاية، يتحكم بما يُقال، وما يُمنع، وما يُنسى وما يؤرشف. وبينما يُحتفل بحملات “تم القبض”، تختفي وجوه لا يُراد لها أن تُرى. هكذا، لا تُصبح العدالة غائبة، بل مُنتقاة، تُعرض حين تخدم، وتُخفى حين تفضح. ويبقى السؤال: من يملك رواية الأمن؟ ومن يمنح الشرعية للصمت؟ وهل يمكن للعدالة أن تُولد في ظل سردٍ لا يكتب إلا بلغة السلطة؟
* قيادي في لقاء المعارضة في الجزيرة العربية