معهد بحوث الأمن القومي: هل تحصل تل أبيب على موظئ قدم في “الشرق الأوسط الجديد”؟
في إطار مقاربته لزيارة محمد بن سلمان الأخيرة إلى واشنطن، خصصّ معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي تقريرا يتابع فيه الفرص والتحديات التي تواجه الكيان المحتل وراء تلك الزيارة ومخرجاتها. انبرى الكاتبان الداد شفيت ويوئيل جوجانسكي، في تقديم رؤيتهما لمخرجات اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب والحاكم الفعلي “للسعودية” محمد بن سلمان، على 3 مستويات: الأولى: من منظور إدارة ترامب، الثانية: من منظور النظام السعودي، والثالثة: من منظور “إسرائيل” وما تحملها من فرص ومخاطر. من منظور إدارة ترامب مع تصاعد التنافس العالمي بين القوى الكبرى خلال الأعوام الأخيرة، حافظت “السعودية”، وفق ما أكده الكاتبان، على شبكة علاقات واسعة مع الصين وروسيا، خصوصًا في مجالات الطاقة والاقتصاد، بدءًا من التنسيق في إطار تحالف أوبك+ وصولًا إلى مشاريع التكنولوجيا والبنى التحتية مع بكين وموسكو. غير أن واشنطن تنظر إلى تعزيز ارتباط الرياض بها كضرورة استراتيجية تهدف إلى منع أي انزياح سعودي نحو المحور الشرقي، وضمان بقاء المملكة ضمن المجال الحيوي الأمريكي. وأشار التقرير إلى ما أفرزه اللقاء في واشنطن من وعود بضخ استثمارات سعودية ضخمة في السوق الأمريكية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والبنية الرقمية. وتولي الولايات المتحدة أهمية كبيرة لدعم طموح الرياض في التحول إلى مركز إقليمي للابتكار ضمن رؤية 2030، مقابل ضخ رؤوس أموال سعودية في مشاريع الطاقة والتقنيات المتقدمة والبنية التحتية الأمريكية. وفي المقابل، تنتظر واشنطن من الرياض الالتزام بجزء من المعايير الأمريكية المتعلقة بحماية التكنولوجيا الحساسة وطريقة التعامل مع الصين. واعتبر التقرير أن الإدارة الأمريكية تنظر إلى وقف الحرب في غزة والإفراج عن الرهائن باعتبارها خطوة افتتاحية نحو توسيع اتفاقيات إبراهيم، ودمج “السعودية” في منظومة أمنية واقتصادية تشمل “إسرائيل”، بما ينقل جزءًا من أعباء الاستقرار الإقليمي إلى دول المنطقة ذاتها. وعلى هذا الأساس، وفقا للتقرير، بحث ترامب وبن سلمان مسار تطبيع واسع بين الرياض وتل أبيب، حيث شدد الرئيس الأمريكي على أن التطبيع سيكون ركيزة لبناء بنية إقليمية جديدة قائمة على التعاون الأمني والاقتصادي. وفي المقابل، طرح بن سلمان شروط بلاده لتحقيق هذه الخطوة، وفي مقدمتها الحصول على ضمانات أمنية أمريكية، وصفقة أسلحة متطورة، والتزام إسرائيلي بخطة “لا رجعة فيها” لإقامة دولة فلسطينية. من منظور “السعودية” مثّلت الزيارة محطة مفصلية بالنسبة لمحمد بن سلمان في مسار إعادة ترميم صورة النظام داخل الولايات المتحدة والغرب عمومًا. ويعتبر بن سلمان أن ما خلّفته الزيارة من نتائج يعكس اعترافًا واسعًا بأن “السعودية” أصبحت فاعلًا محوريًا في المعادلتين الإقليمية والدولية. فقد حملت مراسم الاستقبال الضخمة في البيت الأبيض – من عشاء رسمي مخصّص لرؤساء الدول، إلى اجتماعات مطولة، مرورًا بتصريحات ترامب التي أكد فيها شرعية بن سلمان كقائد “للسعودية” – دلالات قوية على تغير المناخ السياسي الذي ساد خلال سنوات إدارة بايدن، حين كانت صورة بن سلمان تشكل عامل توتر دائم في العلاقات الثنائية، ذائما بحسب معهد الأمن القومي الإسرائيلي. رأى التقرير أن إعلان الإدارة الأمريكية عن نيتها بيع طائرات إف-35 المتطورة “للسعودية”، في حال الالتزام بالتفاهمات المتفق عليها، يُعد تحولًا لافتًا. فـ”السعودية” ستكون أول دولة عربية تحصل على هذا النوع من الطائرات، وهو وعد كانت الإمارات قد سمعته سابقًا دون أن يتحقق. وحتى لو عطّل الكونغرس الصفقة لاحقًا، فإن الإعلان نفسه يعكس رؤية سعودية واضحة للولايات المتحدة باعتبارها الشريك الأمني المركزي، كما يعزز شعور الرياض بأن ميزان القوى في الخليج يميل لصالحها”. وأضاف التقرير “تُعد إزالة القيود الأمريكية على تصدير الرقائق المتقدمة خطوة ذات أهمية كبيرة بالنسبة “للسعودية”، التي تعمل على بناء قاعدة تكنولوجية رائدة تشمل تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لخدمة مشاريعها مثل “نيوم”. وتأتي هذه الموافقة رغم الوجود الواسع لشركات تكنولوجية صينية في “السعودية”، ما يشير إلى مستوى عالٍ من الثقة الأمريكية – على الأرجح مقابل تفاهمات سعودية بزيادة الرقابة على الأنشطة الصينية”. إلى جانب ذلك، أشار الكاتبان إلى ما منحته واشنطن للرياض من صفة “حليف رئيسي من خارج الناتو”. ورأت أنه “رغم أن هذا التصنيف رمزي في جزء كبير منه، إلا أنه يوفر تسهيلات في مجال التسلح، ويبعث رسالة دولية بأن “السعودية” استعادت موقعها كطرف أساسي في المعمار الأمني الأمريكي”. لكن هدفان سعوديان مركزيان ما زالا خارج المتناول، أشار لهما التقرير: اتفاق دفاعي مُلزِم لا تزال الرياض تسعى للحصول على معاهدة دفاع رسمية تفرض التزامًا أمريكيًا مباشرًا بحماية النظام في حال تعرضه لهجوم، مقابل تعاون سياسي وإقليمي وثيق. وعلى الرغم من تحركات سعودية دامت عامين لدفع واشنطن نحو هذا النموذج، لم تحصل الرياض بعد على موافقة مماثلة لما منحته الولايات المتحدة لقطر بعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، والتي جاءت بصيغة أمر رئاسي خاص. اتفاقية تخصيب نووي داخل “السعودية” الهدف الثاني يتعلّق باتفاق “123” الضروري لإنشاء برنامج نووي مدني بإشراف أمريكي. ورغم تقدم المباحثات حول هذا الملف، يُصر الكونغرس على رفض أي صيغة تسمح “للسعودية” بالتخصيب المحلي، بينما يتمسك بن سلمان برغبته في التحكم بكامل دورة الوقود النووي. ويبدو أن واشنطن تستخدم هذا الملف – إلى جانب الاتفاق الدفاعي – كورقة ضغط مرتبطة بمسار التطبيع مع إسرائيل، من دون توقع تنازلات سعودية كبيرة. وبما يخصّ الكيان، رأى الكاتبان أن الرياض قد تمضي نحو التطبيع في نهاية المطاف، لكنها تربطه بشكل واضح بتقدم ملموس في المسار الفلسطيني–الإسرائيلي. وفي نظر الولايات المتحدة، فإن غياب أي خطوات إسرائيلية يسمح لها بالاحتفاظ بـ“أوراق القوة” — وعلى رأسها الدفاع والنووي — إلى أن تصبح الظروف مناسبة لاتفاق تطبيع فعلي وشامل. وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذا التعطيل قد يُعتبر مكسبًا مرحليًا. من منظور “إسرائيل” إلى ذلك، تنظر “إسرائيل” إلى زيارة بن سلمان باعتبارها حدثا بالغ التعقيد فهي تفتح الباب أمام فرص تاريخية، لكنها تحمل أيضًا تحديات استراتيجية غير بسيطة. فالحوار الدائر بين واشنطن والرياض لا يقتصر على صفقات السلاح أو قضية التطبيع، بل يُجسد انتقال “السعودية” إلى موقع لاعب مركزي داخل المعسكر الأمريكي في الشرق الأوسط. وبناءً على ذلك، تجد “إسرائيل” نفسها مضطرة لإعادة صياغة دورها في الهيكل الإقليمي الجديد الذي تعمل الإدارة الأمريكية على بلورته. الفرص تعزيز الوجود الأمريكي وتشكيل منظومة إقليمية جديدة تُدرك إسرائيل أن اتفاقًا أمنيًا بين الولايات المتحدة و”السعودية”، يتكامل مع شبكة من الدول المقرّبة من واشنطن مثل مصر والأردن والإمارات، يمكن أن يصنع بيئة سياسية وأمنية أكثر استقرارًا بالنسبة لها. فحتى لو اقتصرت العلاقات على طابع رسمي أو محدود، فإن قيام محور إقليمي مؤيد لواشنطن قد يفتح المجال أمام تعاون أمني واقتصادي وتكنولوجي أعمق. التطبيع خطوة قد تُغيّر مكانة “إسرائيل” إقليميًا إن إحراز تقدم نحو التطبيع مع “السعودية” – حتى إن جاء تدريجيًا أو مشروطًا – سيكون نقطة تحول كبيرة لـ”إسرائيل”، تكمل مسار “اتفاقيات إبراهيم” وتُرسخ مكانتها داخل العالمين العربي والإسلامي. لكن هذا الأمر يتطلب، من وجهة النظر السعودية والإقليمية، خطوات ملموسة على المسار الفلسطيني، سواء بتحسين الأوضاع في غزة أو عبر التزام بعملية سياسية جدية. المخاطر تهديد “التفوق النوعي” لإسرائيل لفت التقرير أن الجوانب الأمنية في أي صفقة أمريكية–سعودية تثير قلقًا واضحًا في “إسرائيل”، خصوصًا ما يتعلق ببيع أسلحة متقدمة، أو إدماج الرياض في منظومات دفاعية مشتركة، أو احتمال تطوير برنامج نووي مدني سعودي. تخشى إسرائيل أن يؤدي ذلك إلى تآكل تفوقها العسكري، وأن يشجع دولًا خليجية أخرى على المطالبة بمشاريع نووية مماثلة. ورغم أن “إسرائيل” تستطيع الضغط على واشنطن لصياغة ترتيبات أكثر صرامة، فإن الإفراط في العرقلة قد يدفع “السعودية” نحو بدائل كالصين أو فرنسا أو بريطانيا، ما يضع “إسرائيل” أمام تسليح متطور خارج أي رقابة أمريكية. التهميش في صياغة التفاهمات الخطر الأكبر من منظور تل أبيب هو سيناريو تُنسج فيه التفاهمات بين واشنطن والرياض بصورة ثنائية بالكامل، تُعطى فيه الأولوية للاعتبارات الأمريكية والسعودية، ولا تُؤخذ مصالح إسرائيل في الحسبان إلا لاحقًا… إن أُخذت أساسًا. في حال تحقق هذا السيناريو، قد تجد “إسرائيل” نفسها أمام ترتيبات أمنية ونووية واقتصادية مفروضة عليها دون دور أو تأثير. وقدم الكاتبان، البديل “الإيجابي”، من وجهة نظرها، والذي يتمثل بإشراك إسرائيل في العملية منذ بدايتها: المشاركة في صياغة شبكات الدفاع الإقليمي، والتنسيق بشأن مواجهة إيران وحلفائها، والعمل على تطوير مشاريع اقتصادية مشتركة تدعم “رؤية 2030” السعودية وتعود بفوائد مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي. توصيات وفي ختام القراءة التي قدّمها الكاتبان في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، مجموعة من التوصيات السياسية: “إسرائيل” بحاجة إلى تبنّي دور الفاعل لا المراقب رغم أن التحولات الجارية في الشرق الأوسط لا تخضع بالكامل لسيطرة “إسرائيل”، إلا أنها قادرة على التأثير فيها بفعالية. لذلك، ينبغي لإسرائيل توسيع دائرة الحوار المباشر مع الولايات المتحدة و”السعودية”، عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية على حد سواء، بما في ذلك القنوات الاقتصادية والتجارية. الهدف هو أن تتموضع “إسرائيل” كطرف مشارك في صياغة الهيكل الإقليمي الجديد، لا كدولة تُفاجأ بالاتفاقات بعد إبرامها بين واشنطن والرياض. ترسيم خطوط واضحة وتحديد هامش المناورة على “إسرائيل” أن ترسم بدقة ما تعتبره خطوطًا حمراء أمام واشنطن، مثل تحديد نوعية الأسلحة التي لا يمكن أن تُباع “للسعودية” من دون ترتيبات أمنية تعويضية، أو وضع ضوابط صارمة تمنع أي استخدام مزدوج للتكنولوجيا النووية المدنية. كما يجب أن تحصل على التزامات أمريكية تضمن أن القدرات التي ستحصل عليها الرياض لن تمس أمنها، سواء عبر قيود على منظومات الأسلحة، أو آليات متقدمة لمراقبة النشاط النووي المدني، أو “إشراك” إسرائيل في منظومات الدفاع الجوي والصاروخي الإقليمية التي تقلل من المخاطر المحتملة. ومع ازدياد اعتماد “إسرائيل” على الغطاء الأمني الأمريكي، يصبح ترسيم هذه الخطوط ضرورة لمنع تحولها إلى “دولة” مقيدة بقرارات لاحقة لا تستطيع تعديلها. صياغة المكوّن الفلسطيني بدل الانجرار إليه من شبه المؤكد أن أي صفقة تتعلق بالتطبيع السعودي–الإسرائيلي ستتضمن عنصرًا فلسطينيًا. وعلى “إسرائيل” أن تقرر باكراً: هل تكتفي برفض تلقائي يجعلها عقبة أمام التقدم، أم تسعى إلى صياغة “الثمن السياسي” بطريقة مدروسة تُقلّص الخسائر وتُحقق أكبر قدر من المكاسب؟ فالمسار سيكون حتميًا: إما أن تحدد “إسرائيل” بنفسها مستوى الخطوات التي يمكن القبول بها، أو تجد نفسها في مواجهة مطالب خارجية تُفرض عليها كشرط أساسي للتطبيع. التقارب السعودي–الأمريكي جزء من مشهد استراتيجي أوسع زيارة محمد بن سلمان ليست مجرد محطة سعودية–أمريكية، بل تأتي ضمن جهود أوسع تبذلها إدارة ترامب لإعادة ترتيب الشرق الأوسط في وقت تنغمس فيه واشنطن في ملفات استراتيجية أخرى: التنافس مع الصين، الحرب الروسية–الأوكرانية، الضغوط الداخلية المتعلقة بالهجرة، والصراع على التفوق التكنولوجي. بالنسبة لـ”إسرائيل”، المهم ليس فقط نتائج الزيارة، بل قدرتها على التأقلم مع أسلوب السياسة الأمريكية الجديد الذي يُحمّل الحلفاء نصيبًا أكبر من العبء الأمني. ولذلك، فإن تبنّي مقاربة “الشريك المُبادر” بات ضرورة؛ فهي إما أن تكون جزءًا من عملية إعادة الهيكلة الإقليمية، أو تواجه واقعًا استراتيجيًا جديدًا فُرض دون مشاركتها، لكنها مضطرة للتأقلم معه.
