صندوق محمد بن سلمان.. صورة ثراء في واشنطن وواقع مالي مأزوم في الرياض

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 394
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

قدّمت صحيفة “ذا نيويورك تايمز” واحدة من أكثر الروايات وضوحاً حول التناقض بين الصورة التي تحاول “السعودية” رسمها عن قوتها المالية في الخارج، وبين واقع مأزوم يضغط على أهم أذرع الدولة الاقتصادية، صندوق الاستثمارات العامة. فبينما وقف ولي العهد محمد بن سلمان في البيت الأبيض متحدثاً بثقة عن استثمارات سعودية بقيمة تريليون دولار داخل الولايات المتحدة، كانت تقارير الصحيفة تستند إلى سلسلة شهادات ومعلومات داخلية تشير إلى أن الصندوق يعيش حالة “شح سيولة” غير مسبوقة، تهدد أساس الخطط الاقتصادية التي يبني عليها ابن سلمان مشروعه السياسي. التقرير يعتمد على شهادات 11 شخصاً على صلة مباشرة بعمل الصندوق، من موظفين حاليين وأعضاء في مجلس الإدارة وممثلين للمستثمرين، وتجمع رواياتهم على نقطة واحدة: صندوق الاستثمارات العامة دخل مرحلة حرجة بعد سنوات من الإنفاق الضخم على مشاريع متعثرة وفاشلة. واجهة واشنطن… وحقائق الرياض ظهور محمد بن سلمان في واشنطن كان نسخة مكررة مما حدث في زيارات سابقة: استقبال رسمي، صور في المكتب البيضاوي، ووعود باستثمارات ضخمة يعشق السياسيون الأميركيون سماعها. لكن بينما يقدّم ابن سلمان نفسه كشريك اقتصادي هائل، تؤكد الصحيفة أن الصندوق الذي يعتمد عليه لإظهار تلك القوة المالية لم يعد قادراً على تخصيص أموال جديدة بسهولة، بل إن ممثليه صاروا يبلغون المستثمرين الدوليين بأن تخصيص الأموال “شبه متوقف حتى إشعار آخر”. تقول “ذا نيويورك تايمز” إن جزءاً ضخماً من أصول الصندوق غير قابل للبيع أو التسييل السريع. وغياب التقييمات المالية العامة لهذه الأصول يزيد من الغموض حول قيمتها الفعلية، ما يجعل الصورة اللامعة التي يروج لها ابن سلمان في الخارج منفصلة تماماً عن الواقع الداخلي. السبب، كما يقول المطلعون، أن الصندوق ضخ مليارات الدولارات في مشاريع لم تحقق تقدماً يُذكر، وعلى رأسها مشروع نيوم، الذي وُعد بأنه مدينة مستقبلية تتضمن روبوتات ومنتجعات تزلج وشواطئ من الرخام المسحوق، لكنه تحول إلى ملف مثقل بالتأجيلات والتكاليف المتضخمة. ولا يقتصر الأمر على نيوم، فهناك سلسلة مشاريع غريبة ومتواضعة التأثير: مقهى بفرع واحد فقط، خط رحلات بحرية لا يملك سوى سفينة واحدة، وشركة سيارات كهربائية لم تنتج أي سيارة على الإطلاق رغم مرور ثلاث سنوات على إطلاقها. ورغم أن “السعودية” تملك ثروة نفطية كبيرة، فإن قيود خفض الإنتاج واتفاقيات منظمة أوبك+، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط، جعلت عائداتها أقل قدرة على دعم إنفاق ابن سلمان الداخلي المتزايد. وتعاني الحكومة من عجز كبير في الميزانية، ما دفعها إلى الاقتراض لتغطية التزاماتها. إعادة هيكلة تحت ضغط شديد في كواليس الصندوق، تجري عملية إعادة هيكلة واسعة بتوجيه مباشر من محمد بن سلمان، وفقاً للصحيفة. تشمل العملية إقالة مسؤولين كبار، من بينهم مدير مشروع نيوم، إضافة إلى تخفيض تقديرات العوائد المتوقعة لعدة مشاريع، خصوصاً منتجعات البحر الأحمر الفاخرة التي ما تزال شبه فارغة. اللافت أن مجلس إدارة الصندوق يناقش تغييراً جذرياً في السياسة الاستثمارية عبر التوجه نحو مجالات تقليدية، مثل الأسهم والسندات، بعيداً عن “الهوس بالمشاريع الضخمة” التي طغت على سنوات ابن سلمان الأولى. ورغم طموح الصندوق للوصول إلى حجم 2 تريليون دولار، لا توجد إجابات واضحة حول كيفية ذلك: هل عبر استثمارات ناجحة؟ أم عبر ضخه الحكومي المتواصل؟ المتحدث باسم الصندوق قال إن لديه 60 مليار دولار نقداً، واصفاً إياه بأنه “عالي السيولة بمعايير المنطقة”، لكن مجمل ما تنقله الصحيفة يضع هذا التصريح في سياق يرسم صورة معاكسة تماماً. تضخم الصندوق وارتباطه بالسلطة السياسية التقرير يعود إلى عام 2015، لحظة تحوّل الصندوق من كيان صغير إلى أداة سياسية واقتصادية هائلة بيد ولي العهد. قبل ذلك العام، كان الصندوق يملك 100 مليار دولار فقط، ويعمل فيه 50 موظفاً. وكان دوره يقتصر على دعم الشركات المحلية مثل البنوك والمرافق الوطنية. لكن حين استلم محمد بن سلمان الإشراف عليه، بدأ ضخ غير مسبوق للمال الحكومي إليه، إضافة إلى تحويل جزء من عائدات النفط مباشرة إليه، وفق تقديرات تصل إلى 500 مليون دولار يومياً. كما نُقلت إليه أصول صودرت من أمراء ورجال أعمال اعتُقلوا خلال حملة “مكافحة الفساد” عام 2017، التي اعتبرتها الصحيفة إحدى أدوات ابن سلمان لتصفية خصومه الداخليين. خلال ذلك، تضخّم دور ياسر الرميان، محافظ الصندوق، الذي تحول من مصرفي إقليمي إلى لاعب عالمي، يظهر في فعاليات كبرى في الولايات المتحدة، من مباريات السوبر بول إلى فعاليات UFC. وتشير الصحيفة إلى أن الرميان كان صارماً في مطالبة الناس بنطق اسم الصندوق بالإنجليزية عبر تهجئة الحروف “P.I.F” وليس بلفظ “بِف”. كما أشرف الرميان على سلسلة استحواذات في الولايات المتحدة، مثل Uber وCiti، وأسس دوراً للصندوق في الرياضة العالمية من خلال شراء حصص في فورمولا 1 ونادي نيوكاسل يونايتد، إضافة إلى دعم دوري الجولف العالمي. لكن خلف هذا النفوذ، تكشف الصحيفة أن الصندوق يعيش ضغطاً مالياً متزايداً دفعه مؤخراً إلى خيارات غير معهودة. دلائل علنية على الأزمة: مؤتمر «دافوس الصحراء» نموذجاً من أبرز مظاهر النفوذ السعودي خلال السنوات الماضية مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار”، المعروف بلقب “دافوس الصحراء”. كان المؤتمر مناسبة لاستقبال كبار رجال الأعمال العالميين الذين كانوا يعودون عادةً بصفقات واستثمارات. لكن هذا العام، تقول الصحيفة، تغيّر المشهد تماماً. فقد شهد المؤتمر غياباً لافتاً لشخصيات كانت “ثابتة الحضور” مثل ستيفن شوارزمان، رئيس شركة “بلاكستون”، والذي وصل متأخراً لساعات، وسط انطباع عام بأن الأيام الذهبية لتدفق المال السعودي قد انتهت أو تراجعت. الأهم أن ممثلي الصندوق أبلغوا مديري الصناديق العالمية أن الحصول على تمويل جديد أصبح مشروطاً بمساعدة مشاريع الصندوق القديمة المتعثرة. بمعنى آخر: “إذا أردت مالاً من الصندوق، فعليك أن تُعيد جزءاً كبيراً منه للاستثمار داخل مشاريع تملكها “السعودية” نفسها”. وأعطت الصحيفة مثالاً على صفقة كان الصندوق يريد فيها الحصول على أكثر من ضعف ما سينفقه عبر إعادة توجيه الأموال نحو شركات سعودية خاصة. بل إن الشركة المنظمة للمؤتمر، التي يملك الصندوق أغلبية أسهمها، حاولت بيع نفسها بحثاً عن سيولة، لكن دون نجاح، ما دفع الصندوق للتفكير بطرحها في البورصة المحلية، التي يسيطر هو نفسه عليها. التقرير يرسم صورة شديدة الوضوح: محمد بن سلمان يريد أن يُظهر للعالم أن “السعودية” تتحول إلى قوة اقتصادية حديثة، لكن الأدوات التي يعتمد عليها، خصوصاً صندوق الاستثمارات العامة، تبدو مثقلة بالأعباء أكثر من أي وقت مضى. المشاريع الضخمة التي أصبحت عنوان “رؤية 2030” تتحول من طموح اقتصادي إلى مراكز استنزاف مالي. كما أن السيولة المتاحة أقل بكثير مما يُعلن، والمستثمرون الأجانب باتوا يسمعون شروطاً مربكة قبل التوقيع على أي اتفاق جديد. حتى مؤتمر “دافوس الصحراء”، رمز القوة المالية، صار بدوره يبحث عن مشترٍ من أجل الحصول على سيولة. ورغم أن الصندوق لا يزال يملك أصولاً ضخمة، فإن غياب القدرة على تحويل تلك الأصول إلى نقد سريع، إضافة إلى تعثر المشاريع الكبرى، يعني أن مسار ابن سلمان الاقتصادي يواجه منعطفاً خطيراً. بينما يُظهر ولي العهد للعالم قوة مالية عملاقة، تكشف التفاصيل عن أزمة سيولة، مشاريع متعثرة، إنفاق غير محسوب، وإعادة هيكلة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي النهاية، تبدو الوعود المتكررة التي يطلقها ابن سلمان في واشنطن مجرد واجهة إعلامية تخفي واقعاً شديد التعقيد، يجعل مستقبل صندوق الاستثمارات العامة -وقبل ذلك مستقبل رؤية ابن سلمان- أقرب إلى سؤال مفتوح منه إلى مشروع اقتصادي مستقر.