الدور السعودي في لبنان بين التوظيف الجيوسياسي والتحريض على المقاومة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1318
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

منذ إعلان وقف إطلاق النار بين الكيان الاسرائيلي ولبنان في 27 نوفمبر 2024، وسقوط النظام السوري في 8 ديسمبر من العام ذاته، دخل النظام السعودي على خط التوازنات اللبنانية ـ السورية بصورة غير مسبوقة من حيث السرعة والكثافة. لم تكتفِ الرياض بتفعيل حضور سفيرها في بيروت، وليد البخاري، بل أوفدت مبعوثًا سياسيًا رفيع المستوى هو الأمير يزيد بن فرحان، في خطوة عكست رغبة في الإمساك المباشر بملف لبنان، وفرض معادلات سياسية وأمنية جديدة في مرحلة ما بعد الحرب. وجاءت التحركات السعودية على خلفية متغيرين مفصليين: أولًا، وقف الحرب في لبنان في 27 نوفمبر 2024، والذي بدا ـ من وجهة النظر السعودية ـ لحظة مواتية لإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني، بعد أن أعاد وقف النار خلط الأوراق الداخلية. ثانيًا، سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، والذي مثّل ضربة قاسية لمحور المقاومة، وفتح الباب واسعًا أمام اللاعبين الإقليميين لمحاولة ملء الفراغ الجيوسياسي في الشام. هذه اللحظة الفارقة دفعت الرياض للتحرك الفوري باتجاه بيروت ودمشق على السواء، محثوثة بطموح لاستعادة دورها في المشرق العربي، لا سيما بعد سنوات من التراجع والانكفاء نتيجة الإخفاقات المتتالية في اليمن وسوريا ولبنان. البخاري – إبن فرحان: إدارة مزدوجة أم أزمة ثقة؟ اللافت في الحضور السعودي في لبنان هو ازدواج التمثيل السياسي: بين السفير وليد البخاري والمبعوث الأمير يزيد بن فرحان، وهو ما يثير تساؤلات حول مغزى هذا الحضور المزدوج، وعمّا إذا كان يعكس أزمة ثقة في الحلفاء المحليين، أو تراجعًا في الرهان على الأدوات القديمة لمصلحة إدارة مباشرة للملف اللبناني. فالبخاري يمثّل الخط التقليدي الذي عرفته بيروت منذ سنوات، لكنه لم ينجح ـ بحسب التقديرات السعودية ـ في تحقيق اختراق حقيقي في المعادلة اللبنانية المعقدة.أما إبن فرحان، الحاصل على بكالريوس في إدارة الأعمال من جامعة الملك سعود والذي يعمل كمستشار لوزير الخارجية السعودي للشؤون اللبنانية، وهو المبعوث الرسمي للسعودية في الملف اللبناني فدوره يتجاوز الدبلوماسية وينسحب إلى الأمن والاستراتيجيا. وقد بدأ ظهور إبن فرحان العلني في 3 يناير 2025 عند وصوله إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت كقائد وفد سعودي، وقد أُوكلت إليه مهمّة ذات طابع تنفيذي سياسي، تشمل التفاوض المباشر مع القوى الفاعلة، بل وطرح أسماء لشغل مناصب مفصلية مثل رئاستي الجمهورية والحكومة. وعلى نحو إجمالي، لعب ابن فرحان دورًا محوريًا في إدارة التغيّرات السياسية على الساحة اللبنانية، وعمل على ملء الفراغ في منصب الرئاسة في لبنان، وساهم في تعزيز فرص وصول الجنرال جوزيف عون إلى قصر بعبدا، الذي تمّ انتخابه في 9 يناير 2025 كرئيس للجمهورية بعد فراغ دام عامين تقريبًا. ثم قاد ابن فرحان انقلابًا على اتفاق سابق بين القوى السياسية على إعادة تنصيب نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة، إذ أفشل الاتفاق بتحريض فريق من اللبنانيين بقيادة النائب فؤاد مخزومي بهدف تنصيب نواف سلام لرئاسة الحكومة، وكان لا يزال الأخير يعمل كقاض في محكمة العدل الدولية حتى فبراير 2024، أي حتى انتخابه رئيسًا للحكومة. وكان هذا أول انقلاب يقوده يزيد بن فرحان على التوافق اللبناني الداخلي. قام ابن فرحان بعدة زيارات غير معلنة إلى بيروت، والتقى برئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس البرلمان نبيه بري، وكانت آخر زياراته في 2 يوليو 2025، واستمرت عدة أيام بهدف التنسيق مع المبعوث الأمريكي توم باراك بشأن رد لبنان على مطلب تسليم سلاح حزب الله. وبحث في شروط رفع الحظر المفروض على السياحة اللبنانية إلى السعودية والصادرات اللبنانية وإعادة الاعمار، وربطها بنزع السلاح، وهو ما لم يطلبه الأميركي أو حتى الاسرائيلي. في حقيقة الأمر، ومنذ اتفاق وقف اطلاق النار، كان ابن فرحان يتحرك نيابة عن نظام آل سعود من أجل طرح موضوع نزع سلاح المقاومة على الطاولة وجعله القضية المحورية التي يجب العمل عليها، عبر التشديد على ضرورة استعادة الدولة لسلطتها الحصرية في حمل السلاح، بما في ذلك مناقشة ترسانة حزب الله وحدود الدولة اللبنانية. في السياق الدبلوماسي، تشي زيارات ابن فرحان جنبًا إلى جنب السفير البخاري، بعودة نشطة للسياسة السعودية تجاه لبنان بعد فترة من التباعد، بالتوازي مع توافق سعودي – أمريكي حول مستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بترسانة حزب الله ومواجهة نفوذ ايران ومحور المقاومة. في النتائج، يمثل ابن فرحان رمزًا للدور المتزايد للنظام السعودي في لبنان، واضعًا حصرية السلاح ونزعه شرطًا لأي دعم خارجي. ولذلك، يواصل التنسيق مع كبار القادة اللبنانيين والدوليين، واستغلال النفوذ السعودي المالي والسياسي لفرض واقع على لبنان وإن أدى الى انفجار الوضع الداخلي والانزلاق نحو حرب أهلية، أو حتى عودة الحرب الاسرائيلية على لبنان. يعمل ابن فرحان غالبًا من وراء الكواليس، وارتبط اسمه بتحركات ديبلوماسية مشتركة مع المبعوث الأمريكي الأسبق آموس هوكشتاين في مناقشة مستقبل لبنان، وتنسيق السياسات مع الدولة السعودية والولايات المتحدة، وواصل العمل مع المبعوثين الاميركيين اللاحقين مثل مورغان أورتاغوس وتاليًا توم باراك، ويحتفظ الأخير بعلاقة وثيقة مع حكام الرياض وابو ظبي وله معهم مصالح تجارية ومالية كبيرة. في زياراته المتكررة إلى لبنان خلال الأشهر الأولى من 2025، ركز ابن فرحان في اللقاءات على موضوع احتكار الدولة للسلاح، وضرورة ضبط ترسانة حزب الله ضمن شعار مضلل “استعادة الدولة سلطتها وحدودها السيادية”. عمله السري وتصرفاته بعيدًا عن الإعلام ترتبط بتحفظات دبلوماسية تزيد مستوى التعقيد، خاصة في ملف حساس مثل السلاح والعلاقات مع القوى السياسية المحلية واللعب على التناقضات الداخلية. في لقاءاته المتكررة مع المسؤولين اللبنانيين، كانت الأجواء يسودها عدم الارتياح، حيث كان ابن فرحان يتصرف بطريقة استعلائية، ويفرض نفسه كوصي على لبنان ويعتمد في أحاديثه مع المسؤولين اللبنانيين منطق الاملاءات، وكاد أن يتسبب في مشكلة ذات لقاء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وقد جاء مهدّدًا ومتوعدًا، وهي اللهجة ذاتها التي كان يستعملها مع الحلفاء مثل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وقادة الأحزاب المحسوبة سابقًا على فريق 14 آذار. ابن فرحان، إلى جانب كونه أميرًا من آل سعود، فهو أيضًا مقرّب من وزير الخارجية فيصل بن فرحان وكان يشارك معه في لقاءات عالية المستوى مع المبعوثين الاميركيين، الذي يُظهر قربه من دائرة القرار السياسي في الرياض. وهنا نعود الى الثنائية السعودية على الساحة اللبنانية، والتي تتقاسم مع ثنائية أميركية مماثلة، وكأننا أمام آلية جديدة سعودية وأميركية في التعامل مع الملف اللبناني يتوزعها السفير والمبعوث الخاص، ولكن قد ينطوي هذا التوزيع على رسالة ضمنية وهي أن السعودية قررت أن تدير الملف بنفسها، دون الاكتفاء بتنسيق تقليدي، وهو ما يعكس تحوّلًا في الاستراتيجية السعودية تجاه لبنان، من الرهان على الحلفاء إلى الإمساك المباشر بمفاصل السلطة. السعودية والمقاومة.. من العزل السياسي إلى نزع السلاح إحدى الإشارات الخطيرة التي ترافقت مع الحضور السعودي المكثف، تمثلت في التحريض المباشر ضد حزب الله، ومحاولة بناء اصطفاف سياسي داخلي يسعى إلى: ـ الترويج لسردية تحميل المقاومة مسؤولية الانهيار الاقتصادي. ـ ربط بقاء السلاح بخطر دائم على الأمن اللبناني. ـ التهويل بإمكانية شنّ حرب إسرائيلية جديدة إذا لم تُسلّم المقاومة سلاحها. ويبدو أن هذا المسار لا ينفصل عن تفاهمات إقليمية – دولية، تنظر إلى أي تسوية طويلة الأمد في المنطقة مشروطة بتحجيم دور الفاعلين غير الدولتيين، وعلى رأسهم حزب الله. نزع السلاح والتطبيع من المستحيل فصل دعوات نزع سلاح حزب الله، سواء أطلقتها الرياض أو واشنطن أو باريس، عن المسار المتصاعد للتطبيع بين النظام السعودي والكيان الاسرائيلي. فوجود فصائل مسلحة ذات طابع مقاوم يشكل عقبة هيكلية أمام مشروع التطبيع، سواء في لبنان أو في فلسطين أو في المنطقة عمومًا. بالنسبة إلى الرياض، فإن أي اتفاق مع الكيان الاسرائيلي سيبقى هشًا ومفتوحًا على تهديد دائم طالما بقيت المقاومة اللبنانية والفلسطينية بل والمقاومة عمومًا تحتفظ بقدرتها على الردع. ولذلك، يسعى النظام السعودي إلى تهيئة البيئة السياسية والأمنية في لبنان بما يسهّل عليها الدخول في عملية تطبيع أكثر سلاسة، دون التعرّض لابتزاز داخلي أو لتهديد خارجي من فصائل المقاومة. هل تذهب السعودية إلى التصادم مع الثنائي الشيعي؟ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل تعتزم الرياض الدخول في صدام مباشر مع الثنائي الشيعي (حزب الله – حركة أمل)؟ أم أن ما نشهده هو فقط مرحلة “إدارة الاشتباك السياسي” دون التورط في مغامرة صدامية مفتوحة؟ المعطيات تشير إلى أن السعودية، رغم لهجتها التحريضية، لا تزال تحاول التموضع داخل إطار سياسي مرن، يتجنب المواجهة المباشرة، ويستعيض عنها بأدوات الضغط السياسي، المالي، والدبلوماسي، بما في ذلك التهديد غير المباشر بالحرب الإسرائيلية، دون المجازفة بتحمّل مسؤولية تداعياتها. وإن القراءة المتأنية للحضور السعودي الراهن في لبنان تشير إلى محاولة استعادة دور وظيفي قديم بصيغة جديدة. لكن المعضلة أن الظروف الحالية – محليًا وإقليميًا – ليست نفسها تلك التي سادت مطلع الألفية، حين كانت السعودية تمسك بالقرار السنّي في لبنان وتحظى بغطاء أميركي – فرنسي موحد. اليوم، تواجه الرياض واقعًا داخليًا لبنانيًا مأزومًا، وتحولات إقليمية غير مكتملة، وبيئة دولية متغيرة، وكل ذلك قد يجعل مشروعها عرضة للارتباك أو الفشل، ما لم تقرأ جيدًا حدود التأثير المسموح، وهشاشة أدواتها المحلية، وتماسك المعسكر المقابل.ولعل السؤال الأهم الذي يلوح في الأفق: هل يمكن للسعودية أن تغيّر قواعد اللعبة في لبنان؟ أم أن بيروت ستبقى ساحة مقاومة لكل محاولات الترويض، سواء أتت من الغرب، أو من بوابة الأشقاء؟ وفي الأخير، إن الدفع نحو مغامرة عسكرية اسرائيلية ضد لبنان لن تكون قرارًا اسرائيليًا ولا حتى أميركيًا، بل سوف تكون السعودية ضالعة بصورة مباشرة سواء بالتحريض أو التآمر وهي سوف تدفع فاتورة الحرب، ولكن النتائج هذه المرة قد لا تكون لمصلحتها كما كانت تكشف الحسابات النهائية..