أبناء القطيف والأحساء.. شهداء على طريق القدس
ليس كلنا عرف الشهيد عمران.. لكن كلماته لامست قلوبنا جميعًا.. عاطفته على ابنتيه، ورسائله لابنته مريم، أبكتنا وهمست في وجداننا أنهم هنا كانوا بيننا.. مجهولون في الأرض، معروفون في السماء. عمران كريم، اسم انتشر على مدار الأيام الماضية.. عشرات من أحبة وأصدقاء عمران نعوه عبر رسائلهم.. هو الشاب المحب لعائلته، المحبوب لكل من تعرّف إليه.. حسن الخلق وصاحب البصمة أينما حلّ.. لكننا لم نعرف عمران إلا عندما فقدناه.. ولعل حقه علينا أن نذكره بما أحب.. ولعل أول ما نقوم به، هو أن نذكره باسمه الكامل: عمران أحمد المغسل، ونذكره بالوسام الذي ناله مع استشهاده: أول شهيد من الحجاز على طريق القدس. عمران أحد السعداء الثلاثة الذين استشهدوا على طريق تحرير القدس ومواجهة الاحتلال منذ التسعينات، ليسطروا بدمائهم “وحدة الدم والشهادة” مع كل مقاوم شريف مدافع عن قضايا الأمة المحقّة. “لكن مريم هي التي انتشلتني من الموت واليأس و الضياع، هي رفيقتي وحبيبتي وملجئي في فرحي وحزني، هي حرفيا كل دنياي.. أنا مدين لك يا مريم.. أنت لست مجرد ابنتي..” ستكبرين يا مريم، وتقرأين وصايا تركها أباك لك.. ستكبرين ويكبر حبه لك في قلبه.. وستعلمين أنك وفاطمة بضعتاه التي كان يتنفس بهما ولهما”! جُبل أبناء الحجاز بالدفاع عن الحق ونصرته، ومقارعة الظالم ورفض الباطل، فوقفوا بوجه الطغيان ولم تأخذهم في الله لومة لائم. وتحملوا ضريبة هذا الموقف، من ظلم جائر مورس على أبناء هذه الأرض كثمن لتمسكهم بدينهم ومبادئهم ودفاعهم عن هويتهم وتراثهم، وتحملوا المصاعب والاستهداف والسجن والقتل والنفي القسري عن الأحبة والأهل. الشاب عبد اللطيف القطان.. أول الملتحقين بركب الشهداء الشهيد عبد اللطيف القطان “أبو جعفر البدري”، من أبناء القلعة حي الوارش في القطيف. من مواليد عام 1968، غير متزوج. استشهد في مواجهة مع العدو الصهيوني جنوبي لبنان، بتاريخ 2 يوليو 1991 الموافق للثاني من ذي الحجة من العام 1411 وهو في الثالثة والعشرين من عمره. من بيئة مناصرة للحق، كانت نشأة القطان، في حي الوارش بالقطيف، لأسرة مستضعفة جُبلت بالدين والأخلاق وحب أهل البيت، فكانت تربيته حسينية كربلائية، كان نتاجها رفض الظلم والاستضعاف والحصار المُمارس على شعب الجزيرة والحجاز في أرضهم. ثم جاءت الثورة الإسلامية في إيران، فأحيت في النفوس نصرة المظلومين وحددت البوصلة إلى فلسطين. أيقظت الثورة الإسلامية في قلوب الثائرين شعلة الجهاد في سبيل الله، ومن بينهم الشاب القطان الذي كان في طليعة الشباب الحسيني المحيي لسيرة أهل البيت والمتمسك بالشعائر الحسينية. وقد شهدت حوادث على ذلك، إحداها عندما حاول النظام السعودي منع الخروج في أحد مواكب العزاء، ولكن الشهيد أبى إلا أن يخرج إحياء للشعائر وتمسكا بها، ليواجه سجنًا لمدة 17 يومًا. وفي حادثة أخرى، اعترض الشهيد بسيارته مجموعة السيارات التابعة للاستخبارات السعودية التي كانت تعمل على تعقب أحد المواكب الحسينية للتعرف على المشاركين فيها، وقد تعرّض نتيجة لذلك للملاحقة وقبض عليه. التحق الشهيد بالحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة للتزود بالعلوم الدينية، وبعد عودته لم تطل إقامته، إذ انتقل إلى لبنان وانضم إلى صفوف المقاومة الإسلامية. عُرف عن الشهيد اقدامه على الجهاد والتضحية في سبيل الله، وهو ما جعله يتميز في الأعمال الجهادية ضد العدو الصهيونية إبان احتلال لبنان عام 1982. عمل الشهيد مع طلائع المقاومة اللبنانية جنبًا إلى جنب ضد الاحتلال الإسرائيلي. شارك في الأعمال الجهادية التي أثبت فيها جدارته وأدت إلى نيله ثقة المسؤولين، ليلمع اسمه بين المجاهدين ويتم اختياره عضوًا في إحدى المجموعات القتالية التي كان لها شرف مواجهة الاحتلال. هاجر عبداللطيف الوطن والأحبة وقلبه يخفق بعشق المسيرة الكربلائية، ويرجو لقاء الله على طريق الفناء بحب الحسين عليه السلام، وكان له ما تمنى، ليشارك في عملية نوعية ضد دورية إسرائيلية في منطقة بئر كلّاب جنوبي لبنان. اصطدمت القوة بكمين لقوات الاحتلال فأطلق العدو النيران باتجاه المجاهدين فأوقع بينهم جريحًا. فتقدم الشهيد القطان بخطى ثابتة مصوبًا النار نحو عناصر الكمين، ليصاب إثر ذلك بجراح ويستمر في إطلاق النار، حتى استشهد متأثرًا بجراحه، وكان بذلك أول شهيد من أهالي القطيف شرق شبه الجزيرة العربية يسقط على أرض الجنوب مع المقاومة الإسلامية في مواجهة الصهاينة المحتلين. أقيم للشهيد تشييع مهيب وأمّ الصلاة عليه الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله، حيث ووري الثرى في رحاب روضة الشهداء بالرادوف، إلى جانب ثلة من المجاهدين والاستشهاديين، أبرزهم الاستشهادي هيثم دبوق. ومما قاله السيد الشهيد في رثائه: “هذا الشهيد من أرض الحجاز جاء ليشارك إخوانه في الجهاد لعله يحصل على فرصة الاستشهاد العزيزة وكان له ما تمنى، غادر أرضه وأهله وشعبه وأحباءه وأعزاءه وجاء إلى حيث المقاومة ومجاهديها.. ليلتحق بهم ويتعلم في مدرستهم فكان تلميذاً لا كالتلامذة فإذا به يستبق الخطى إلى لقاء أبي عبدالله عليه السلام ويحصل على هذا اللقاء المبارك الكبير وبهذه السرعة المذهلة التي فاتت الكثيرين من مجاهدينا”. خاص لقطات خاصة من تشييع الشهيد عبداللطيف القطان والصلاة عليه من قبل الأمين العام وكلمة سماحته ولحظة الأعلان ان الشهيد من أهل الحجاز#شهداء #شهداء_الحجاز #شهداء_بئر_كلاب #شهداء_القطيف #شهداء_البحرين #شهداء_لبنان #شهداء_على_طريق_القدس #القطيف #الأحساء #المنطقة_الشرقية #العوامية… pic.twitter.com/bTzSkKgzkU — قناة أحرار (@ahrarcentre) July 1, 2024 الشاب مهدي المؤمن.. مقارع للظلم، مناصر للمظلومين الشهيد مهدي حمزة المؤمن “أبو حمزة الحجازي”، من أبناء الأحساء، غير متزوج، ولد بتاريخ 20 أغسطس 1975 واستشهد بتاريخ 21 سبتمبر 1992، وكان يبلغ من العمر 17 عامًا. عاش يتيم الأب، وكان وحيدا بين أخواته البنات. عُرف عنه أنه كان شاب ذكي وطموح، وقد هاجر مع أسرته من الأحساء إلى الدمام ودرس في المدارس الحكومية حتى المرحلة الثانوية. منذ بداياته، تميز في إيمانه وإقدامه على المشاركة في الأنشطة والفعاليات الدينية المختلفة التي كانت تقام في الدمام وسيهات. وهكذا كانت تربية المؤمن، الذي التحق بركب المجاهدين في لبنان بعدما أبدى استعداده وإقدامه على التضحية والجهاد، حتى أصيب بجرح بليغ في الرأس في سبتمبر 1992، لينقل على إثرها إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث بقي هناك أياما في العناية المركزة. وقد كتب وهو على فراش المرض لزواره “لا تقلقوا فنحن مستعدون للشهادة”، لتفيض روحه الطاهرة ملتحقًا بركب الشهداء، ويوارى الثرى في روضة الرادوف إلى جانب من قضوا نحبهم قبله. الدكتور عمران كريم.. شهيد على طريق القدس استشهد الشاب الدكتور عمران المغسّل يوم الجمعة 8 نوفمبر 2024 إثر غارة صهيونية في جنوب لبنان. والشهيد هو ابن القيادي البارز أحمد المغسل (أبو عمران) المعتقل في سجون النظام السعودي منذ العام 2015 بعد اختطافه من لبنان خلافاً للأصول القانونية والأخلاقية ومعاهدات حقوق الإنسان. وهو ابن القطيف شرق الجزيرة العربية. ولد الشهيد عمران من رحم المعاناة، وتربّى على رفض الظلم، وكبر على مناصرة المظلوم ومواجهة الظالم.. عمران هو ابن بيئة مقاومة قدمت الشهداء ولم تبخل بهم.. وابن عائلة جهادية عُرفت بمواقفها التي سطرتها على مرّ التاريخ. كانت هذه آخر كلماتك يا عمران.. رحلت على بصيرة، عارفًا بحجم المعركة التي تخوضها، مدافعًا عن لبنان وغزة، مقارعًا العدو الصهيوني.. ومستشهدًا على أرض عامل الأبية، وقد قلت “لا أرى في هذا الطريق إلا جمالًا” وقيل عنك “عندما يسير الرجال نحو القدس، فإنهم لا يعرفون سوى الانتصار، حتى لو كانت خطواتهم الأخيرة على الأرض. هم ذهبوا لكن أرواحهم ستظل تروي حكاية النصر القادم.” والد الشهيد عمران، الحاج أحمد المغسل كان نموذجًا لمقارعة الظلم والطغيان والجهر بالحق مهما كان الثمن، ومن بين مواقفه الخالدة، كلماتها الشهيرة في حفل تأبين الشهيد عبداللطيف القطان عام 1991، وحديث المغسّل عن شجاعة الشهيد وخيانة حكام العرب للقضية الفلسطينية، وقوله: “انطلق الشهيد في الوقت الذي خان فيه جميع الحكام العرب قد خانوا فلسطين والشعب الفلسطيني”. وقد اجتمع الوالد وابنه على حب فلسطين ونصرتها، حتى قدم عمران حياته شهيدا على طريق القدس، أثناء اسعافه الجرحى جنوب لبنان. ???? ألقى المعتقل المغيب أحمد المغسل كلمة في حفل تأبين الشهيد عبداللطيف القطان من أبناء #القطيف الذي استشهد أثناء تصديه للعدوان الصهيوني عام 1991. تحدث المغسل عن شجاعة الشهيد وعن خيانة حكام العرب للقضية الفلسطينية..#طوفان_الأقصى#طوفان_القدس pic.twitter.com/rdFMh35SlL — ناشط قطيفي (@nashetqatifi) October 14, 2023 وعائلة المغسل من العوائل الأبية في مقارعة الظلم، وقد كان عمران فخورًا بهم، سائرًا على نهجهم، فعمه الشاعر المناضل فاضل المغسل الذي عُرف بشعره الثوري الملتزم الداعم للمقاومة، وبقصائده المدافعة عن قضايا الأمة والمستضعفين والمظلومين، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، كما أنه عرف بدوره الاجتماعي فكان من المؤسسين للحراك الديني والثقافي في بلدته وجوارها. اعتقلته السعودية بعدما هاجمت إحدى المدراس الحكومية التي يعمل فيها، وحكمت عليه بالسجن لمدة 28 عامًا على خلفية قصيدة امتدح فيها حزب الله وندد بالاحتلال الصهيوني! ومن أشهر قصائده: زلزلهم يا حزب الله ودقّ حصون عدوانك لا ترحم مواقعهم خلهم تحت نيرانك ميركافاتهم دمّر وارفع شرف لبنانك خل زنادك يرتّل آية عز بألحانك واصنع معجزات المجد لا ينهد بنيانك لأجل اذلال إسرائيل اشمخ فوق وديانك حطّم كل مطامعهم وانسفهم ببرهانك لا تأخذك رحمة بهم روّعهم بإيمانك الله يمدك بنصره ويسري بدم شريانك هب براية المهدي وخلها بين أجفانك زلزلهم يا حزب الله وكذلك اعتقل النظام السعودي عم الشهيد عمران الشاب موسى عام 2019 على خلفية المشاركة في الحراك المطلبي السلمي بالقطيف، وكل من عمه الدكتور عبدالله وحيدر اللذين اعتقلا العام الماضي بتهم ذات خلفيات سياسية. وتقول عائلة الشهيد عمران، إنه كان بإمكانه السفر خارج لبنان والبقاء بأمان، وهو قد كان في زيارة سريعة لقم، لكنه رفض البقاء وكان حريصًا على العودة سريعًا لاستكمال واجبه. يتحدث أصدقاء الشهيد عمران لـ”مرآة الجزيرة” عنه، بكثير من ألم الفراق، والغبطة للشهيد لنيله ما تمناه. “عمران كان نموذج الشاب المؤمن، المتعلم، الخلوق، الكاد على عياله، والمحب لهم”، يقول أحد أصدقائه. فيما يضيف آخر: “أن الشهادة لا تليق إلا بمثل عمران، وهو الذي وضع هدفه خدمة الإسلام منذ نشأته، وتعلق بالحسين عليه السلام فكان من المناصرين له، وهو الذي كان يقول “لبيك يا حسين يعني أن نتعالى على كل جرح رغم كل التضحيات المسددة بيد الله وتحت عينه”. ضجت المواقع الإخبارية بخبر استشهاد الدكتور عمران “كأول سعودي” على طريق القدس، لكن هوية عمران “القطيفية” واضحة، كما هوية آبائه وأبناء أرضه.. وبوصلتهم منذ وجد التاريخ جلية: مقارعة الاحتلال ورفض الظلم. وهو شعار ليس مرحليًا، بل هوية يؤمنون ويتمسكون بها، ويجددونها مع كل جيل جديد.. وإن كانت بوصلة آل سعود قامت على انقاض وأد الهويات الأصيلة في شبه الجزيرة العربية والحجاز وإعلاء الراية النجدية الوهابية، ومصافحة العدو بل وإعلان السلام معه، فإن هذه الهوية هجينة على أبناء الأرض الحقيقيين، لأن بوصلتهم كانت وستظل: فلسطين.