مخاوف “السعودية” من حرب إقليمية لا تلغي طمعها في أذية طهران
رغم “الحقد” الدفين لآل سعود تجاه الحكم الإيراني الذي حكم بلاد فارس بعد الثورة الإسلامية بقيادة الامام الراحيل روح الله الخميني، ورغم اعتلاء هذه الأخيرة لائحة أعداء مشروع الكيان السعودي، إلا أن القراءات والوقائع كلها تشير اليوم إلى أن “السعودية” فعلا تتجنب نشوب حرب إقليمية لطالما كانت تتطوق لها طمعا في إضعاف الجمهورية الإسلامية في إيران التي تنظر إليها على أنها ندّها الأول والأخير على صعيد المنطقة والعالم. المبرر الأول لهذا التخوف أو التجنب في نشوب حرب يعود مردّه إلى تنامي فكرة “السعودية أولاً” في ذهنية الطاقم الحالي الحاكم في شبه الجزيرة العربية. فمع تراكم فشل فكر الحكم الماضي، سواء من استغلال الفكر الوهابي في انتزاع الحكم في سوريا المساند لمحور المقاومة، أم الفشل في انتزاع الفكر المعادي للمشروع الأميركي- الصهيوني في اليمن، وغيرها الكثير من الرهانات الفاشلة، يبدو أن محمد بن سلمان أتى مقدّما نموذجا آخر كضمانة للأميركان بأحقية تولّيه “الملك” في البلاد. فكان رهانه وضمانته للأميركان بتحويل وجه “السعودية” من وهابي مندفع للقتال والحروب؛ إلى مقامر في مقدّسات ومقدرات البلاد والعباد. الحياد الهش: موقف عدم يقين سعودي تقارب “السعودية” مؤخرا –نسبيا- من إيران ومن الصين وعدم قدرتها على إظهار الولاء التام والكامل للمشروع الأميركي، وضعها في موقف الحياد الهش. وهذا الحياد يؤذيها في مكان من الاماكن لانها لا فرصة لديها من ذمّ أحد طرفي المعركة بشكل قاس ولا تأييد آخر. رغم أن الأكيد أن مصالح أميركا في المنطقة هي الأولوية لها، لكن خذلان أميركا بعد قصف “أنصار الله” منشآت أرامكو، إلى جانب التوعد الأميركي بجعل “السعودية دولة منبوذة عالميا” على خلفية قتل جمال خاشقجي، جعل “السعوديين” يرجعون خطوة للخلف في ولائهم المطلق للغرب ويخطون خطوة للأمام في هدنة مع إيران. إذن فإن عوامل مشهدية “الحياد” الذي تبدو عليها “السعودية” مردّها لعوامل خارجية وداخلية على حد سواء. محاولتها تقديم “صورة” مغايرة عن نفسها والتركيز أكثر على الداخل من ناحية، والتقارب المحدود من محور الشرق من ناحية أخرى. مفرزات هذا الأمر، ظهر في الإدانات المنطلقة من منظور قانوني حصرا للاعتداءات الإسرائيلية على مصالح إيران. فبُعيد مهاجمة “إسرائيل” السفارة الإيرانية في دمشق أدانت وزارة الخارجية “السعودية” الاعتداء على مصالح إيران، وكذلك بعيد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية خلال تواجده في طهران خلال حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. المشترك في الإدانتين، إلى جانب عنصر الإدانة القانوينة وليس السياسية، هو لهجة التنديد في الحالتين تحمل معها “دعوة لضبط النفس لعدم الإنجرار إلى حرب واسعة”، بما في ذلك منتوجه إلى المعتدى عليه (إيران) بعدم الرد بما يوجب حربا. وكأن بيانات الإدانة هذه هدفها ليس إدانة العدو على فعلته بقدر منع إيران من جر الأمور إلى حرب أوسع، رغم أن الفعل الإسرائيلي هو المبتدئ دائما. صكوك براءة قدمتها الرياض لحلفائها ولكن قبالة كل هذا، وكل صكوك الحياد التي قدمتها “السعودية”، وصمة عار العمالة لم تُمحى عن جبينها. وقبل التذكير بكل ما وصم جبينها بالعار منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، تحدثت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العربية مؤخرا عن”مناورات جوية مشتركة شاركت فيها “المملكة العربية السعودية فوق الأردن إلى جانب القوات الجوية الإسرائيلية”. ووفقا للصحيفة فقد “تضمنت هذه المناورات اتصالات بين مقر قوات الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب وقاعدة جوية في الرياض. حتى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قام بزيارة سرية إلى المملكة العربية السعودية، على الرغم من الكشف عنها فقط بعد عودته إلى تل أبيب”. ما أتت به هذه المعلومات الحديثة هو أن التعاون “السعودي” مع كيان الاحتلال لا ينطبق حصراً عند لزوم الحاجة إلى ذلك، بل هي عملية تُحاك بهدوء وعلى مراحل. إلى جانب ذلك سبق أن شاركت “السعودية” أيضا في صد الصواريخ المنطلقة من إيران باتجاه الأراضي القلسطينية المحتلة على خلفية الرد الإيراني على ضرب قنصليته في دمشق. فقد كشفت صحيفة الديلي ميل البرطانية حينها أن السعودية قامت بتزويد إسرائيل بمعلومات استخباراتية حيوية حول النوايا الإيرانية حتى تتمكن إسرائيل من الاستعداد للهجوم. وفي المضمار ذاته، نقلت وول ستريت جورنال عن مسؤولين سعوديين ومصريين أنه بعد عملية اغتيال الجنرال محمد رضا زاهدي ومسارعة طهران للتعهد بالرد، بدأ كبار المسؤولين الأمريكيين في الضغط على الحكومات العربية لتبادل المعلومات الاستخبارية بشأن خطط إيران لضرب إسرائيل والمساعدة في اعتراض الطائرات بدون طيار والصواريخ التي تطلق من إيران ودول أخرى باتجاه إسرائيل. وتابعت وول ستريت جورنال في تقييمها للرد الأولي من العديد من الحكومات العربية بأنه كان حذراً، تخوفاً من أن المساعدة المقدمة لإسرائيل قد تورّطهم مباشرة في الصراع وتخاطر باحتمالية أن يكونوا في مواجهة الانتقام من طهران وما سيتلو ذلك من رد ايراني محتمل يضعهم في مهبّ الريح. وقالت الصحيفة الأميكرية أنه بعد مزيد من المحادثات مع الولايات المتحدة، قال المسؤولون إن السعودية والإمارات وافقتا بشكل خاص على تبادل المعلومات الاستخبارية، بينما قال الأردن إنه سيسمح باستخدام مجاله الجوي للطائرات الحربية الأمريكية وطائرات الدول الأخرى وسيستخدم طائراته الخاصة للمساعدة في اعتراض الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية. إلى جانب الشهادات والدلائل العديدة، سواء شهادات سياسية أم بدلائل عملية، أفادت تزوّد العديد من الطائرات الحربية الإسرائيلية بالوقود من “السعودية”. يعني أن التآمر لم يتوقف عند حد رد الهجمات على كيان الاحتلال الصهيوني بل أيضا في دعمه في حربه على غزة. تهيُّب “السعودية” من حرب إقليمية أوسع بعد إثبات موقف “السعودية” الحقيقي من الصراع، يبقى أنها واقع الأمر تتهيب من نشوب حرب واسعة تطيح بفرص تثبيت صورة “السعودية الجديدة”. إلى جانب ذلك فهي باعتبارها لاعبا رئيسياً في سوق النفط العالمية، تدرك تمام الإدراك العواقب الاقتصادية المترتبة على أي انقطاع إمدادات النفط في حالة نشوب حرب إقليمية. وتمثّل حالة تخوفها من عمليات القوات اليمنية المسلحة نموذجا. فالعمليات اليمنية التي أضرت بالملاحة الدولية نتيجة إرادة قوى الاستكبار الدولي تدويل الأزمة “الإسرائيلية”، وتحويلها من أزمة هدفها زعزعة الملاحة الإسرائيلية إلى أزمة يستشعرها أغلب دول العالم، جعلت “السعودية” تحتقر الموقف المقاوم المنطلق من صنعاء. وأما أمام هذا “الإخلاص” الذي أبداه آل سعود للمشروع الأميركي، كان لا بد للأخير أن يظهر ضمانات عسكرية لهم مكافأة وتشجيعا. فكان في هذا الإطار أن أبطلت الولايات المتحدة الأميركية الحظر الذي وضعته على بيع الأسلحة الهجومية للسعودية. وهو ما قُرأ على أنه حشد لحلفاء أميركا في المنطقة وتمكيناً لهم في أي مواجهة محتملة مقبلة، خاصة مع الرد المرتقب لإيران على خلفية اغتيال اسماعيل هنية خلال تواجده على أراضيها. حيث وُجد بإعادة استئناف بيع الأسلحة الهجومية للسعودية بأنه من شأنه أن يشجع على تجدد العدوان السعودي في المنطقة وأنه يمنح ختم الموافقة على القمع المستمر الذي تمارسه. كما أشار مراقبون إلى أن القرار يمثل “المسمار الأخير في نعش التزام إدارة بايدن الزائف بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن وعده بمحاسبة النظام السعودي على جرائمه في اليمن وبلده”. وكان أن كُشف بعيد اعلان أميركا استئناف بيع الأسلحة الهجومية للسعودية، أن قيمة ذخائر سوف ترسلها إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى “السعودية” تبلغ نحو 770 مليون دولار. بما في القرار من زيادة في قدرة القوات الجوية السعودية على تنفيذ ضربات جوية دقيقة من مقاتلاتها أمريكية الصنع، كما وسيمكن ذلك من بيع المزيد منها للبلاد في السنوات المقبلة. إلى ذلك؛ لا يمكن فصل قرار استئناف التسليح عن المشهد السياسي الذي تعيشه المنطقة، حيث لا تزال الاحتمالات مفتوحة مع عرقلة المفاوضات وتهيؤ القوى العسكرية لـ”تسونامي” مفاجئ قد تستفيق فيه جميع الصراعات النائمة، وتتسع فيه رقعة الحرب.