شرعنة الكحول في السعودية: «أما السياسة فاتركوا»

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 689
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

من زاوية الحرّيات الشخصية، يُعدّ قرار السلطات السعودية فتح أول متجر لبيع المشروبات الكحولية في الرياض، مخصّص للديبلوماسيين، إيجابياً، بمعنى أنه يزيل حاجزاً أثبتت كل التجارب أنه غير مجد، كما غيره من القرارات السابقة التي تندرج في إطار السماح للناس بممارسة سلوكياتهم وفق ما يرغبون، بعيداً عن الزجر من هيئات حكومية من مثل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» المنحلّة، والتي استُبدلت بـ«الهيئة العامة للترفيه» لصاحبها تركي آل الشيخ. والإيجابية التي نتحدّث عنها هنا لا تتأتّى من موقف شخصي من موضوع الكحول، لا سلباً ولا إيجاباً، وإنما من تساؤل عن جدوى المنع الذي لم يحصل أن نجح وكان تاماً في أيّ مكان وزمان. إذ دائماً ما كان من يرغبون في استهلاك الكحول، في السعودية أو في غيرها، منذ القدم وحتى اليوم، يجدون طريقة للحصول عليه، عن طريق التهريب أو الصناعات اليدوية المحلية، ولو بأسعار أعلى، وربما بنوعية أكثر رداءة، وفي بعض الحالات، أكثر خطورة.هكذا، ثبت أن الدولة لا يمكن أن تكون أباً يراقب السلوك اليومي لأولاده، ما دام يحصل تحت سقف قوانين وأعراف يتوافق عليها معظم البشر؛ والدولة التي تحاول أن تفعل ذلك، تخسر. وبإمكانها أن تؤطر قانونياً أعرافاً وتقاليد يتواضع عليها معظم مواطنيها نتيجة عادات نشأوا عليها. إذ لا يمكن مثلاً للسعودية ولا لأيّ دولة عربية أو أيّ دولة أخرى محافظة، أن تبيح قانوناً، زواج المثليين، ليس فقط لأنه محرّم دينياً، وإنما في الأساس لأن هناك توافقاً اجتماعياً طاغياً على رفض مثل هذا الأمر. لكن المشكلة في ما يحصل في السعودية اليوم، أن الانفتاح المجتمعي، وهو مريح بالفعل لفئات واسعة من المواطنين، ولا سيما الشباب منهم، منبعه ليس الحرص على توسيع دائرة حرّيات المواطنين وراحتهم، بقدر ما هو الرغبة في فتح مصارف للاحتقانات الناجمة عن الكبت في كل مناحي حياة المواطنين، وعلى رأسها المنحى السياسي، الذي على العكس من باقي أوجه الحرّيات، تتشدّد المملكة، تحت قيادة محمد بن سلمان، فيه، أكثر من أيّ وقت مضى على المملكة في كل تاريخها. وربما تكون الانفتاحات الاجتماعية في جانب منها، تعويضاً عن هذا التشدّد السياسي.
المرام بالفعل من إباحة الكحول، هو بالضبط إبعاد الناس عن المطالبة بحرّيات سياسية. فالحصول على الكحول في المملكة لم يكن يوماً مستحيلاً، والعقوبات التي كانت توقَّع على المخالفين، كانت من الاعتدال بحيث يمكن المخاطرة بالوقوع في محظورها. أما ما لا يمكن المخاطرة بالوقوع تحت عقوبته، فهو العمل السياسي، ليس من موقع المعارضة للنظام فحسب، وإنما أدنى من ذلك بكثير. فالمنع هنا يطاول أقل المطالب، مثل أن يكون للناس الحق في التعبير عن موقف من أحداث كتلك التي تجري في غزة اليوم، فيما ليس وارداً التساهل إزاء مطالبات من نوع إحداث تغييرات في النظام أو تغييره بالكامل.

من الواضح أن قراراً كهذا هو مقدمة لقرارات أشمل في هذا الخصوص. وهو بالقطع يندرج ضمن ربط النظام القائم - الجديد بمنظومة قِيَم مختلفة تمام الاختلاف عن منظومات القيم أيام الملوك السابقين. وفي الحالتين، أي سابقاً وحالياً، ليست منظومات القيم تلك عبارة عن مبادئ حياة يريدها هذا النظام أو ذاك، وإنما مجموعة من محدّدات سلوكية تساعد في انتظام المجتمع تحت قيادته. الفارق أن الملوك السابقين كانوا يسايرون ما يرونها قِيَماً اجتماعية متجذّرة من دون أن يؤمنوا بها. أما النظام الحالي، فيسعى إلى تغيير منظومة القيم، ويعينه في ذلك الانفتاح العالمي وزيادة الاختلاط بين شعوب من قيم مختلفة.
لكن أهم ما في الأمر هو أن النظام القائم يطمح إلى أن يؤدي القطع مع الماضي اجتماعياً، إلى تسهيل القطع سياسياً أيضاً. وهذا ليس متاحاً للرعايا الذين يُدفعون دفعاً إلى القطع اجتماعياً، ويُمنع عليهم التطور سياسياً حتى لو على مستوى التعبير، فضلاً عن المشاركة في صناعة السلطة من خلال الانتخابات، مثلاً. فتح متجر لبيع الكحول في الرياض، وما قد يليه، هو خطوة على طريق تثبيت إحدى ركائز النظام الجديد. فالمراد هو تقديم ما يجري بوصفه صيرورة تقدّم حضاري سيكون لها ما يوازيها في السياسة، على صعيد الاندماج في المنظومة الغربية للدولة بكاملها، وليس لنظامها فحسب، الذي كان في السابق متحالفاً سياسياً مع الغرب، ومنفصلاً اجتماعياً عنه. وأحد أهم العناوين لهذا الاندماج هو إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل.
العائق أمام ذلك، هو أن المجتمع السعودي، وإن كان صامتاً، وإن كان جزء منه ليس راضياً حتى بعملية التحوّل الاجتماعي، إلا أنه غير راض بغالبيته عن الجانب السياسي من عملية التحوّل، بسبب الموروث الديني والاجتماعي السائد منذ ما قبل حكام السعودية جميعهم، بقديمهم وجديدهم. وهذا هو عملياً ما يخيف ابن سلمان من الإقدام على التطبيع المجاني الذي لا تقبل إسرائيل بغيره، في ظل شلال الدم الفلسطيني في غزة. لكن ما يجري هو الذي يُطمِّع شخصاً مثل الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، في القول في دافوس إن ما يُحضّر له مع السعودية، سيكون بداية «سلام الشعوب»، خلافاً لسلام الأنظمة الذي أقيم بين تل أبيب وعدد من العواصم العربية حتى الآن.