المملكة في «عيدها» الـ92: دولة ابن سلمان السُّورياليّة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 924
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

إذا كان محمد بن سلمان سيدشّن عهد الدولة السعودية الرابعة، فإن سِمتها الأولى ستكون البطش، وركيزتها الأهمّ قوّة النفوذ الإسرائيلي في العالم، التي إذا ما امتزجت مع قوّة أموال النفط، فستُشكّل، كما يأمل وليّ العهد، ضمانة لبقائه على رأس الدولة، سنوات طوالاً، مثلما سبق أن تَوقّع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، حين قال إنه سيكون على الأميركيين التعايش مع السعودية تحت حُكم ابن سلمان، ربّما لخمسين عاماً مقبلة

تسري أحاديث في السعودية التي تحتفل اليوم بـ«العيد الوطني» الـ92، عن أن وفاة الملك سلمان ستُمثّل نهاية الدولة الثالثة التي أسّسها الملك عبد العزيز آل سعود في 15 كانون الثاني 1902، واستطراداً بداية الدولة الرابعة تحت حُكم وليّ العهد، محمد بن سلمان، إذا ما تمّ انتقال العرش إليه بسلاسة، وهو ما لا يزال الرجل غير مطمئنّ تماماً إليه، بالنظر إلى المشاكل الكثيرة التي يواجهها، ولا سيما مع أفراد الأسرة الذين ورث آباؤهم مراكز القوى عن والدهم المؤسِّس، ومع الغرب الراعي لتلك الدولة، والذي لمّا يجد بعدُ طريقة للتعامل مع الحاكم الجديد.
كلّ حُكم بحاجة إلى شرعية. كان عبد العزيز يملك شرعيّة الوراثة، ثمّ عزّزها بتوحيد الحجاز ونجد وملحقاتها وباقي أنحاء المملكة التي أُعلنت رسمياً باسمها الحالي «المملكة العربية السعودية»، وحدودها الراهنة، في 23 أيلول 1932. وجميع ذلك جرى برعاية بريطانيا، وفقاً لـ«معاهدة جدّة» المُوقَّعة بين الحكومة البريطانية والمملكة الناشئة في عام 1927، والتي ورِثتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بـ«معاهدة كوينسي» بين فرانكلين روزفلت وعبد العزيز نفسه. على أن مشكلة ابن سلمان مع الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، أنه لا يملك شرعيّة كتلك، بفعْل معارضة القسم الأكبر من الأُسرة، والذي وجد نفسه خارج السلطة تماماً، له، ما خلا بعض الذين ارتضوا أن يكونوا تحت عباءته، وحصلوا على فُتات نفوذ في المقابل. ولذا، جعل ابن سلمان يوم التأسيس في 22 شباط 1727، على يد محمد بن سعود، عيداً أساسياً، هرباً من أحقّية أعمامه وأبنائهم في الحُكم. ولأن لدى الغرب الكثير ليخسره من حُكم غير مستقرّ في المملكة التي ربح منها الكثير، واستثمر فيها الكثير، على مدى عشرات السنين، فإنه يسعى لحصْر الأضرار ما أمكن، ما دام لا يستطيع، كما يبدو إلى الآن، التخلّص من وليّ العهد.

ابن سلمان بدوره لم يستكِن، فأَخذ في «البحث عن رِزقه» في أمكنة أخرى، في روسيا والصين، وفي التفاوض لحلّ الأزمات التي كان قد افتعلها بنفسه مع دول الجوارَين القريب والبعيد، مِن مِثل إيران وقطر وتركيا والأردن وسلطنة عمان، إلّا أن الركائز الأساسية التي يقيم عليها الرجل نفوذه، تتمثّل خارجياً في إسرائيل والتأثير الذي تمارسه في العالم؛ وداخلياً في عنصرَين: الأوّل اتّباع نمط استبدادي في الحُكم في محاولة لسحق المعارضة بكلّ أطيافها، وهذه مغامرة لها عواقب؛ والثاني هو «التحديث» الذي يمثّل مغامرة أخرى، سواءً في ما يتعلّق بتغيير هويّة المجتمع نحو الانفتاح المفرط، لاجتذاب الشباب، أو ما يتّصل بمشاريع الإعمار الكبرى، بكلفتها الخيالية التي بلغت حدّاً دفَع أصواتاً حتى في إسرائيل الضنينة بنظام ابن سلمان، إلى انتقاد تلك الكلفة، أو هكذا على الأقلّ أوحى التقرير الذي نشرته صحيفة «هآرتس» أخيراً، واعتبرت فيه أن «رغبات ابن سلمان تدفعه إلى التلاعُب بأكبر اقتصاد نفطي في العالم، في مقامرة مليئة بجنون العظمة، وإذا فشلت هذه المقامرة؛ فإن مصير شاه إيران سيكون في انتظاره».
لكن وليّ العهد السعودي، إذ يتملّكه الخوف، فإن من سِماته الهروب إلى الأمام، وهو عبَرَ نقطة اللاعودة على هذا الطريق، وصار يعالج كلّ فشل أو بطء في إنجاز مشروع ضخم، بالإعلان عن مشروع أضخم، شراءً للوقت الذي لا يعمل لمصلحته، مبدّداً موارد البلد الضخمة بطريقة ارتجالية، وهي موارد غير ثابتة باعتبار أن مصدر معظمها، هو النفط، الذي تتأرجح أسعاره بين ما يحفّز على التوسّع الكبير في الإنفاق، وما يدفع إلى شدّ الأحزمة، ولكنّ الشدّ يغدو أكثر صعوبة بعد التوسّع. فحتى الأسعار الحالية للنفط، بين ثمانين وتسعين دولاراً للبرميل، ليست كافية للمشاريع التريليونية التي لا تُعرف لها جدوى، مِن مِثل مشروع مدينة «نيوم» التي كانت تكلفتها المقدَّرة في الخطّة الأصلية تبلغ 500 مليار دولار، ومن ثمّ ارتفعت بصورة جوهرية بعد تعديلات أمر بها وليّ العهد، وخاصة على المشروع الأساسي فيها، مبنى «ذا لاين» الممتدّ بطول 170 كيلومتراً وارتفاع 500 متر. فماذا لو تمّ إنجاز مدينة «نيوم»، ثمّ فشلت في لعب الدور الذي أقيمَت لأجله؟

ثمّة أسباب كثيرة للاعتقاد بصعوبة نجاح مشاريع كهذه في السعودية، أهمّها أن البطش الذي يستخدمه ابن سلمان ضدّ المعارضين، ليس عاملاً مشجّعاً لا على السياحة ولا على الاستثمار. كما أن التركيبة القبَلية للمملكة لا تسمح بأن تأخذ الحرّيات الشخصية غير السياسية، الضرورية لأيّ مركز تجاري أو مقصد سياحي، مداها، بدليل أن التسريبات عن السماح بتناول الكحول في المملكة تثير ضجيجاً مستمرّاً على وسائل التواصل الاجتماعي، كما حدث بعد نشر صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أيام، خبراً عن رسوم تخيّلية حصلت عليها، تفيد بتخصيص مكان لخدمة المشروبات الكحولية في جزيرة سندالة التابعة لـ«نيوم»، أو مثلما وقع خلال «موسم الرياض» الأخير، الذي شهد حفلات رقص مختلطة غير معتادة في المملكة تخلّلتها حوادث تحرّش جنسي وتعاطٍ للمخدّرات.
على المستوى السياسي، لا يزال ابن سلمان يعتمد تَوجّهاً هجيناً، يقوم على محاولة ابتزاز الغرب، من خلال العلاقة مع الشرق. ومع ذلك، فَلِسياسته سياق واضح يمكن تتبّعه. فلم يكن ابن سلمان ليستطيع التلاعب بالإدارة الديموقراطية في أميركا بتحالفات ظرفية مع الصين وروسيا، لو لم يكن مستنداً إلى موقف لا تُخفيه إسرائيل، ويَعتبر وجوده في السلطة مصلحة إسرائيلية خالصة. لكنّ الهدف النهائي له، يبقى قبوله في الغرب، وهو أمر لم يَعُد يسيراً، بسبب رفض الرأي العام الغربي له، كما لكلّ تاريخ الحُكم في المملكة، والذي صار يُنظَر إليه على أنه «وصْمة عار على جبين الديموقراطية الغربية». كان ابن سلمان يريد تحقيق «فتْح» بزيارة لندن خلال تشييع الملكة إليزابيث الثانية، إلّا أن الدعوة التي جاءت باسم أبيه، لا بصفته، لم تسعفه، على خلاف الدعوات التي وُجّهت إلى الدول الأخرى وحملت صفات القادة من دون أسمائهم. وقيل كذلك إن لندن طلبت منه سرّاً عدم المجيء، لكي لا يثير احتجاجات تُشوّش على الجنازة، وخاصة أن المحتجّين كانوا قد جهّزوا صور جمال خاشقجي للنزول بها إلى الشارع في حال حصول الزيارة. ثمّ جاء قرار محكمة الاستئناف الأميركية برفض منْحه حصانة رؤساء الدول، ليثُقِل أكثر على إمكان قيامه بزيارة واشنطن، حيث يواجه دعاوى كثيرة إحداها رفعتْها خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز.

ثمّة أسباب للاعتقاد بأن لإسرائيل دوراً عملانياً في حماية حُكم ابن سلمان. نظام «بيغاسوس» الذي تنتجه شركة «أن أس أو» الإسرائيلية، والذي استخدمه مُعاوِنوه للتجسّس على هواتف المعارضين بهدف اصطيادهم، لا يصل إلى السعودية أو غيرها من دون موافقة أمنية إسرائيلية، وهو الذي استُخدم في التجسّس على خاشقجي قبل اغتياله. في السياق نفسه، جاء التدخّل الإسرائيلي المباشر في الإصرار على زيارة بايدن للمملكة وتصويرها على أنها انتصار لابن سلمان، بالاستفادة من واقع أن المسؤولين الأميركيين يصبحون خلال الفترات الانتخابية، ومن بينها الانتخابات النصفية للكونغرس والتي باتت على الأبواب، أكثر انصياعاً للرغبات الإسرائيلية، على رغم أن وليّ العهد اضطرّ في المقابل إلى رفع إنتاج النفط إلى مستويات قياسية فوق الـ11 مليون برميل يومياً، ما ساهم في كبح الأسعار قليلاً.
لولا إسرائيل، لم يكن وليّ العهد السعودي ليتمكّن من تصفية مراكز القوى داخل المملكة واحداً تلو الآخر، على رغم أن تلك المراكز متجذّرة في الحُكم منذ عشرات أو حتى مئات السنين، كالمؤسّسة الوهابية، وأجنحة الأُسرة التي كان كلّ منها يحظى بعلاقات مع قبائل ممتدّة في أنحاء المملكة أو حتى الخليج، ومع أطراف غربية. فالحملة هذه تخدم تعزيز قبضة ابن سلمان على السلطة، إلّا أنها في المقابل تزيح عقبات مِن أمام التطبيع مع إسرائيل. وقد كان لبعض الاعتقالات التي شملت رجال دين خصوصاً، علاقة مباشرة بالموقف من الاحتلال الإسرائيلي، كما جرى في حالة إمام الحرم المكيّ، صالح آل طالب، الذي حكمتْه محكمة استئناف بالسجن عشر سنوات، ناقِضةً حُكم براءة من محكمة ابتدائية، بعدما انتقد تراقُص الشبّان والشابات معاً في حفلات هيئة الترفيه المختلطة، وكذلك ردّد أدعية لفلسطين وشعبها، معتبراً الإسرائيليين غاصبين ومحتلّين.

وعلى رغم أن ابن سلمان مُحاط بمجموعة من القتَلة المحترفين، إلّا أن البطش الذي يمارسه ضدّ المعارضين يتمّ بِعوْن خارجي أيضاً، في ظلّ ما أثارته المعارضة السعودية أخيراً عن دور مستمرّ لجاريد كوشنر، المعروف بعلاقته الوثيقة بإسرائيل، في رعاية هذا البطش، على رغم رحيل والد زوجته، دونالد ترامب، عن السلطة. لكن ذلك لا يزيل المخاطر من أمام الحُكم، بل يزيدها، من خلال إقفال خطوط التراجع أمام المعارضين الذين صارت حملاتهم أعلى صوتاً، كمِثل تلك التي تحتلّ الواجهة حالياً تحت عنوان «لا لإعدام العلماء ولا لتغليظ الأحكام»، تخوُّفاً من إعدام دُعاة من معتقلي الرأي الذين كانت النيابة قد طلبت لهم هذه العقوبة، ومن ضِمنهم سلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري.