ما بعد البريكست.. هكذا عمقت بريطانيا علاقاتها التجارية والعسكرية مع الخليج
من المقرر أن تمر المملكة المتحدة بتغييرات سياسية بعد أن أعلن رئيس وزرائها "بوريس جونسون" الذي أشرف على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي استقالته من منصبه في 6 يوليو/تموز الماضي.
ومن منظور "جونسون"، خلق "البريكست" فرصة لتعزيز المكانة العالمية للمملكة المتحدة، بما يتماشى مع مفهوم "بريطانيا العالمية"، حيث يمكن أن تعزز بريطانيا بموجبه نفوذها التجاري والدبلوماسي في جميع أنحاء العالم مع الاستمرار في الدفاع عن حقوق الإنسان.
ويشمل ذلك الاستفادة من علاقاتها التاريخية مع الخليج، والذي لن يعزز مكانة بريطانيا في الشرق الأوسط فحسب، بل يساعدها أيضًا على توسيع طرقها التجارية الجديدة في منطقة الهادي-الهندي وما بعدها.
نفوذ بريطاني تاريخي
تمتعت بريطانيا تاريخيًا بنفوذ كبير في الخليج. ومن أجل حماية تجارتها، كانت بريطانيا تسيطر على الدول الـ4 الأصغر من دول مجلس التعاون الخليجي (الكويت، قطر، البحرين، والمشيخات الـ7 التي تجمعت فيما بعد في دولة الإمارات) وتم إدارة هذه الدول كمحميات لكن بريطانيا عينتهم رسميًا كدول ذات سيادة في معاهدة خاصة. ومع ذلك، فحتى عندما تمتعت هذه الدول بالاستقلال التام، احتفظت المملكة المتحدة بدور سياسي واقتصادي وثقافي مؤثر في المنطقة.
وكما جادل "ديفيد ويرينج" في كتابه "أنجلو أرابيا.. لماذا تهتم بريطانيا بثروة الخليج"، ففي حين أن بريطانيا لا تزال ترغب في الاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة في الخليج، فإنها تسعى أيضًا إلى الحفاظ على هذه الروابط باعتبارها تعطي انطباعا بالقوة العسكرية والدبلوماسية في الشرق الأوسط وسط تراجع بريطانيا كقوة عالمية.
وبالرغم أن هذه الروابط أصبحت أكثر أهمية بالنسبة للندن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن انسحاب واشنطن من المنطقة منح بريطانيا أيضًا فرصة لتعزيز نفوذها في الخليج.
ازدهار العلاقات التجارية
حتى قبل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، كانت بريطانيا تهدف إلى إحياء نفوذها في الخليج من خلال سلسلة من الاتفاقات الدبلوماسية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي.
وفشلت هذه الاتفاقيات إلى حد كبير في تحقيق أهدافها المعلنة، بسبب التطورات الإقليمية والمشهد السياسي المحلي في بريطانيا؛ وعلى سبيل المثال، تم إهمال اتفاق التعاون الدفاعي الموقع بين المملكة المتحدة والإمارات في عام 1996 بعد انتصار "توني بلير" الانتخابي في عام 1997، وتم التخلي عن "مبادرة الخليج" التي أبرمها "ديفيد كاميرون" في 2010 بسبب عدم الاستقرار الإقليمي بعد الربيع العربي.
وحتى مع فشل الاتفاقيات السياسية بين القادة البريطانيين والخليجيين، فإن العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا والخليج نمت بشكل كبير. ففي عام 2005، بلغ إجمالي حجم تجارة المملكة المتحدة مع مجلس التعاون الخليجي 13.2 مليار دولار. وبحلول عام 2010، ارتفع هذا الرقم إلى 19.1 مليار دولار.
وفي أعقاب استفتاء "بريكست"، تم تطوير العلاقات التجارية والعسكرية بشكل أكبر، وبحلول عام 2019 بلغت قيمة تجارة المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي حوالي 61 مليار دولار، مما يدل على أن العلاقات الثنائية توسعت تحسبا لـ"بريكست".
وتم إجراء المزيد من الصفقات، بما في ذلك اتفاقية صندوق الثروة السيادي الإماراتي "مبادلة" لاستثمار 10 مليارات جنيه إسترليني في التكنولوجيا والطاقة النظيفة في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على نادي "نيوكاسل يونايتد"، واستثمار صندوق الاستثمار السيادي القطري في شركة "رولز-رويس" لتطوير المفاعلات النووية من الجيل الجديد.
وقبل أيام فقط من استقالة "جونسون"، أعلنت وزارة التجارة الدولية في المملكة المتحدة أنها أحرزت تقدماً في اتفاقية التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، مما يشير إلى أن هذه كانت أولوية رئيسية لبريطانيا بعد "بريكست".
وبدأت عملية إبرام اتفاقية التجارة الحرة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وفي الشهر التالي اجتمعت وزيرة الخارجية في المملكة المتحدة "ليز تروس" مع وزراء خارجية السعودية وقطر وعمان والبحرين والكويت وسفير الإمارات والممثل الدائم للأمم المتحدة والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي للنقاش حول تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة.
ولن تساعد الاتفاقية في تعزيز العلاقات التجارية بين لندن ومجلس التعاون الخليجي فحسب، بل إنها تهدف أيضًا إلى المساعدة في توسيع طرق تجارة بريطانيا إلى منطقة الهندي-الهادي، مما يمكن بريطانيا من عولمة طرقها التجارية.
ونظرًا لأن الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي لا يملكون حتى الآن اتفاقية تجارة حرة بعد 15 عامًا من المفاوضات، يمكن أن تكتسب بريطانيا ميزة تنافسية إذا تمكنت من تأمين واحدة.
التعاون العسكري
من الناحية السياسية، تعني هذه الزيادة الملحوظة في التجارة أن لندن كانت أكثر حماسًا لدعم دول مجلس التعاون الخليجي من الناحية السياسية، وأكثر استعدادًا للتغاضي عن سجلات حقوق الإنسان المتعثرة لتلك البلدان.
ونظرًا لزيادة الاعتماد البريطاني على التجارة مع الخليج، يمكن لأي انتقاد من لندن أن يعرض الصفقات التجارية المحتملة للخطر، ما يخلق حافزًا للرقابة الذاتية.
وتعزز التعاون العسكري بين المملكة المتحدة ودول الخليج بعد استفتاء 2016. وعلى سبيل المثال، وسعت بريطانيا والبحرين تعاونهما العسكري أكثر وأعلنت المملكة المتحدة في أبريل/نيسان 2018 أنها ستفتتح قاعدة بحرية جديدة في "ميناء سلمان" البحريني تدعى "إتش إم إس الجفير" وتستضيف 300-550 من الموظفين و5 سفن بحرية، وتهدف إلى تعزيز نفوذ بريطانيا العسكري في الشرق الأوسط.
وفي عام 2018 أيضًا، أجرت المملكة المتحدة أكبر تمرين عسكري لها في عمُان منذ عام 2001 بمشاركة 5500 جندي وتعهدت في 2019 بفتح قاعدة بحرية في "ميناء الدقم" العماني وبالفعل استثمرت فيه 30.5 مليون دولار في عام 2020.
وطورت لندن علاقاتها مع مسقط بشكل أكبر منذ ذلك الحين، ونفذ الجيشان البريطاني والعماني تدريبات مشتركة في عام 2021. وفي وقت لاحق من العام في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نفذت بريطانيا برنامج "الجندي المستقبلي" الذي يهدف إلى ترسيخ إصلاحات عسكرية نوعية مثل استخدام التكنولوجيا المتقدمة وزيادة الاعتماد على الأمن السيبراني.
يعد قرار بريطانيا نقل وجودها العسكري في كندا إلى عمان بحلول عام 2023 جزءًا من هذه الخطة. ويهدف تطوير وجود عسكري أكبر في عمان إلى تعزيز القدرة على مواجهة إيران ومساعدة بريطانيا على معالجة الأزمات الأخرى مثل مواجهة روسيا في أوكرانيا.
التورط في حرب اليمن
في عهد "جونسون"، سعت بريطانيا إلى تأمين دعمها العسكري للسعودية مما تطلب تورط بريطانيا في اليمن. وفي يونيو/حزيران 2019 قبل شهر من اختيار "جونسون" ليحل محل رئيسة الوزراء السابقة "تيريزا ماي"، قررت محكمة الاستئناف عدم قانونية مبيعات الأسلحة إلى السعودية بسبب الخسائر في صفوف المدنيين في اليمن، ما أجبر لندن على إيقاف مبيعات الأسلحة مؤقتًا إلى الرياض.
وعندما جاء "جونسون"، اعتذرت وزيرة التجارة الدولية آنذاك "ليز تروس" عن بيع الأسلحة "بشكل عارض" إلى السعودية، واستأنفت مبيعات الأسلحة بالكامل في عام 2020 بعد أن زعمت لندن أن الأسلحة البريطانية لم تتسبب في خسائر للمدنيين باستثناء"بعض الحوادث الفردية".
ومع فوز الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في الانتخابات وتقليص مبيعات الأسلحة الهجومية إلى السعودية، أصبح موقف لندن أكثر حرجا خاصة أن حكومة "جونسون" أصرت على استمرار مبيعات الأسلحة إلى التحالف الذي تقوده السعودية.
وجاء ذلك في وقت تحرص فيه المملكة المتحدة على التقارب مع الولايات المتحدة وتتبنى فيه السياسة الخارجية البريطانية التوجه نحو الأطلسي (أي تجاه واشنطن بدلاً من الاتحاد الأوروبي).
ماذا بعد؟
نتيجة لـ"بريكست"، حاولت المملكة المتحدة ضمان قدرتها على الاستفادة من مجال نفوذها الإقليمي السابق لتعزيز العلاقات التجارية ونفوذها العالمي. وفي الوقت نفسه، سعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى تأمين علاقاتها الاقتصادية مع لندن، وقد ساعدت هذه العلاقات دول الخليج على تأمين الدعم السياسي من بريطانيا.
وتزامنت السياسة الخارجية المبادرة لبريطانيا في الخليج مع الانسحاب الأمريكي المتصور من المنطقة. ونظرًا لأن علاقات دول الخليج مع واشنطن شهدت فتورا بسبب الاختلاف حول عدد من القضايا، مع الإشارات الأمريكية بالسعي نحو تقليل وجودها الأمني في المنطقة، وانسحاب "بايدن" الفاشل من أفغانستان، فقد خلق هذا فراغًا كانت بريطانيا على استعداد لملئه إلى حد كبير.
لذلك، من المحتمل أن يواصل خليفة "جونسون" في حزب المحافظين موقف بريطانيا المتمثل في تعميق العلاقات التجارية والعسكرية مع الخليج، ما يعني أن اتفاق التجارة الحرة بين الخليج وبريطانيا سيظل أولوية رئيسية لبريطانيا.
وحتى لو كان هناك تغيير كبير في حكومة بريطانيا نتيجة فوز حزب العمال المعارض مثلا، فإن الروابط الاقتصادية بين لندن والخليج ستظل مهمة طالما ظلت بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي.
المصدر | جوناثان فنتون هارفي | منتدى الخليج الدولي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد