حدود الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط.. انسحاب أم بقاء؟

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1190
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

تأمل إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في تركيز اهتمام الولايات المتحدة بعيدا عن الشرق الأوسط. وبالنسبة لمؤيدي مثل هذا التحول الاستراتيجي في الداخل والخارج، فهذه أخبار مرحب بها. ومع ذلك، لا يزال شركاء أمريكا في المنطقة غير متأكدين من معنى ذلك من حيث الممارسة العملية.

وأدى الانفصال بين التصريحات الأمريكية وما يتصوره الشرق الأوسط من نوايا وأفعال إلى شعور عام بالارتباك بين شركاء واشنطن الإقليميين.

وإذا كانت إدارة "بايدن" تعتقد أن الطريقة الأكثر أمانا للتركيز على منافسة القوى العظمى مع تأمين المصالح الأمريكية أيضا في الشرق الأوسط هي الاعتماد بشكل أكبر على الحلفاء أو الشركاء المحليين، فمن الأهمية بمكان أن يكون لدى واشنطن رؤية أكثر وضوحا.

وإذا لم يحدث ذلك، فمن المرجح أن تنتهج هذه الجهات الفاعلة سياسات لا تتفق مع مصالح أمريكا. وتتمثل الخطوة الأولى لتجنب سوء التقدير من قبل حلفاء أمريكا وخصومها على حد سواء في فهم الرسائل بشكل صحيح.

ويبدو أن إدارة "بايدن" تتفهم الحاجة إلى الوضوح وقد شرعت في حملة دبلوماسية لتوضيح ماذا تريد، لكن الرسالة يجب أن تتضمن طمأنة الشركاء والحلفاء بأن واشنطن لا تزال ملتزمة بأمن المنطقة لكن مع تراجع أهدافها في نفس الوقت.

على سبيل المثال، في حوار المنامة الأخير، كان "بريت ماكجورك" من موظفي مجلس الأمن القومي حريصا على الإشارة إلى أن "الولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان. هذه المنطقة مهمة للغاية ومتقلبة للغاية ومتشابكة مع المصالح الأمريكية بحيث لا يمكن التفكير في التخلي عنها".

ومع ذلك، أشار "ماكجورك" أيضا إلى أن إدارة "بايدن" تريد أن تكون "طموحة لكن بانضباط لضمان أن يخدم هذا الطموح أهداف واضحة، من خلال قاعدة موارد مستدامة حتى لو كانت محدودة".

وبالرغم من هذه الجهود، لا يزال هناك ارتباك حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع المنطقة. وبخلاف مواجهة إيران والالتزام بأمن إسرائيل والسعودية، لا تتطرق رسالة الإدارة إلى تفاصيل كافية حول ماهية السياسة الأمريكية في المنطقة.

ويحتاج حلفاء الولايات المتحدة إلى معرفته ما الذي ستقاتل من أجله أمريكا وما لن تقاتل من أجله، وما هي توقعاتها من حلفائها للبقاء في وضع جيد، والأهداف التي تأمل في تحقيقها للمنطقة خلال الـ 10 إلى الـ 15 عاما القادمة.

وبصرف النظر عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لا يبدو أن الإجراءات الأمريكية تتطابق مع النوايا. وهناك انفصال حقيقي بين رواية تقليص القوة الأمريكية لتصبح في "حجمها اللازم" وواقع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة الآن، حيث يبدو أن هناك تغييرا طفيفا فقط في وضع القوة الأمريكية.

ويعد استمرار العمليات القتالية الأمريكية في سوريا، بما في ذلك عملية قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "أبو إبراهيم الهاشمي القرشي" هذا الأسبوع، والقتال الذي دار الأسبوع الماضي حول الهروب من "سجن الحسكة"، بمثابة تذكير بأن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن التخلص من حروبها في الشرق الأوسط.

ومن المهم فهم هذه الرسائل بشكل صحيح لـ 4 أسباب على الأقل.

أولا، إذا كان شركاء أمريكا من الدول وغير الدول غير متأكدين من مستوى التزام واشنطن بأمنهم، فمن المنطقي أنهم سيتجهون للتحوط عبر الحصول على الدعم من روسيا والصين وحتى إيران.

وفي المجال الأمني، حققت روسيا بالفعل نجاحات ملحوظة مع الشركاء الأمريكيين التقليديين في المنطقة. وبالرغم أنه من غير المرجح أن تتفوق موسكو أو بكين على النفوذ الأمريكي بين شركائها الحاليين، إلا أنه حتى التحوط المحدود يمكن أن يربك نفوذ واشنطن.

ثانيا، بدون فهم واضح لنوع السلوك الذي ستكون الولايات المتحدة معنية بحظره، بالإضافة إلى كيفية استخدام أمريكا للقوة في المنطقة، يمكن للجهات الفاعلة المحلية اتخاذ إجراءات تقوض المصالح الأمريكية. ويمكن للشركاء الذين يبالغون في تقدير التزام أمريكا بأمنهم، والخصوم الذين يقللون من أهمية التزام أمريكا تجاه حلفائها، التورط في تصعيد خطير.

على سبيل المثال، أدى سوء تقدير "أربيل" بشأن الضمانات الأمنية الأمريكية إلى حلقة من العنف المزعزعة للاستقرار في أعقاب استفتاء كردستان العراق عام 2017.

ثالثا، قد يرسل الافتقار إلى التركيز الاستراتيجي على الشرق الأوسط إشارة إلى خصوم أمريكا بأن لديهم الفرصة لدفع نفوذهم إلى عمق المنطقة بأقل قدر من المعارضة. وتعد الزيادة الأخيرة في الهجمات الصاروخية من الميليشيات المدعومة من إيران في العراق دليلا واضحا هذا الأمر.

رابعا، من خلال توفير فهم واضح ومفصل لتوقعات الولايات المتحدة من الحلفاء والخصوم، سيصبح من السهل تحديد متى تتعارض الجهات الفاعلة بالضبط مع المصالح الأمريكية. ويعني ذلك أن البيئة التي تكون فيها التفضيلات الأمريكية معروفة بشكل علني وواضح ستجبر الشركاء على تحمل مسؤولية سياساتهم.

وقد يقول المشككون إن الجهات الفاعلة المحلية أكثر انسجاما مع الرسائل الأمريكية الخاصة، التي قد تكون أكثر وضوحا. ومع ذلك، لا تزال الدبلوماسية العامة ضرورية. ولا يوجد ما يشير إلى أن الرسائل الخاصة لإدارة "بايدن" تختلف عن الرسائل العامة. ولكن، حتى لو كان الأمر كذلك، فإن التناقض بين الرسائل العامة والخاصة يمكن أن يولد بحد ذاته ارتباكا بين الجهات الفاعلة المحلية التي ترى إشارات متضاربة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تحمل الرسائل العامة تأكيدات أقوى للشركاء المحليين لأنه لا يمكن التراجع عنها بسهولة مثل الخاصة.

إذن كيف يمكن للولايات المتحدة تحسين رسائلها؟ يأتي الجواب من التعمق أكثر في رسالة الإدارة نفسها. وتتضمن السردية الحالية 3 نقاط رئيسية، تتطلب كل منها مزيدا من التوصيف لتوجيه شركاء أمريكا في الخارج بشكل أفضل.

النقطة الأولى هي أن أمريكا "لن تذهب إلى أي مكان". وهذه النقطة ذات قيمة لأنها صحيحة، على الأقل في الوقت الحالي. وحتى إذا قللت الولايات المتحدة بشكل كبير من أهمية الشرق الأوسط، فإن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستكون غير ملتزمة بحلفائها أو غير راغبة في تعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة.

وفي الواقع، قد يكون التركيز على المشاركة السياسية والاقتصادية لأمريكا في المنطقة بمثابة إعادة تصور صحية لما يعنيه أن تكون أمريكا "حاضرة" خارج العدسة العسكرية.

ومع ذلك، من الصعب بالنسبة للفاعلين الإقليميين ربط تصريحات مثل تلك الصادرة عن وزير الدفاع "لويد أوستن" بأن "التزام أمريكا بالأمن في الشرق الأوسط قوي ومؤكد"، مع ما يرونه ويسمعونه من واشنطن على أساس يومي من الحزبين بالسعي لتحويل التركيز إلى الصين وروسيا. والنتيجة أن مثل هذه التصريحات، حتى لو كانت صحيحة، تبدو مخادعة. ولكي تكون الرسالة مقنعة، يجب أن تكون الإدارة منفتحة بشأن كيفية إدراكها لتوازن المصالح النسبي بين الشرق الأوسط وأوروبا وشرق آسيا.

وبدلا من السعي إلى تهدئة الحلفاء الإقليميين من خلال إعادة تأكيد التزام أمريكا بأمنهم بمعزل عن المصالح الأخرى، سيكون من المطمئن أكثر الاعتراف صراحة بأن اهتمام أمريكا سيتم تقسيمه، مع التأكيد على أن الولايات المتحدة لا يزال لها أولويات في المنطقة، وإن لم يعد الشرق الأوسط نفسه الأولوية القصوى.

ثانيا، على إدارة "بايدن" طمأنة الحلفاء بأن أمريكا ستعود "إلى الأساسيات"، التي حددها "ماكجورك" على أنها: "أساسيات بناء التحالفات وتقويتها والحفاظ عليها مع تحديد الأهداف فقط بعد دراسة دقيقة للحقائق على الأرض من خلال التشاور مع أصدقائنا وشركائنا".

وبالطبع فإن تقوية التحالفات وتحديد الأهداف بتأن أمر حكيم بلا شك. لكن الأسئلة المتبقية هي كيفية القيام بذلك، وبأي شروط، ولأي غرض سياسي؟ واعتمادا على الحقبة السابقة من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يمكن أن تعني "أساسيات" إدارة التحالف والاستراتيجية متعددة الأطراف أشياء مختلفة إلى حد كبير.

إذن ما الأساسيات التي ستعتمد عليها أمريكا؟ هل ستكون الولايات المتحدة على استعداد لقيادة تحالفات عسكرية واسعة كما فعلت في أوائل التسعينات؟ وهل ستبرم صفقات سياسية كبيرة بأسلوب "هنري كيسنجر"، أم ستلعب الولايات المتحدة دورا أكثر صمتا كمورد للأسلحة وعامل توازن؟ هل تعتمد الولايات المتحدة في المقام الأول على الدول لتحقيق التوازن ضد التهديدات، أم أن الجهات الفاعلة غير الحكومية ستكون شريكة بنفس القدر؟ وهل تشمل "الأساسيات" استمرار الفسحة النسبية فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان من قبل شركاء أمريكا في المنطقة؟

باختصار، يمكن أن توفر رسائل الإدارة إطارا أوضح للقواعد والوسائل التي تنوي الولايات المتحدة من خلالها التنسيق مع حلفائها.

ثالثا، تشير الإدارة إلى نهاية الأهداف "المتطرفة" في المنطقة، مثل بناء الدولة وتغيير النظام. وتعد هذه الرسالة واضحة بالنظر إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وفي حين أن مثل هذه التصريحات مفيدة للإشارة إلى ما لن تفعله واشنطن، إلا أنها لا تذكر الكثير عما ستفعله، ما يجعل من الصعب على الشركاء تحديد ما هي بالضبط رؤية أمريكا للاستقرار والازدهار الإقليميين.

وينطبق نفس المنطق على السلوكيات المحتملة التي ستتحملها الولايات المتحدة والتي لن تتسامح معها بين شركائها الإقليميين. على سبيل المثال، هناك مجال رئيسي يمكن أن تكون فيه الولايات المتحدة أكثر وضوحا، وهو متى وكيف ستعاقب أولئك الذين ينخرطون في انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان.

ويشير القرار الأخير الذي اتخذته إدارة "بايدن" بوقف 130 مليون دولار من المساعدات الأمنية السنوية لمصر إلى أن الولايات المتحدة مستعدة لفرض بعض التكاليف على الأقل على الشركاء الإقليميين فيما يتعلق بحقوق الإنسان. ولكن، إذا لم تكن عقوبة مصر مرتبطة بسياسة منهجية تنطبق بنفس القدر على شركاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، فسوف يستمر جو الغموض حول التزام أمريكا بكبح الانتهاكات.

بشكل عام، من خلال التأكيد على ما لن تفعله أمريكا، دون التأكيد على ما ستفعله أمريكا، قد تصبح السياسة الخارجية لـ"بايدن" أشبه بنهج "أوباما" حول "عدم فعل أشياء غبية".

ولكي نكون منصفين، أشارت واشنطن إلى عدد من الأهداف السياسية الواضحة، بما في ذلك مواجهة تطلعات إيران للانتشار النووي ونفوذها في المنطقة، ودعم الحلفاء في إسرائيل والخليج، ومكافحة الجماعات الإرهابية مثل "القاعدة" و"الدولة الإسلامية". لكن هذه الأهداف، رغم كونها معقولة، لا ترقى إلى مستوى رؤية شاملة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة لأنها تعبر عن منطق دفاعي فقط.

وما هو مطلوب هو نهج أكثر شمولية للنفوذ والمصالح في المنطقة، نهج يتضمن المزيد من المعايير الدبلوماسية والاقتصادية، لأن هذا هو بالضبط ما تنوي روسيا والصين فعله.

وبالتأكيد لا يزال صياغة سياسة دقيقة بشكل صحيح، لا سيما في الشرق الأوسط، مهمة صعبة تستحق الإدارة الثناء لمحاولتها القيام بها.

وإجمالا، ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة يجب عليها إعادة ضبط نهجها في الشرق الأوسط، وذلك لتعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة ولضمان عدم تعطيل تركيز أمريكا على التنافس مع القوى العظمى. ولكن بدون فهم واضح لما تأمل أمريكا في تحقيقه في المنطقة وكيف تنوي القيام بذلك، فمن المرجح أن يختبر كل من حلفاء أمريكا وخصومها حدود الدعم الأمريكي بطرق قد تكون خطيرة.

المصدر | مورجان كابلان | وور أون ذا روكس - ترجمة وتحرير الخليج الجديد