لماذا تَستَمرّ السعوديّة في تَصعيدِ حَربِها ضِد كندا؟ ومَن الخاسِر الأكبَر من تَجميدِ العَلاقات التِّجاريّة وبَيع الأُصول والأَسهُم وسَحب المُبتَعثين السُّعوديين؟
وهَل السُّجون الكَنديّة أسوَأ من نَظيرَاتِها السعوديّة فِعلاً؟ ولماذا جاءَت هَذهِ الأزَمة في التَّوقيت الخَطأ؟
صَعَّدَت الحُكومة السعوديّة إجراءاتِها العِقابيّة القاسِية ضِد كندا احتجاجًا على تَغريدةٍ لوزارَة خارجيّتها احتجَّت فيها على اعتقالِ ناشِطاتٍ سُعودياّت وطالَبت بالإفراج عنهن فَورًا، وذَكرت صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانيّة أنّ المَصرف المركزيّ السُّعوديّ أصدَر تَعليماتٍ لفُروع الصَّندوق الاستثماريّ السِّياديّ بالتَّخلُّص من جميع الأُصول والأسهُم والسَّندات الكنديّة، وبَيعِها مَهما كانت الخَسائِر.
إقدام المَصرف المركزيّ السعوديّ على بَيع هَذهِ الأُصول بطَريقةٍ “غير تجاريّة” وفي التَّوقيت، غير المُناسِب اقتصاديًّا، ستترتَّب عليه خَسائِر كبيرة، حسب أحد الخُبَراء الماليين تَحدَّث إلى “رأي اليوم”، علاوةً على كَونِه سيَنعكِس سَلبًا على ثِقَة المُستَثمرين في المملكة، وهِي ثِقَة اهتزّت بشَكلٍ مَلحوظٍ على أرضيّة اعتقال أكثَر من 350 من رجال الأعمال قَبل عام بتُهَم الفساد، وتَجريدِهم من نِسبَةٍ كبيرةٍ من أموالِهم مُقابِل الإفراج عنهم، وكان بينهم عَددٌ من الأُمَراء، وما زالَ بعض هؤلاء مُعتَقلين لرَفضِهم التَّنازُل عن أُصولِهم وأموالِهم، ويَنفون تُهمَة الفَساد عن أنفسهم.
القرار السعودي “النَّزِق” جاءَ انعكاسًا لحالةٍ من الغَضب ناجِمة عَمّا رأته الحُكومة السعوديّة من خُروجٍ عن الأعراف الدبلوماسيّة والتَّدخُّل في شُؤون البِلاد الداخليّة، خاصَّةً ترجمة الخارجيّة الكنديّة تغريدتها المُطالِبة بالإفراج عن النَّاشِطات المُعتَقلات إلى اللغة العربيّة وتوزيعها على أكثر من 11 ألف مُشتَرك على حِساباتِهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو عَمل “استفزازيّ” “تَحريضيّ” في رأيِها.
لا شَك أنّ كندا ستَخسَر كثيرًا من جرّاء هذه القرارات السعوديّة بتجميد العلاقات التجاريّة معها، وسحب حواليّ 15 ألف طالب سعودي يَدرسون فيها، ووقف رَحَلات الطَّيران إلى المُدن الكنديّة، ولكن خسارة السعوديّة الماديّة والمعنويّة سَتكون كبيرةً أيضًا، لأنّ الطُّلاب السُّعوديين سَيُعانون أيضًا، وسَتنقلِب حياة بعضهم إلى جحيم، فكيف سيَجِدون الجامِعات المُلائِمة في غُضون بِضعَة أسابيع، وكذلك انتقالِهم وعائِلاتهم إلى جامِعات ودُوَل جديدة، وإيجاد السَّكن والمدارس لأطفالِهم، وربّما تكون مُعاناة المَرضى في المُستشفيات الكنديّة أكبر، خاصَّةً إذا جرى نقلهم بسُرعة، وخُضوعِهم من جديد لفُحوصات وصُوَر أشعّة ومُتابَعات، وكُل هذا لأنّ كندا انتقدَت ملف السعوديّة في مجال حُقوق الإنسان، وهو ملف يحظى بالإجماع تقريبًا ولا يُنكِر انتهاكاته إلا القِلَّة داخِل السعوديّة وخارِجها، واعتقال النَّاشِطات سبب الأزمة ليس سِرًّا، وبَثَّت تفاصيله وكالة الأنباء السعوديّة الرسميّة.
ربّما أرادت السُّلطات السعوديّة توجيه رسالةً قويّةً إلى جيرانِها، ودول أُخرى من خِلال هذه “العُقوبات” ضِد كندا، تقول بأنّها لا يُمكِن أن تتسامَح تُجاهَ أيِّ تَدخُّلٍ في شُؤونِها الداخليّة، وهذا من حَقِّها، ولكن استهداف دول مِثل كندا وقَبلها ألمانيا والسويد فَتحت أبوابها أمام المُهاجرين الهارِبين من الاضِّطهاد والظُّلم، وأخيرًا في سورية تحديدًا، وتَملُك قضاءً مُستَقِلًّا، وبَرلمانات مُنتَخَبة، ولها سِجِلٌّ جيّدٌ في مَيدان حُقوق الإنسان، يَجعَل مَفعول هَذهِ الرِّسالة مَحدودَ التَّأثير.
من سُوء حَظ القائمين على هَذهِ الحَملة ضِد كندا أنّها جاءَت في وَقتٍ تحتل فيه المَجزرة التي ارتكبتها طائرات التحالف السعودي في مدينة صعدة اليمنيّة، وأدَّت إلى مَقتَل 50 طِفلاً وإصابَة 77 آخرين مُعظَم الشَّاشات والصَّفحات الأُولى في الصُّحف العالميّة هَذهِ الأيّام، وتأتِي إضافَةً لمجازر أُخرَى اعترفَت بارتكابِها طائِرات التحالف.
كُنّا نَتمنّى في هَذهِ الصَّحيفة “رأي اليوم” لو أنّ المملكة انتقدت كندا وحُكومتها، لأنّها تنحاز إلى المجازر الإسرائيليّة في قِطاع غزّة وجنوب لبنان، وتَجِد لها المُبرِّرات، وتَرفُض الاعتراف بالدَّولةِ الفِلسطينيّة المُستقلِّة، وتَصمُت على اقتحامات المسجد الأقصى، ولكنّها ركَّزت على انتهاك كندا لحُقوق المُواطنين الأصليين فيها، وسُوء السُّجون الكنديّة، في إطار حَملاتِها الإعلاميّة الانتقاديّة المُضادَّة، ونسيت أن سُجون المملكة، ومُعظَم الدول العربيّة، لا تَصلُح حتى لاحتِجاز البَهائِم، والتَّعذيب الذي يَجرِي فيها للمُعتَقلين والسِّياسيين منهم خُصوصًا، يَندَى له الجَبين، ووثائق مُنظّمات حُقوق الإنسان العربيّة والدوليّة مِثل مُنظَّمة العَفو لا يُمكِن حَصْرَها لكَثرَتِها.
السُّلطات السعوديّة، وبمِثل هَذهِ الحَملة، سَلَّطت الأضواء على مَلف حُقوق الإنسان فيها، والاعتقالات التي طالت المِئات من النَّاشِطات والنَّاشِطين دُون أيِّ مُحاكَمات، عَلاوةً على العَديد من المُتعاطِفين معهم، ناهِيك عن رِجال الدين وبعضهم مُتَقدِّم في السِّن ويُعاني من مَوسوعةٍ من الأمراض، وآخرهم الشيخ ناصر العمر، الذي جَرى اعتقاله أمس، لينضم إلى زُملائِه الشُّيوخ مِثل سفر الحوالي، وسلمان العودة، والقائِمة تَطول.
لا نَعتقِد أنّ جاستين ترودو، رئيس وزراء كندا، سيَتراجَع في هَذهِ الأزمة مع المملكة، فقد أكَّد أنّه سوف يستمر في الدِّفاع عن حُقوق الإنسان في السعوديّة وغيرها، وحتى إذا تراجع، وقَدَّم اعتذاره، فإنّه يفعل ذلك للحِفاظ على مَصالِح بِلادِه وشَعبِه، لأنّه رئيس وزراء مُنتَخَب، ومَسؤولٌ أمام ناخِبيه، ويَحتَكِم إلى حزب، وبرلمان، وصَحافةٍ حُرّةٍ، وهذا ما يُميّزه عن حُكَّامِنا العَرب.
زميل صحافي سعودي تَجرّأ على انتقاد الإجراءات التي اتَّخَذتها بِلاده ضِد كندا، وقال ما معناه، أنّه إذا قرَّرت بلاده قَطع العَلاقات مع كُل دولة تَنتقِد حُقوق الإنسان فيها، فإنّها لن تَجِد سفاراتً أجنبيّةً في عاصِمَتها الرياض.
نُضيف إلى تغريدة هذا الزَّميل بالقَول أنّها قد يبقى لها صَديقٌ واحِد هو دونالد ترامب، والسَّفارة الأمريكيٍة، وربّما تَعتقِد الحُكومة السعوديّة أنّ هَذهِ الصَّداقة تُغنيها عَن الجَميع.
“رأي اليوم”