«جيوبوليتيكال فيوتشرز»: السعودية ومصر وتركيا.. والتحالفات المتغيرة في البحر الأحمر

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3369
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

 يعد البحر الأحمر منطقة ذات قيمة هائلة استراتيجيا. ولقد كان منطقة تجارية نشطة منذ زمن المصريين القدماء. واليوم، يمر نحو 20% من حجم التجارة العالمية عبر البحر الأحمر. وفي عام 2016، عبرت ما يقرب من 17 ألف سفينة من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط ​​أو العكس عبر قناة السويس (لا توجد منظمة موحدة تقيس جميع حركة المرور في البحر الأحمر)، وتم نقل ما يقرب من 820 مليون طن من البضائع. وتجتاز معظم التجارة البحرية بين آسيا وأوروبا -نحو 700 مليار دولار سنويا- البحر الأحمر، كما يقلل الوصول إلى البحر الأحمر -وبالتالي إلى قناة السويس- كثيرا من أوقات الشحن، مما يجعله أسهل وأرخص بالنسبة للصين وبقية آسيا عند البيع إلى أوروبا.

ويعتبر البحر الأحمر أيضا منطقة متقلبة، ويعزى ذلك -إلى حد كبير- إلى قيمته الاستراتيجية. ويتطلب المرور فيه من السفن التنقل عبر عدة مضائق، مما يمكن البلدان -التي نادرا ما تجذب الانتباه الدولي- من التأثير على أمن بلدان أقوى بكثير في جميع أنحاء العالم. وفي الواقع، جعل هذا القرن الأفريقي -في الطرف الجنوبي من البحر الأحمر- منطقة المنافسة الرئيسية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وهذا هو السبب في أن العديد من البلدان البعيدة لديها قواعد عسكرية في جيبوتي اليوم.

وغالبا ما يتعرض الأمن حول البحر للخطر لأسباب لا صلة لها بالبحر نفسه حيث نشبت حروب على الموارد الطبيعية، وقاتل العرب العرب وغير العرب، وقاتل المسلمون المسيحيين، وقاتل السنة الشيعة وبطبيعة الحال، وقعت معارك للسيطرة على الممرات والمضايق. ومع هذا العدد الكبير من الهويات الوطنية المختلفة والكثير من الدول الضعيفة، فإن الصراع أمر لا مفر منه تقريبا.

ولحل لغز هذا الكيان، علينا أن نقترب من البحر الأحمر من عدة زوايا. وسوف نغوص عميقا في علاقة القوى الإقليمية -مثل مصر و(إسرائيل) والمملكة العربية السعودية- بالدول الأضعف في البحر الأحمر، واستكشاف الفروق بين البلدان على السواحل الغربية والشرقية للبحر، وتحديد مصالح القوى خارج المنطقة -تركيا وإيران- والنظر في كيفية تأثير ديناميات المنطقة على القوى البعيدة (الصين والولايات المتحدة)، وفي بعض الأحيان، تكون الفروق بين الفئات قهرية -حيث يكون من المستحيل فصل واحد عن الآخر- ولكنها ضرورية لتحقيق الوضوح.

ولكن علينا أولا أن نفهم ما الذي يجعل البحر الأحمر مهما جدا، ألا وهو حجم التجارة ووفرة نقاط الاختناق.

نقاط الاختناق

البحر الأحمر عبارة عن كيان ضيق من المياه -يصل إلى نحو 300 كيلومتر في أوسع نقطة له- يمتد من شبه جزيرة سيناء إلى خليج عدن، ويؤدي في النهاية إلى المحيط الهندي. وفي الطرف الشمالي من البحر يقع خليج العقبة، الذي يجري إلى الشمال الشرقي إلى (إسرائيل) والأردن وخليج السويس، الذي يربط البحر الأحمر بقناة السويس. وتربط القناة بدورها البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وتقصر المسافة بين بحر العرب ولندن بنحو 7885 كلم بالمقارنة مع الطريق حول الطرف الجنوبي من أفريقيا في رأس الرجاء الصالح.

وتشكل السعودية واليمن شاطئه الشرقي، وعلى الساحل الغربي له تقع مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال. وقبل عام 1991، كانت إريتريا جزءا من إثيوبيا، وحتى يومنا هذا، لا تزال أعمال إثيوبيا تؤثر بشدة على جيوسياسية المنطقة، رغم أنها لا تتاخم البحر. ولأسباب مماثلة، سيتم تضمين جنوب السودان - جزء من السودان حتى عام 2011 - في هذا التحليل، على الرغم من كونه بلدا غير ساحلي.

ويتعرض البحر الأحمر لنقاط اختناق. أما في الشمال فتقع قناة السويس، التي يمكن أن تعطل التجارة بين آسيا وأوروبا بشدة إذا ما تم حظر المرور بها. وعندما أغلقت مصر القناة بين عامي 1967 و1975، زادت تكلفة الشحن البحري للمملكة المتحدة بشكل كبير، لدرجة أنها اضطرت في عام 1967 إلى تخفيض قيمة عملتها بنحو 14%، والتي كانت واحدة من الأسباب النهائية التي أدت إلى نهاية نظام بريتون وودز -وبالتالي نهاية معيار الذهب- في الولايات المتحدة.

وفي مصب خليج العقبة، هناك جزيرتان صغيرتان غير مأهولتين -تيران وصنافير- يمكن استخدامها معا لمنع وصول (إسرائيل) والأردن إلى البحر الأحمر. وعلى الرغم من أن (إسرائيل) لديها شاطئ ثان على البحر الأبيض المتوسط، فإن البحر الأحمر هو منفذ الأردن الوحيد لبقية العالم. وكان مضيق تيران -الذي شكلته هاتان الجزيرتان- نقطة الاشتعال التي أثارت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، والمعروفة باسم حرب الأيام الست. وحاصرت مصر المضائق، مما أدى إلى اختناق المرور الذي كانت تعتمد عليه (إسرائيل) لنقل 90% من بضائعها.

وبالذهاب إلى الجنوب -بالقرب من مدخل البحر الأحمر- تقع جزر حنيش. وتقع تلك الجزر في منتصف الطريق بين إريتريا واليمن، اللتين دخلتا في معركة استمرت ثلاثة أيام عام 1995 لادعاء ملكيتها.

وأخيرا، هناك باب المندب، وهو ممر ضيق في البحر الأحمر من خليج عدن. وفي وسط باب المندب، تقع جزيرة البريم، التي تفصل المضيق إلى قناة شرقية وغربية. ويبلغ عرض المضيق نحو 29 كلم في أضيق نقطة بين اليمن وجيبوتي، وتستخدم معظم حركة المرور التي تمر عبره القناة الغربية، التي لا يزيد عرضها عن 21 كلم.

الدول الثلاث الرئيسية على البحر الأحمر

وهناك 3 دول في البحر الأحمر تقف فوق بقية الدول من حيث الحجم الاقتصادي والقوة العسكرية، ألا وهي مصر و(إسرائيل) والمملكة العربية السعودية.

وكانت مصر في السابق مركزا للعالم العربي. وقد تلاشت أهميتها منذ هزيمتها على يد (إسرائيل) في الستينات واتفاق السلام في السبعينيات، ومع أنها لم تتراكم لديها الثروة مثل السعوديين من النفط، إلا أنه لا يزال لديها جيش قوي. ويرتبط اهتمام مصر بالبحر الأحمر ارتباطا وثيقا بقناة السويس. وتحصل مصر بالسيطرة على القناة مزايا أمنية واضحة، وقوة لمصر. كما تقوم الحكومة المصرية بجمع الرسوم من السفن التي تمر عبر القناة، وتجمع أكثر من 5 مليارات دولار سنويا.

ومع ذلك، ظل اقتصادها يكافح منذ الربيع العربي عام 2011. ونتيجة لذلك، فقد أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على المساعدات الاقتصادية السعودية. وفي مقابل 25 مليار دولار من الدعم الاقتصادي، أعادت مصر حيازة جزر تيران وصنافير إلى المملكة السعودية عام 2016.

لكن مصر لا تتعاون مع السعودية على طول الخط وهناك خلاف واضع بينهما في سوريا. وتحذر مصر أيضا من محاولة السعودية للإطاحة بنظام «بشار الأسد» فكل من سوريا ومصر هما حكومتان علمانيتان مرتكزتان على العسكرية، وتخشى مصر أنه إذا تم الإطاحة بـ«الأسد»، فإن ذلك سيشكل سابقة لتحدي حكومتها. كما تختلف مصر والسعودية حول قضية إيران، التي تعتبر - بسبب موقعها في الشرق - أقل تسبيبا للقلق بالنسبة للحكومة المصرية من النظام الملكي السعودي.

وتشعر (إسرائيل) بحاجة إلى العمل مع البلدين. فـ(إسرائيل) ومصر لديهما مصلحة في مكافحة الجهاديين، الذين يعتبرون (إسرائيل) دولة احتلال، ويعتقدون أن مصر دولة علمانية تتعاون مع (إسرائيل)، وبالتالي فهي متواطئة في الاحتلال. ومن ضرورات (إسرائيل) الحفاظ على المرور الحر عبر مضيق تيران إلى البحر الأحمر، وجزء مهم من هذا الجهد هو إقامة علاقة عمل جيدة مع مصر ومؤخرا مع السعودية.

وفي الآونة الأخيرة، زادت حاجة (إسرائيل) إلى إعادة تركيز بعض الجهد على التعاون مع السعودية. وعلى الرغم من العداء التاريخي الذي شهدته السعودية تجاه (إسرائيل)، فإنها تشترك معها في الحاجة إلى مكافحة انتشار النفوذ الإيراني. وبالنسبة للمملكة، فإن المخاوف -على الأقل عسكريا- تتمثل في دعم إيران للمتمردين الحوثيين في اليمن، التي تقع على الحدود الجنوبية للمملكة. وبالنسبة لـ(إسرائيل)، فإن التهديد يتمثل في دعم إيران لحزب الله في لبنان، الذي يهدد أمن (إسرائيل) والذي خاضت معه (إسرائيل) الحروب من قبل.

وفي شبه الجزيرة العربية، يمكن للسعودية التضرر من منع الوصول المباشر إلى بحر العرب -وبالتالي المحيط الهندي- عبر اليمن وعمان. وبما أن الكثير من الاقتصاد السعودي يعتمد على صادرات النفط، فإن الوصول إلى ممرات الشحن أمر بالغ الأهمية. وتصدر المملكة معظم النفط عبر الخليج العربي إلى الشرق، حيث تتعرض لخطر أن تعطل إيران حركة المرور عبر مضيق هرمز. ولذلك، فإن لدى المملكة مصلحة استراتيجية في الحفاظ على خيار احتياطي عبر البحر الأحمر، يمكن من خلاله الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط ​​عبر قناة السويس، والمحيط الهندي عبر باب المندب. وتحقيقا لهذه الغاية، تخزن المملكة احتياطياتها على ساحل البحر الأحمر، حتى تتمكن من مواصلة تصديرها إذا ما حدث أي شيء في الخليج العربي.

ومع ذلك، يشكل تورط إيران في الحرب الأهلية في اليمن تهديدا لنقطة الوصول الثانية للمملكة إلى بحر العرب. وتدعم إيران الحوثيين الذين يسيطرون على ميناء الحديدة، شمال باب المندب. وبالتالي، لا يقتصر التدخل السعودي على منع القتال من الوصول إلى حدودها البرية؛ بل هو أيضا للحفاظ على حرية المرور في الطريق البحري. وقد حاول السعوديون الحصول على دعم مصر في تدخلهم مقابل المساعدات، لكن المشاركة المصرية كانت ضئيلة. وكانت السعودية تريد من مصر الالتزام بقوة برية للقتال، لكن مصر لم تلتزم إلا بنشر سفن حربية وطائرات في بعثات دورية للاستطلاع في المناطق الجنوبية من البحر الأحمر. ولا شك أن ذكرى تدخل مصر في الحرب الأهلية السابقة في اليمن -بين عامي 1962 و1970- والتي أسفرت عن مقتل 26 ألف جندي مصري، قد لعبت دورا في هذا القرار.

الشاطئ الغربي والقرن الأفريقي

وعلى عكس الساحل الشرقي للبحر الأحمر، يتكون الجانب الغربي من دول ضعيفة، غالبا ما تكافح من أجل السيطرة على أراضيها. ومع ضعف الحكومات المركزية والعديد من نقاط الخلاف، تحاول الدول على الشاطئ الغربي إعادة تنظيم أنفسها باستمرار بحثا عن الأمن بعيد المنال. وهي لا تعاني من فراغ مطلق في السلطة، لكن الأمر قريب. ويشجع هذا على تدخل الجيران، وكذلك تدخل بلدان الساحل الشرقي والقوى الأجنبية التي لها مصالح تجارية في المنطقة.

وبالنسبة للدول الواقعة على الساحل الغربي، فهناك نوعان من الخصائص الجغرافية التي يمكن أن تساعد في فهم العلاقات بين الدول، ألا وهما نهر النيل، والموقع المركزي للسودان التي يحدها 7 بلدان أخرى. وتلعب هاتان السمتان دورا مهما في الصراعات التي عصفت بالقرن الأفريقي.

نهر النيل

تعتمد مصر كليا - تقريبا - على النيل في الحصول على المياه. ويتكون النيل من التقاء نهرين -النيل الأبيض والأزرق- يجتمعان في الخرطوم، عاصمة السودان. وتأتي معظم مياه النيل من النيل الأزرق، الذي يمتد شمالا من المرتفعات الإثيوبية إلى السودان، حيث يلتقي النيل الأبيض وينتقل إلى مصر. ولا يضاف لماء النيل شيئا تقريبا داخل الحدود المصرية، ما يجعل مصر تعتمد بنسبة 95% على المياه التي تنشأ خارج حدودها.

وتعد التحالفات بين الدول الغربية الساحلية في البحر الأحمر مائعة، ولكن تدفق نهر النيل باتجاه الشمال يخلق عداء ثابتا -إلى حد ما- بين مصر وإثيوبيا. وتشعر مصر -على الرغم من كونها أقوى بكثير من الاثنين-بالقلق إزاء ما قد تفعله إثيوبيا في المنبع، حيث يمكنها تقييد إمدادات المياه. وتشعر إثيوبيا بالقلق من أن تحاول مصر -بسبب هذا التخوف- التدخل في السياسة الداخلية لإثيوبيا لإبقاء البلاد ضعيفة. وفي الآونة الأخيرة، اتخذ هذا الأمر شكلا في النزاع حول سد النهضة العظيم، الذي تريد إثيوبيا بناءه على النيل الأزرق لتوليد الكهرباء وتأمين مصدر مياه أكثر موثوقية. فالسرعة التي يتم بها بناء هذا السد تؤدي إلى تباطؤ تدفق نهر النيل، مما يهدد إمدادات المياه إلى مصر. وفي الأسبوع الماضي، وافق الزعماء المصريون والسودانيون والإثيوبيون على التعاون في بناء السد، ولكن لا يمكن لأي قدر من الدبلوماسية أن تبدد حقيقة أن إمدادات المياه في مصر تقع في أيدي إثيوبيا.

موقع السودان

تشترك السودان في حدود مع كل من مصر وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا. ويشكل هذا العدد الکبیر من الدول على الحدود وضعا أمنيا صعبا لأي دولة، ناهيك عن دولة تعاني حکومتها المرکزیة ضعفا مزمنا، وتفتقر إلی الموارد اللازمة للتصدي الفعال لھذه التحدیات. وليس لدى السودان سوى مكان مأهول رئيسي واحد على البحر الأحمر، وهو بورتسودان، وهو أيضا الميناء التجاري الوحيد في البلاد. وتفتقر «سواكن»، وهي جزيرة وميناء آخر على البحر الأحمر أبعد من الجنوب، إلى البنية التحتية اللازمة للتبادل التجاري على نطاق واسع.

ولقد ظلت السودان في حالة حرب أهلية مستمرة منذ منتصف القرن العشرين، والتي جذبت جيرانها إلى شؤونها الداخلية. وتسعى دائما إلى الحصول على دعم عسكري أجنبي للدفاع عن نفسها، ولكنها أيضا ذهبت خطوة أخرى إلى الأمام بتصدير التمرد الإسلامي إلى البلدان المجاورة كاستراتيجية دفاعية. وإذا لم تتمكن السودان من الدفاع عن نفسها، فإنها ستحاول إبقاء جيرانها ضعفاء.

لكن من دواعي السخرية أن دعم السودان لإيواء الجهاديين -بمن فيهم «أسامة بن لادن»- قد أثار مخاوف مستمرة بين جيرانها بأن البلاد تحاول تقويض أمنهم، الأمر الذي يشجعهم على التدخل. وتشعر مصر -الجمهورية العربية العلمانية- بالقلق من أن دعم السودان لعدة جماعات إسلامية مصرية قد يهدد النظام العسكري. كما تدعم السودان الجماعات المتمردة الإسلامية في إثيوبيا وإريتريا.

وتدعم إثيوبيا -التى تعتبر المسيحية أكبر دين فيها- الجماعة المتمردة المسيحية الرئيسية في السودان، وهى جيش التحرير الشعبي السوداني الذى أصبح لاحقا جيشا منتظما في جنوب السودان في تمرده في الجنوب ضد الحكومة المركزية. وكان دعم السودان للجماعات المتمردة الإريترية قد قاد الرئيس الإريتري «أسياس أفورقي» عام 1995 ليعلن: «نحن ضد الحكومة (السودانية) منذ الآن. وسنقدم السلاح لأي شخص ملتزم بالإطاحة بها». وأيدت مصر و(إسرائيل) والسعودية موقف إريتريا المناهض للسودان. كما دعمت مصر القوات المناهضة للحكومة في الحروب الأهلية في السودان.

وقد وجدت السودان في إيران صديقا في نهاية المطاف، وتلقت المساعدة الدفاعية منها عام 1989. لكن وجود إيران في القرن الأفريقي كان يشكل تهديدا لموقف السعودية في البحر الأحمر، فضلا عن المصالح الأمريكية في منع انتشار الجهادية إلى منطقة الساحل. ولمكافحة هذا، جلبت السعودية -مؤخرا- السودان مرة أخرى إلى حظيرتها، من خلال تزويدها باستثمارات كبيرة -وصلت إلى 11 مليار دولار بحلول عام 2016- بما في ذلك إيداع مليار دولار في البنك المركزي، لزيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي. وقد دفعت السعودية السودان لإنهاء علاقتها مع إيران. (وبالمثل، قدمت المملكة العربية السعودية للصومال 50 مليون دولار في عام 2016 لقطع العلاقات مع إيران).

ومن الأمثلة الأخرى التي تصور تحالفات المنطقة المتغيرة بشكل ممتاز، العلاقة الناشئة بين الخصوم القدامى، السودان وإثيوبيا. وقد توصل الجانبان إلى أرضية مشتركة بعد إعلان جنوب السودان الاستقلال عام 2011. وبحلول عام 2013، انحدر جنوب السودان إلى حرب أهلية في حرب على موارد النفط بين رئيس الجمهورية الجديدة ونائبه. وأعربت إثيوبيا عن قلقها إزاء انتشار اللاجئين. وفي محاولة لإبعاد إثيوبيا عن الحرب، أقام جنوب السودان علاقات أوثق مع خصم إثيوبيا، مصر. وردت السودان بزيادة تعاونها مع إثيوبيا، التي تعتمد الآن على السودان في توريد النفط. وإذا لم يكن ذلك أمرا مربكا بما فيه الكفاية، فإن مصر تشعر بقلق عميق إزاء المواءمة الإثيوبية السودانية، وذلك بسبب قرب السودان، وميلها إلى إيواء الجماعات المتمردة ضد المصريين، وحقيقة أن نهر النيل يتدفق عبر إثيوبيا والسودان.

إثيوبيا وإريتريا

وتعد إثيوبيا ثاني أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان بعد نيجيريا. وقبل عام 1993، كانت إريتريا جزءا من إثيوبيا، مما أتاح لها الوصول المباشر إلى البحر الأحمر، وجعل إثيوبيا دولة محورية في المباراة الكبيرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولم تتعرض علاقاتهما للانهيار على الفور، بعد أن حصلت إريتريا على استقلال رسمي. ومنذ عام 1993 حتى عام 1998، سمحت إريتريا لأثيوبيا بأن تستخدم بحرية الوصول إلى البحر الأحمر. وكانت الفائدة لصالح إثيوبيا واضحة، وتوفر لإريتريا وظائف ونشاطا اقتصاديا. بيد أنه منذ عام 1998، أثار الخلاف حول منطقة حدودية حربا استمرت لعامين، أسفرت عن مقتل ما يتراوح بين 70 ألف و300 ألف شخص. وأصبحت إثيوبيا تعتمد بشكل كامل تقريبا على جيبوتي للوصول إلى البحر.

وقد تورطت القوى الخارجية أيضا في التحالفات في القرن الأفريقي. فعلى سبيل المثال، كان لـ(إسرائيل) دور في صراعات إثيوبيا. وقبل استقلال إريتريا، كانت (إسرائيل) تدعم تاريخيا إثيوبيا كموازنة إقليمية للسلطة العربية. فإثيوبيا - مثل (إسرائيل) -دولة غير عربية محاطة تقريبا- بالبلدان التي يهيمن عليها العرب (السودان إلى الشمال، ومصر أبعد من الشمال، واليمن والسعودية إلى الشرق). وحتى بعد أن أصبحت إثيوبيا - عام 1974 - حليفا للسوفييت -وبالتالي عدوا للولايات المتحدة، الراعي الرئيسي لـ(إسرائيل)- واصلت (إسرائيل) دعم إثيوبيا (على الرغم من أنها قطعت العلاقات الدبلوماسية معها).

وعندما دخلت إريتريا وإثيوبيا في حرب بين بعضهما البعض، تحولت (إسرائيل) إلى تقديم المعونة إلى إريتريا. وكان الأساس المنطقي يتعلق بالحفاظ على الوصول إلى باب المندب. وبالنظر إلى الأراضي الساحلية التي تم الحصول عليها حديثا في إريتريا، قررت (إسرائيل) أن أي دولة تعانق ساحل البحر الأحمر -في نهاية المطاف- هي التي تحتاج (إسرائيل) إلى التأثير عليها.

وكان القرن الأفريقي -أيضا- بارزا في الحروب بالوكالة أثناء الحرب الباردة. وعلى مدى ما يقرب من 30 عاما قبل استقلال إريتريا، شنت عدة جماعات تحريرية إريترية إثنية عمليات تمرد ضد الحكومة الإثيوبية. وحتى عام 1974، دعمت الولايات المتحدة إثيوبيا، ودعم الاتحاد السوفييتي الصومال، ودعمت مصر واليمن الجنوبي خصوم إثيوبيا في ذلك الوقت. وكان فقدان الغرب لمصر في عام 1973 تعزيزا لموقف الاتحاد السوفييتي على البحر الأحمر، الذي التزم بشدة بإسقاط الحكومة الإثيوبية. وفي عام 1974، نجح في ذلك.

وانقلبت التحالفات، مع دعم الاتحاد السوفييتي للحكومة الإثيوبية، وانحياز الولايات المتحدة مع مصر والصومال إلى الجماعات المتمردة التي تسعى للاستقلال داخل إثيوبيا. ولم تكن الصومال في هذه المرحلة دولة فاشلة بعد، حتى بدأت غزو إثيوبيا عام 1977. كما دعمت السودان جماعات التحرير الإريترية ضد إثيوبيا، على الرغم من أنها ستصبح بعد ذلك خصما لإريتريا بعد حصول إريتريا على الاستقلال.

وفي عام 1987، جاءت حكومة جديدة إلى السلطة يسيطر عليها أقلية عرقية تمثل أقل من 10% من سكان إثيوبيا. ودون رعاية السوفييت، لم تعد الحكومة الإثيوبية تملك الموارد لمواصلة شن حرب لمكافحة التمرد ضد جماعات التحرير الإريترية. وبدأت محادثات السلام عام 1991، وأعلنت إريتريا نفسها -عن طريق الاستفتاء- جمهورية مستقلة عام 1993.

القوى الإقليمية: تركيا وإيران

ومع نقاط الوصول إلى طرق التجارة التي يوفرها البحر الأحمر، وسهولة حظر ذلك الوصول في عدة نقاط، أصبح البحر الأحمر منطقة حرجة، ليس فقط لدوله الساحلية، ولكن أيضا للقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا. كما أن ضعف معظم الدول حول البحر الأحمر يجعل من السهل على القوى الإقليمية الأكبر التدخل والاستفادة من المنافسات لصالحها.

وعلى الرغم من أن السودان قد انحازت إلى العراق خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات، إلا أن ذلك لم يمنع إيران من التقرب من السودان بعد انقلاب عسكري في الخرطوم جلب نظاما إسلاميا يقوده «عمر البشير» إلى السلطة. ومن ناحية أخرى، تسمح السودان لإيران باستخدام مينائها في بورتسودان مقابل دعم عسكري واقتصادي. ويسمح وجود حليف في القرن الأفريقي لإيران شحن الأسلحة إلى السودان ثم تهريبها شمالا عبر مصر إلى حماس في غزة، لتهديد (إسرائيل). كما اتجهت حركة الأسلحة إلى الاتجاه الآخر، حيث كان من المفترض أن تقوم إيران بتهريب صواريخ أرض-جو روسية الصنع من ليبيا إلى السودان، وذلك لدراستها وعكس هندستها من أجل تطوير صناعة الأسلحة الإيرانية.

كما تريد إيران مضايقة وصول منافستها الرئيسية -المملكة العربية السعودية- إلى البحر الأحمر كطريق شحن احتياطي، في حال ما حاصرت إيران الخليج العربي. وقد سعت إلى تحقيق هذا الهدف من خلال دعم التمرد الحوثي في ​​اليمن، الذي يهدد المملكة من الجنوب. وبهذه الطريقة، تهدد إيران السعودية على اليابسة والبحر.

وترتبط مصالح تركيا ووجودها -مؤخرا- في البحر الأحمر بالتجارة والأمن. ولا تزال قاعدتها الجديدة في جزيرة «سواكن» في السودان قيد التطوير، والتي من المفترض أن تمنح تركيا وجودا على جانبي قناة السويس، مما يقلل من اعتمادها على مصر إذا قررت مصر إغلاق القناة. كما أن الاستثمار الذي تقدمه تركيا للسودان لإعادة تطوير القاعدة سيعطيها -أيضا- نفوذا لدى الحكومة السودانية، التي ستتوخى الحذر في القيام بأعمال تهدد تدفق الأموال. وستصبح علاقة تركيا مع السودان ذات أهمية متزايدة لأن صعودها كقوة إقليمية يقودها إلى إعادة النظر في المناطق التي كانت تاريخيا تحت السيطرة العثمانية -مثل مصر- بهدف تطوير عمق استراتيجي أكبر. ويمكن للسودان -على الحدود الجنوبية لمصر- أن تهدد مصر باسم تركيا، وهو ما يمكن استغلاله من قبل تركيا بعد ذلك.

وفي الواقع، فإن موقع تركيا عند تقاطع الشرق والغرب سيجبرها على متابعة مواقف استراتيجية مماثلة لتلك التي ابعتها الإمبراطورية العثمانية بطول شبه الجزيرة العربية والشاطئ الغربي للبحر الأحمر. وتعتبر القاعدة في «سواكن» -والقاعدة العسكرية التركية الحالية في قطر- بالفعل موازية لما كانت تفعله الإمبراطورية العثمانية في شبه الجزيرة العربية.

ويعد هذا اتجاها مثيرا للقلق بالنسبة للدول الساحلية في البحر الأحمر. وتشعر مصر بالقلق لأن تركيا هيمنت -تاريخيا- على شرق البحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن السعودية تشارك تركيا مخاوفها إزاء إيران، فإنها قلقة من أن وجودا تركيا أكبر سيهدد مكانتها كزعيم للعالم السني. ويتذكر السعوديون عندما كانت الإمبراطورية العثمانية - الخلافة الإسلامية - تسيطر على المناطق الساحلية لشبه الجزيرة العربية، وتعلم أن هناك منطقا استراتيجيا لتركيا للقيام بذلك مرة أخرى إذا استطاعت ذلك. فيما يسعد النظام الإسلامي في السودان -من جانبه- بتلقي الدعم من كل من السعودية -التي وفرت له التمويل لإنهاء العلاقات مع إيران- وتركيا، وهي قوة سنية أخرى صاعدة.

القوى البعيدة: الولايات المتحدة والصين

وتبلغ قيمة التجارة بين آسيا وأوروبا عدة مئات من مليارات الدولارات عبر قناة السويس كل عام. ونظرا لاعتماد الصين على الصادرات للحفاظ على النمو الاقتصادى، إذا تم منع المرور عبر القناة، فإن ذلك سيضع ضغطا شديدا على اقتصاد الصين. ويتخصص الاقتصاد الصيني في السلع منخفضة التكلفة. وتعاني الصين بالفعل من الضغط مع ارتفاع تكاليف المدخلات. وإذا كان عليها دفع تكاليف الشحن الأكبر لإرسال البضائع إلى أوروبا حول رأس الرجاء الصالح -لأن قناة السويس مغلقة- ستكون ضربة قوية لها.

ولهذا السبب، فتحت الصين -مؤخرا- أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي، وهي أضعف دولة في البحر الأحمر. واستثمرت الصين أكثر من 15 مليار دولار في توسيع ميناء جيبوتي وأنشطة البنية التحتية ذات الصلة، وعلى الرغم من أن القاعدة بعيدة جدا عن الصين لتزويدها بقوة عسكرية كبيرة بما يكفي لتشكل تهديدا أمنيا حقيقيا للدول المجاورة أو غيرها من القوات العسكرية الأجنبية في جيبوتي (مثل القاعدة الأمريكية في كامب ليمونييه)، إلا أن وجودها يمكن أن ينبه الصين إلى أي مخاطر بشأن حركتها البحرية.

وبالإضافة إلى وجود قاعدة تستطيع من خلالها مراقبة عمليات مكافحة الإرهاب والقيام بها، تعترف الولايات المتحدة -مثل الصين- بالدور الحاسم الذي يلعبه البحر الأحمر في التجارة الدولية. وعلى عكس الصين، فإن الولايات المتحدة هي قوة عالمية هائلة حقا، وتعتمد قوتها -إلى حد كبير- على التجارة الدولية. ولذلك فإن لها مصلحة عالمية في إبقاء الممرات البحرية مفتوحة.

وتسعى الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف في البحر الأحمر من خلال استراتيجية التحالفات مع القوى المحلية. وبعد أن انتقلت مصر من معسكر السوفييت إلى الغرب، بدأت الولايات المتحدة في ضخ المساعدات العسكرية في البلاد لضمان عدم انحرافها، ولبقاء قناة السويس مفتوحة. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقة وثيقة مع مصر، وتقدم مساعدات كبيرة لجيشها، وكذلك مع السعودية و(إسرائيل).

وفي بعض الأحيان، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات أكثر مباشرة. ولا تزال نقاط الاختناق داخل البحر الأحمر مصدر قلق بالغ بالنسبة للولايات المتحدة. وكان الحوثيون متورطين في التنقيب حول ميناء الحديدة اليمني، في محاولة لكسر الحصار السعودي على البلاد.

وقد يكون الشيء الوحيد الذي تشترك فيه دول البحر الأحمر -فيما يتعلق بالهوية- هو أنها جميعا بالقرب من البحر الأحمر. ومع وجود العديد من المصالح المتنافسة -وغياب المؤسسات المشجعة على التعاون الإقليمي- فإن البحر الأحمر منطقة معرضة للنزاعات، حيث تتقلب التحالفات مثل الرياح. وذلك بسبب أن جزءا كبيرا من التجارة العالمية يمر عبر المنطقة، الأمر الذي لا يزيد إلا من حدة صراعاتها، ويجذب المزيد من القوى الأجنبية التي تعتمد على انفتاح الممر. وتمكن نقاط الاختناق -على طول الطريق- الدول الضعيفة المجاورة من امتلاك القدرة على الإضرار بمصالح البلدان الأقوى بكثير، مما يوفر القوة الدافعة للقوى الإقليمية والبعيدة للتدخل في السياسات والحروب الداخلية للبحر الأحمر.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز