عاقبة خطاب الإرهاب الخليجي المجاني على الأقليات المسلمة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1759
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

وجبت الخشية أن يسوقنا الترخص في مفهوم الإرهاب -خلال أزمة الخليج الراهنة- إلى ما لا تُحمد عقباه على طوائف كبيرة من المسلمين. وهنا تبرز الحاجة إلى ما يسميه العلماء "تحري المصطلح" حتى ينضبط، ويصف الحالة موضوع النظر (الارهاب هنا) حصرياً فلا يخرج إلى مقاصد ليست منه.
واشتدت الحاجة إلى مثل هذه الحيطة طالما كانت أمة الإسلام لزماننا هي التي تواضع أهل الشوكة في العالم على أنها موئل الإرهاب. ووجب توخي هذه الحيطة بدقة متى علمنا أننا أمة يعيش خمسها كأقلية في بلاد ذات شأن أو عتوّ. وبعض هذه الأقليات كثرة كاثرة. فلو استقل مسلمو الهند -وهم الأقلية في وطنهم- ببلد لكان البلد الثالث عالميا في غزارة مسلميه.
فلو لم نُنَقِّ المصطلح من شوائب تعلق به في مثل ظرفنا لوجدناه انقلب علينا بوجهين: أولهما، أنه يُغري بنا كل صاحب غرض فيوظفه لغرضه. فسبق لإثيوبيا -قُبيل موت رئيس وزرائها ملس زيناوي في 2012- أن شجعت عقيدة الأحباش التي تدعو "للاعتدال" وتكفّر الوهابية والسلفية، لتكون مذهب المسلمين فيها بدلاً عن إرثهم في التصوف والشافعية وأهل السنة.
وناسب مذهب الأحباش دولة إثيوبيا التي تخشى من فشوّ الوهابية وأنصار القاعدة بين مسلميها. وكان ذلك ما أملى عليها القيام بدور نشط في الصومال لحرب حركة الشباب المجاهدين، المتهمة بتبعية القاعدة، في إطار خطط الاتحاد الأفريقي لاستقرار الصومال. ولقي زيناوي ربه ومسلمو إثيوبيا معتصمين بالمساجد احتجاجاً على تطفل الدولة على خياراتهم الدينية.
أما وجه الخطر الثاني من الترخص في إطلاق مصطلح الإرهاب؛ فمغبة توظيفه في خصومتنا ببلاد المسلمين لتصفية حسابات صحت تصفيتها بغيره. فاتهام جماعة سياسية بالإرهاب مما يدعو إلى تحسين بيئة المعارضة في بلادنا عوضاً عن التأثيم، والمدخل لعلاج منبر إعلامي "فالت" هو تحسين حسّنا بالمهنية وأخلاقها، والمنافسة في ذلك. ولا تليق هنا الدعوة إلى إغلاقه بالضبة والمفتاح على رؤوس الأشهاد.
وتسليم إرهابيين مطلوبين المحكّ فيه الاحتكام إلى الأعراف الدولية لا رجماً، إن لم نعد إلى مسألة تأمين بيئة ديمقراطية لممارسة الخلاف لا تضطر أحداً ليغادر الأوطان.
قُبيل تنابذنا بالإرهاب في أزمة الخليج القائمة وخلالها وجدنا جماعات من المسلمين خضعت لاضطهاد شديد شمل القتل على الهوية.
فتعرَّض المسلمون في الصين والهند للمَنّ والأذى من قومية "الهان" الشيوعية الصينية والهندوسية الهندية بالتتابع، اللتين رغبتا في وطن قومي صافٍ من "دنس" الأعراق الأخرى والديانات.
وهو بالطبع مشتهى كل قومية تتربص الدوائر بالآخر المختلف لكي تمحوه من خريطة الدولة/الأمة ليخلص لها النقاء الخطر. وشهدنا ذروة طلب الصفاء القومي في النازية التي أدخلت بغلوائها العرقي الثقافي مصطلح "الهولوكوست" في القاموس السياسي والجنائي. وآخر تجليات جنون هذا الصفاء هو ما وقع ويقع لمسلمي الروهينغا على أيدي البوذيين الغالبين في ميانمار.
وظّفت الصين الشعبية مصطلح الإرهاب لتفادي أمانٍ للمسلمين الإيغور في إقليم شينغيانغ، ومطلبهم باحترام ثقافتهم في أطر دستورية معلومة. وعدت الأماني والمطلب إرهاباً. وقال عميد كلية الصحافة بجامعة موسكو الدكتور إيفحيني زيتسيف إن مما ألهم المسلمين في الصين على التطرف مدارس أعدوها لهم في إيران وتركيا، يعودون منها لا يلوون على غير الإرهاب.
وعليه أصدرت الصين في أول أبريل/نيسان المنصرم قانوناً لمكافحة الإرهاب استهدف محو ثقافة المسلمين الصينين بجرة قلم حرفياً. فالمادة (109) منه تحرّم ممارسة طقوس العبور الإسلامية في الأفراح والأتراح. ومنعت كل صور ستر وجه المرأة، وتسمية المواليد اقتفاءً لرموز دينية.
وجعلت لمن يبلّغ عن هذه النشاطات المتطرفة جائزة مقدارها 275 يورو. بل شجعت الجماعات المتطوعة المُطَوفة أن يباشروا بأنفسهم مكافحة تلك الممارسات. ولمن فتك بأهلها أو استأصل شأفتها جائزة ثمينة.
ولقي الإيغور المسلمون في شينغيانغ من ضروب التعدي ما أثقل كاهلهم. فجرد الحزب الشيوعي للإقليم حملة سماها "ضرب غرائب الإبل"، بحسب منظمة العفو الدولية؛ صادر خلالها 23 ألف مطبوع ديني، و18 ألف كتاب، و2600 قرص مدمج. واعتقلت السلطات 238 واعظاً غير مرخص، وأغلقت 171 موقعاً لممارسة شعائر الدين وطقوسه. في حين لا يزال الأكاديمي المسلم إلهام توهتي يرزح في الحكم المؤبد لكتاباته على الأسافير (المواقع الإلكترونية).
واستفحلت الهندوسية -من الجهة الأخرى- على مسلمي الهند في سياق الاستضعاف العالمي للمسلمين، وتحت ظل القيادة القومية الوقحة لرئيس الوزراء نارندرا مودي. فنشّطت شعيرتها في تقديس البقرة ومنع ذبحها. فصدر في 25 أبريل/نيسان 2017 أمراً وطنياً عاماً يمنع بيع البقر والجاموس والإبل في زرائب الماشية بالأسواق. ومتى وقع البيع في غيرها اشترطوا -لمنع أن يكون للذبح- أن يكون لزراعي/فلاح آخر بموجب توثيق يحمل اسم البائع وصفة البقرة.
وتحريم ذبح البقر دستوري بحسب المادة (48) منه التي تأذن للولايات بإصدار أوامر محلية لغاية تنفيذ هذا الشاغل. ويبدو أن التحريم كان مما غض القانون الطرف عنه زمنا طويلا حتى قضت المحكمة العليا بدستوريته في 2005. ويصادم الأمر الفدرالي الأخير حقائق الاقتصاد وصون حقوق الإنسان.
فاللحوم ثروة هندية قومية، وبالهند ديانات وأقوام لا يدينون بدين البقرة، بمن فيهم طوائف المنبوذين الغفيرة. فالاستثمار في صناعة اللحوم -البالغ أربعة مليارات دولار- جعل الهند في طريقها لأن تكون الدولة الأولى في تصديرها الذبيح (20% من الصادرات العالمية).
وتسع هذه الصناعة 2.5 مليون وظيفة، بينما نجد في صناعة الجلود المرتبطة بها 8 ملايين وظيفة أخرى. وهي وظائف يغلب فيها المسلمون والمنبوذون والمسيحيون، ممن سيفقدون سبل كسب عيشهم بليل.
وجدت القومية الهندوسية -التي ظلت ترعرعها طائفة من المثقفين في جماعة الراشترايا سينامسيفاك سانغا- في مودي وحزبه بهاراتيا رافعة لاستعلائهم الثقافي. فنادى مودي -في طريقه لرئاسة الوزارة عام 2014- بتحريم ذبح البقر، وجعله التزاماً انتخابياً فتح به الباب للتطرف الهندوسي على مصراعيه.
وسارعت الولايات التي يسيطر عليها حزبه إلى تطبيق الدستور بمنع الذبح بصور مختلفة، حتى بلغت 24 من 29 ولاية. ومودي مترع بدم المسلمين؛ فقد قتل الإرهابيون الهندوس ألف مسلم في ولاية غوجرات وهو على سدة رئاسة وزارتها لا يحرك ساكناً. وبلغ من سوء الصيت حتى أن الولايات المتحدة لم تؤشر له لدخولها في 2001.
وتصادف أن زار كل من الزعيمين الصيني والهندي الولايات المتحدة بعد إزرائهما بحقوق مواطنيهم المسلمين وغيرهم، وبإرهابهم دون رموزهم، وتحريم ما أُهِل به لله، والتجارة الحلال. ففتحت الولايات المتحدة بابها لمودي للمرة الثانية بعد 2016 بعد طول حرمان، بل وأثنى عليه الرئيس دونالد ترمب بقوله إنه جمع الهنود على صعيد واحد.
من الجهة الأخرى، لم تنزعج أميركا الرسمية لخرق الصين لحقوق الإنسان المسلم. وكان ما أرقها في قانون محاربة الإرهاب الصيني هو اشتراطه أن تمنح الشركات التكنولوجية الصين مدخلاً من "باب خلفي" على كوداتها لمحاربة الإرهاب. واستقبلت أميركا مودي بالأحضان والقبلات. وقال الصحفي أشوك ك سينغ -عن لقاء الزعيمين الآسيويين بالرئيس ترمب- إنهم "شبيهنا واتلاقينا": "قبضايات" على رأس قوميات لا حياء عندها في كراهية الأقليات.
ليست كل أطروحة صامويل هنتنغتون عن "صراع الحضارات" فاسدة؛ فهذا الصراع حق ولكنه لا يقع في مواجهات صريحة بين الإسلام والمسيحية أو البوذية مثلاً، ولكن من خلال الدولة/القومية التي نشأت أصلاً على فكرة نقائها مما يشوبها من الأعراق المتعددة والعقائد المختلفة. وهذا ما رأيناه يجري في أميركا والصين والهند بلا مواربة بزعم محاربة الإرهاب.
وسيسرّ بال هؤلاء القوميين الخُرق في بلاد الأقليات المسلمة متى خضنا نحن معشر المسلمين خاصة خوضاً أخرقاً -وعلى العواهن- في شأن الإرهاب، كما في خطاب الأزمة الخليجية.
إننا في عالم على رأسه زعماء قصار القامة، حملتهم إلى حيث هم موجات الكراهية، وطلب العظمة لبلدانهم "مرة أخرى"، وشح النفس. وجعلوا من القيادة بؤرة مجبنة لا قبساً، كما في اشتراط غاندي لها. فقال عنها إنها نزع الجبن من الفؤاد والصدع بالحق. فكان أن تكالب عليه الضغط الهندوسي لتحريم ذبح البقر فلم تلن له قناة. وقال إنه أقسم كهندوسي على خدمة البقر، ولكنه لن يبتذل دينه بفرضه على غيره.
ومن أفضح صور هذا الجبن تذرع الهند الهندوسية في منعها المستجد للذبيح بحجة الرأفة على الحيوان، وهذا باب هوان كبير. فهي -وتحريم الذبيح شعيرة في دينها ودستورها- تتجمل للغرب وتختلس لغته طمعاً في عفوه ورضاه. وخطاب الإرهاب الضرير المستكره في أزمة الخليج الراهنة بمثابة رمي اللحم العبيط (النيء الأحمر) -بعبارة إنجليزية- لذئاب القوميات الكاسرة، التي تذيق أمة المسلمين الصغرى الويلات.
* د. عبد الله علي إبراهيم أستاذ التاريخ الإفريقي والإسلام بجامعة ميزوري
المصدر | د. عبد الله علي إبراهيم | الجزيرة نت