حاولت طيلة الأيام الماضية متابعة لعبة الشطرنج الدولية بين القوى الكبرى و التي اتخذت كمسرح لها المنطقة العربية ، غير أن التزاماتي المهنية و الأكاديمية ، و كدى حادثة اندلاع حرائق الغابات بشمال المملكة و التي تطلبت مني متابعة أكبر خاصة و أن بعض الأهالي بهذه المناطق وضعوا على عاتق طاقم برنامج “إقتصاد × سياسة” مسؤولية جسيمة، و هي إثارة هذا الموضوع إعلاميا، كما أن الموجة الافتراضية التي إجتاحت وسائط التواصل الاجتماعي المطالبة برحيل السيد أخنوش غيرت أولويات الكتابة..لكن مع ذلك ، لابد من العودة إلى مواضيع ذات أهمية بالغة لمنطقتنا العربية و الإسلامية، حالة التنافس الدولي و الحرب الباردة التي عادت للواجهة رسميا من خلال تسابق بين قوة في طريقها للانحدار و قوة فتية صاعدة ..يمكن أن يشكل فرصة كما يمكن أن يمثل دورة جديدة من الأزمات و الفشل التنموي و القهر الاجتماعي و الاستبداد السياسي و فقدان مزيد من السيادة الوطنية و الإقليمية…
و لما كان سياق هذه المقالات له صلة بزيارة الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة و بخاصة مشاركته في قمة جدة ، و سعيه لتشكيل ناتو عربي و منح الكيان الصهيوني القيادة ، فإننا ندعو بلدان الخليج إلى الابتعاد عن الأجندة الأمريكية ، و الحرص على تجنيب هذه المنطقة مخاطر الانزلاق مجددا في صراعات وهمية لا ناقة لها و لا جمل فيها، و نحن نعلم أن أمريكا تحاول إستعمال إيران كفزاعة لتخويف العرب و بلدان الخليج بخاصة، و لا ينبغي بأي حال من الأحوال الانجرار خلف هذه الأجندة، إذا كان الكيان الصهيوني متخوفا من برنامج إيراني النووي فل يقم بقصف إيران مباشرة و دور العرب الحياد، بل و عدم فتح المجال الجوي للطيران الصهيوني لقصف بلد مجاور..و نحن على علم أن القيادة الصهيونية عاجزة عن فعل ذلك، كما أن القيادة الإيرانية رغم خلافنا مع بعض سياساتها، لكن من الواجب الاعتراف بكفاءتها و منهيتها في إدارة الأزمات و تحويل الأزمات إلى فرص، فقد حاولت الإستفادة ببرغماتية و فعالية من حالة الفراغ التي تعيشها المنطقة منذ تحييد نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية..و أيضا بعد تشردم بلدان الجامعة العربية و توجهها نحو مزيد من التفكك و التفرقة، إيران تدرك جيدا أنها مهددة في أمنها ، و لها رؤية استراتيجية و حلم حضاري تسعى لتنفيذه أو إحياءه، و لاضير في ذلك، فالدول كلها تسعى لأن يكون لها نفوذ دولي و تسعى لحماية مجالها الحيوي و ضمان أمنها الداخلي و الخارجي، بل حلم كل دولة أن تصبح قوة إقليمية و دولية مؤثرة…
لكن تضخم قوة إيران كان على حساب إضعاف بلدان المنطقة، و هنا بلدان الخليج تتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الوضع المأساوي، للأسف بعض بلدان الخليج لعبت دور سلبي في وأد ثورات الربيع العربي، وقد شكل هذه الثورات و الانتفاضات فرصة لإعادة التوازن للمنطقة لو تم دعم الشعوب في تقرير مصيرها ، و بخاصة الحالة المصرية، خروج مصر و تحييدها منذ اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني ، و في مرحلة موالية الانقلاب على الرئيس المنتخب ، و دعم الانقلاب و نظام السيسي شكل فرصة لتقوية نفود الكيان الصهيوني بدرجة أولى…في الوقت الذي كان ينبغي على بلدان الخليج دعم الشرعية و تقديم كامل الدعم للقيادة الجديدة ، خاصة و أن هذه القيادة بدأت بالفعل في تغيير التوازنات في المنطقة. للأسف الشديد الأنظمة إختارت حماية الكراسي و لم تنظر إلى أن هذه الثورات الشعبية في بلدان وازنة كانت فرصة لتعزيز أم و استقلال المنطقة… نفس السيناريو تكرر من خلال التدخل السلبي في الثورة السورية و اليمنية و في السودان و المنطقة المغاربية، و للأسف تم خلق حالة لا هي بالديموقراطية و لا هي بالديكتاتورية على النمط الذي كان سائدا، صناديق اقتراع تفرز أنظمة لا هم لها إلا وأد تطلعات الشعوب و كسر إرادتها…
رغم خلافي مع السياسة الإيرانية في المنطقة، و لكن أحترم جهود القيادة الإيرانية في حماية أمنها ومصالحها وقدرتها الفائقة و البارعة في الاستفادة من المتغيرات الدولية و توظيفها بكفاءة لخدمة أجندتها الوطنية و حلمها الحضاري، نفس الملاحظة تسري على القيادة التركية التي بدورها لها قدرة فائقة على الاستفادة من تضارب المصالح بين القوى الكبرى المتنافسة…و خاصة بعد اندلاع الازمة الروسية الأوكرانية..
أرى أن العرب ملزمين بإصلاح بيتهم الداخلي و هنا أجد نفسي ملزما إلى تنبيه شعب بلاد الحرمين إلى المخاطر المستقبلية التي تواجه المملكة في حالة ما تم تنصيب محمد بن سلمان رسميا على عرش المملكة ..و أهم ما يثير إهتمامي في هذه التحولات و التغييرات التي تشهدها المنطقة العربية، هو موقف الإدارة الأمريكية من قضية مقتل خاشقجي ، فبعد زيارة بايدن للسعودية تناسلت الأخبار من البيت الأبيض تفيد بأن “بايدن” أثار موضوع إغتيال خاشقجي و الواقع أن هذه القضية سيتم استغلالها لتعميق الضغوط على المملكة و على رأس هرم السلطة فيها بغرض تقديم المزيد من التنازلات لصالح أمريكا و إسرائيل…و هذا الموقف متوقع، فقد أشرنا في أعقاب إختفاء الصحفي و الإعلامي السعودي “جمال خاشقجي” في مقال بعنوان” قضية جمال خاشقجي سيكون لها تداعيات خطيرة على النظام السعودي ” إلى أن هذه القضية سيتم استغلالها للضغط على النظام و ابتزازه، و هو ما تأكد بالفعل و تزايدت حدة الضغوط والتهديد بالعقوبات الإقتصادية والعسكرية على النظام السعودي…
و برأينا أن الإعتراف بالخطأ خير و أفضل من التمادي فيه، لأن التمادي في هذه الحالة سيكلف السعودية الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، و سكوت النظام و محاولته إستثمار مرور الوقت على أمل أن ينخفض الإهتمام الدولي بالقضية ، هو رهان خاسر و لن يجدي نفعا، كما أن الرهان على كسب دعم أمريكا و الغرب توجه فيه مجانبة للصواب، و لا يعني أن المملكة لن تستطيع التوصل إلى تفاهمات مع هذه القوى و الضغط عليها، لكن ذلك سيكون على حساب تقديم مزايا و تنازلات سياسية وإقتصادية غير متناهية، تضر بمصلحة الشعب السعودي، و بالأمة العربية والإسلامية ككل، لأن بلاد الحرمين ليست ملكا لأهلها، بل هي ملك لنحو مليار ونصف مسلم، فقوة المملكة الناعمة نابعة من أن رسالة الإسلام التي إنطلقت من أرضيها، و على هذه الأرض ولد و بعث و دفن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام و على أرضها توجد معظم المقدسات الإسلامية و في مقدمتها مكة المكرمة والروضة الشريفة…
و بعيدا عن قضية” جمال خاشقجي” فإن النظام السعودي مطالب بمراجعة سياساته، لعل هذه القضية و ما كشفت عنه من نفاق الغرب و خاصة أمريكا، فرصة للخروج من حلف الشيطان، و العودة إلى الحق و العدل، و مقدمة ذلك وقف العدوان على الشعب اليمني، و العمل على إعادة إعمار هذا البلد و تضميد جروح و معاناة ملايين اليمنيين، فلعنة اليمن ستلاحق السعودية حكومة وشعبا و كل من شارك في هذا العدوان و لو بالصمت، و الإنصياع للهوى تحت ذريعة مقاومة وحصار النفوذ الإيراني هو نوع من الجنون ، فالحد من نفوذ إيران يمر عبر بوابة الوحدة العربية والإسلامية، فالسعودية عندما إختارت وأد الثورات العربية ، فهي أضعفت من نفوذها، و ألحقت بأمنها القومي ضررا كبيرا..
نأمل حقيقة أن يدرك إخواننا في بلاد الحرمين خطورة التمسك برأس ولي العهد الحالي ، فاستمراره في السلطة خطر على بلده و على أمته ،و نأمل أن يتحرك ملك السعودية لوقف هذا الخطر القادم، و نقل السلطة لغير ابنه محمد بن سلمان إنقاذا لبلاده، و أيضا الإفراج عن كافة المعتقلين و على رأسهم العلماء الذين نددوا بقصف اليمن و حصار قطر و تغريب بلاد الحرمين و تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد ، ووقف الحرب على اليمن بشكل نهائي و إعادة إعمار اليمن و إعلان المملكة عن براءتها من دعم الثورات المضادة و اتجاهها نحو الاعتراف بحقوق الشعوب العربية في تقرير مصيرها ، و سعي المملكة نحو تعزيز التعاون و التكامل الخليجي العربي الإسلامي و ترميم سياساتها الخاطئة طيلة السنوات الماضية.. فلا مناص من اتخاد هذا الخطوات السياسية ، بغرض تجنيب البلاد السيناريو الأخطر، فمثل هذا الموقف قد يقوي الجبهة الداخلية و يجنب البلاد الكثير من الضغوط الأجنبية ، فالبرغم من موقفنا من سياسات النظام السعودي إلا أننا لا نرغب أن تصبح بلاد الحرمين مستباحة للصهاينة و خاضعة للإملاءات الأمريكية ، فالرجوع عن الخطأ خير و أفضل من التمادي فيه..أما تقديم التنازلات لبقاء ولي العهد الحالي في السلطة فهذا أمر فيه مجانبة للصواب…و موقفنا هذا نابع من حبنا لبلاد الحرمين و لشعب الجزيرة العربية الذي كان له الفضل و السبق في نشر نور الإسلام … و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..