مفارقات الأزمة المالية السعودية بين الداخل والخارج
د. محمود البازي
لعلها دولٌ قليلة تلك التي كانت تُعفي مواطنيها من الضرائب ولا تفرض ضرائب على الدخل أو رأس المال. السعودية في يومٍ من الأيام كانت إحدى هذه الدول، حيث ساهم الإعفاء الضريبي في المملكة، ورخص الأسعار بتدفق الاستثمارات الخارجية وتمتع المواطن السعودي برفاهية لا بأس بها.
ومع وصول “القيادة المتهورة” متمثلة بولي العهد محمد بن سلمان، بحسب ما يصفه “باري بوسن”، خبير دراسات الأمن في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بدأ الاقتصاد السعودي يترنح ويعاني أزمات حادة دفعت بالحكومة السعودية لطرح أسهم أرامكو للبيع، كأول اكتتاب في تاريخ أضخم شركة في العالم. ولم يتوقف هذا النزيف عند هذا الحد وحسب، بل اتجهت القيادة السعودية إلى الحلقة الأضعف وهي لقمة عيش المواطن السعودي، ففرضت عليه ضريبة القيمة المضافة ورفعت الدعم الحكومي. وفي أخر خطوة اتجهت السعودية إلى رفع أسعار البنزين إلى مستوى غير مسبوق بواقع 34 بالمائة.
لا بدّ من الاعتراف بأن جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط (نتيجة التهور السعودي-الروسي ودخول السعودية بحرب نفطية مع روسيا في مارس الماضي) قد ساهما بشكل كبير بتراجع أقوى اقتصادات العالم. ولكن وفي سبيل مكافحة هذا التراجع تتجه الدول الكبرى إلى دعم مواطنيها بمنح مالية، ومساعدات غير مشروطة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. لذلك وبعد مراجعة النهج الصحيح لمواجهة الأزمات الاقتصادية يثور تساؤل مشروع وهو هل اتبعت السعودية هذا النهج؟
ذكرنا في مقدمة المقال بأنّ السعودية لمواجهة هذه الأزمات اتجهت للتضييق على الحلقة الأضعف، وبدلاً من تقديم الدعم الحكومي للمتضررين، فرضت الضرائب ورفعت الأسعار. وكان لهذا النهج أثر سلبي لا يمكن الاستهانة به على حياة المواطن وأسرته. أمّا وفي سبيل تحليل النهج الإقتصادي للسعودية، يجب البحث في بقية نواحي العمل الحكومي، فهل قامت الحكومة السعودية بإقرار خطة تقشف عامّة لمواجهة هذه الأزمات؟
يبدو بأن الحكومة السعودية فرضت خطة التقشف لتطال المواطن السعودي لوحده، وتترك تمويل باقي المشروعات ذات الأهداف السياسية والإيديلوجية، معفاةً من هذه الخطط.
فمن الناحية السياسية وفي سبيل شراء مشروعية رياضية خصوصا بعد مشاكل حقوق الإنسان التي واجهت ولي العهد بعد قتل خاشقجي واعتقال الناشطات السعوديات. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تكافح السعودية لشراء أندية رياضية مثل نادي “نيوكاسل” البريطاني. ومن جهة أخرى تخصص السعودية لحرب اليمن التي لا تزال مستمرة منذ 2015، العديد من المليارات دون السعي لإيجاد حلول رخيصة (قائمة على الحوار مع أطراف النزاع) لا تكلف الخزينة السعودية أيّ دولار.
ومن الناحية الإيديلوجية ولترويج الفكر المتشدد السعودي فلا تزال السعودية تمّول مدارس ومراكز دينية لنشر أفكارها المتشددة في أي مكان استطاعت. وعلى سبيل المثال لا الحصر، امتثلت الحكومة النمساوية أخيرا لمطالب من البرلمان والأحزاب الحكومية وأمرت بإغلاق مركز “الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات” في فيينا، نظراً لخطورة هذا المركز على الأمن القومي النمساوي.
من جهة أخرى وعلى الرغم من كل الإدعاءات الواهية التي يطلقها ولي العهد السعودي بأنّه رجل متحرر وسوف يجعل من السعودية واحة للحرية، إلا أنه لطالما كان المال السعودي الممول الأول للجماعات المتشددة حول العالم. فمنذ زمن بعيد والسعودية تسعى من خلال ضخ الأموال، إلى تأسيس مراكز دعوية ومساجد خاصة حول العالم وذلك لتعزيز الفكر المتشدد ونشر التطرف بين فئات الشباب الفقيرة.
وليس ببعيد نشر هذه المراكز في بعض الدول الأفريقية الفقيرة وذلك للتغلغل بشكل فاعل في المجتمعات الإفريقية وتحويل الشباب فيها إلى شباب يتبنى الفكر المتطرف والمتشدد، وذلك من خلال الحملات الدعوية والأموال التي تصرفها السعودية لتحقيق هذه الأهداف، ولم تتوقف السعودية عند هذا الحد فحسب بل اتجهت هذه المرة نحو أفغانستان. حيث عادت السعودية مرة أخرى لممارسة دورها التقليدي في أفغانستان المتمثل بدعم الجماعات المتشددة هناك (حسب أخر التصريحات لرئيس الإستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل الذي تحدث فيها عن دعم الجهاديين في أفغانستان إبان الغزو السوفيتي “منقول عن رأي اليوم في تقريرها: رئيس المخابرات السعودية الأسبق يكشف دور بلاده بالحرب ضد السوفييت في أفغانستان وعلاقتها ببن لادن”). وفي نفس السياق صرّح السفير السعودي في أفغانستان السيد “جاسم بن محمد الخالدي” بأن السعودية اتفقت مع الحكومة الأفغانية على افتتاح “الجامعة الدولية الإسلامية”، كما تسعى السعودية إلى افتتاح 100 مدرسة دينية أخرى على كافة الأراضي الأفغانية.
خلاصة القول: إن خطط التقشف لمواجهة الأزمات الإقتصادية يجب أن تشمل كافة أجهزة ومشاريع الحكومة وذلك لخفض النفقات وخفض الضغط على المواطن السعودي. ولكن الحكومة السعودية اتجهت نحو فرض الضرائب ورفع الأسعار لمواجهة العجز والديون. أما على الجانب الآخر لا تزال الحكومة السعودية وولي العهد مستمران بتمويل مشاريع ضخمة (وغير ضرورية) لتحقيق منافع سياسية وايديلوجية لا تدّر أي نفع على المواطن السعودي الذي بدأ يشتكي من هذه السياسات المتهورة.
كاتب ومحلل سياسي/ دكتوراة في القانون
مدير قسم دراسات حقوق الإنسان للبلدان العربية في كرسي حقوق الإنسان