المأزق الإسرائيلي والانسداد العربي
الياس خوري
دخلت إسرائيل في مأزق انتخابي لا سابق له: الكنيست يحلّ نفسه بسبب صراع ظاهره شخصي وباطنه بنيوي بين نتنياهو وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، أفيغدور ليبرمان، وإسرائيل مدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة.
والمحيط العربي يعيش انسداداً سياسياً مفجعاً: صفقة قرن يراد تمريرها فوق أشلاء فلسطين، وثلاث قمم متتابعة بهدف الوصول إلى اكتمال دمار المنطقة العربية في حرب أمريكية مشتهاة ضد إيران.
الأمريكيون يحاربون بالعرب، والعرب يريدون أن تحارب أمريكا وإسرائيل بدلاً منهم.
عجزان يتقاطعان، وصفقة قرن دخلت في مجهول الانتظار، أمّا مشروع الرشوة من أجل تمرير ما لا يمكن تمريره، فعليه أن ينتظر. الحاضر غامض والمستقبل مجهول، والعالم العربي يعيش فوضى غياب القيادة والرؤية.
المأزق الإسرائيلي صار صورة كاريكاتورية مضخمة لزعيم يمزج بين نزق ترامب وعجزه، وبين صورة زعيم عربي لا يستطيع أن يتخيل نفسه خارج السلطة. نتنياهو يدفع إلى حل الكنيست بعد خمسين يوماً على الانتخابات. وزعامته صارت أسيرة عاملَين: الخوف من التحقيق القضائي من جهة، والارتهان لتذرر السياسة الإسرائيلية في أحزاب يمينية عنصرية صغيرة مهمتها الابتزاز، من جهة ثانية.
الرجل الذي انتُخب بدعم أمريكي – روسي – عربي، يجد نفسه عاجزاً عن تشكيل حكومة، على الرغم من انتصاره الانتخابي، ومن قدرة معسكر اليمين على الثبات في موقع يحوز فيه أغلبية انتخابية واضحة.
أحلام ضمّ الضفة الفلسطينية إلى إسرائيل في المأزق، فالترامبية كرؤية سياسية قائمة على الصفقات وتغطية العجز بالكلام، لا تستطيع أن تقدم لإسرائيل غطاء يشرعن نهمها التوسعي، كما أن الافتراض بأن المحور الإيراني سيتداعى اقتصادياً ليس أكثر من وهم.
اللعبة صارت شبه واضحة، هناك حلف مؤلف من طرفين: إسرائيل وأمريكا من جهة، والنظام العربي من جهة ثانية. الطرفان يتكاذبان: العرب يريدون دفع أمريكا وإسرائيل إلى الحرب بدلاً منهم، وأمريكا وإسرائيل تريدان دفع العرب إلى بذل مزيد من المال والكرامة في مقابل وعد بالحماية.
وإذا كان المأزق الإسرائيلي سياسياً، ويمكن إيجاد مخرج موقت له، ولو عبر إزاحة نتنياهو، فإن الانسداد العربي صار بنيوياً، ومن الصعب تخيّل طريقة للخروج منه.
فالتورط في اليمن، وإيصال سوريا إلى الحضيض، واستنساخ الديكتاتوريات التي نجحت في قتل روح الربيع العربي، والهوس المذهبي المدمر، كلها عوامل تجعل من النظام العربي المهيمن مجرد لاعب ثانوي لا حول له.
إن التخلي العلني عن ثوابت الحد الأدنى، دليل على أن هذا النظام تعرّى من آخر ورقة تستره. ففاقد الشرعية لا يستطيع أن يقود، أو أن يرسم أفقاً.
لا أدري لماذا أو كيف اقتنع النظام العربي بأنه يستطيع أن يتنكر لفلسطين بهذه الفجاجة؟ هل اعتقد أنه يشتري بقاءه في السلطة بالدعم الإسرائيلي؟ ومَن أقنع قادة هذا الزمن المنقلب بأن أمريكا معنية بالدفاع عنه، وليس همها الوحيد ابتزازه مالياً وسياسياً؟
كانت لعبة النظام العربي في الماضي، أي منذ حرب النكبة في سنة 1948، هي قدرته على بناء خطاب مزدوج ذي وجهين، علني وسرّي: العلني الداعم لقضية الحق الفلسطيني يضبط السري المتواطئ، بمعنى أنه يمنعه من التمادي ويضع له حدوداً، والسري يضبط العلني عبر إفراغه من المعنى من دون التجرؤ على محو بنيته البلاغية.
هذه الازدواجية انهارت فجأة عندما رأى العرب ترامب يرقص على إيقاع طبولهم في زيارته للخليج، والتي جنى منها مئات مليارات الدولارات، ولم يدُر في روعهم أنه يرقص طرباً للمال وليس لطبول الحرب.
حجة النظام العربي لتغطية صفقة القرن هي الحرب التي سيخوضها الأمريكيون والإسرائيليون نيابة عنه. لكن ماذا لو لم يكن هناك حرب؟ ماذا لو بقي ترامب مثابراً على الموقف الذي استنتجه الأمريكيون بعد الحرب على العراق، بأن هذا النوع من الحروب لا يقود إلى مكان؟ وماذا لو قادت الحرب، هذا إذا حصلت، إلى دمار شامل لمنطقة الخليج بأسرها؟
هل يستطيع النظام العربي في هذه الحالة أن يبيع فلسطين في مقابل لا شيء؟ وهل يملك شرعية مهما تكن مصطنعة للقيام بهذه الصفقة؟ وهل مَن يشتري؟
رقصة صفقة القرن قائمة على الخديعة: إسرائيل تريد من أمريكا أن تحارب بدلاً منها، والعرب يريدون من إسرائيل وأمريكا أن تحاربا بدلاً منهم، وأمريكا لا تريد أن تحارب، بل إنها تتكلم لغة الحرب كي تقبض ثمن الكلام، وتوحي بأنها لا تزال سيدة العالم.
الجميع يخدع الجميع، لكن المخدوع الحقيقي هو النظام العربي الذي يجد نفسه اليوم عارياً حتى من لغة يستر بها عجزه.
لكن هذا لا يعني أن مشروع صفقة القرن انتهى، بل سيتواصل، وسيجد مبررات جديدة، ولا سيما أن التورط العربي في العلاقة مع إسرائيل وصل إلى مكان صار من الصعب التراجع عنه، ما لم يحدث تطور جذري يقلب المعادلة.
النظام العربي في الحضيض، ومؤشر هذا الحضيض هو مرور نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بضم الجولان بهدوء مريب.
كما أن الافتراض بأن الحضيض العربي يبرر الحضيض الفلسطيني، ليس سوى تهرب من المسؤولية التي على جميع القوى الفلسطينية، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، مواجهتها بشجاعة باتت اليوم مطلوبة من أجل منع الانهيار الشامل.
العجز العربي عن بيع صفقة القرن وتسويقها وتبريرها، لا يعني أن المشروع الإسرائيلي الأساسي، أي مشروع الإبادة السياسية لفلسطين، سيتوقف. فمن جهة، سيواصل متعهد المشروع، أي الولايات المتحدة، الضغط في هذا الاتجاه، ومن جهة ثانية، فإن إسرائيل ذهبت بعيداً في سياسة الأبارتهايد، بحيث يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة كبرى لم يعد تجاهلها أو العجز عن مواجهتها ممكناً.
التلاعب بفلسطين كان ممكناً وسيبقى كذلك، بسبب الانهيار الذي أصاب فكرة فلسطين نفسها، نتيجة السياسة الخطأ التي افترضت أن الوصول إلى تسوية مشرّفة مع إسرائيل ممكن، على الرغم من ميزان القوى الذي انهار فجأة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب “عاصفة الصحراء”. ذهبت منظمة التحرير إلى فخّ أوسلو الذي اتضح أنه لم يكن سوى تكرار للموقف الإسرائيلي الثابت الذي جسّده اتفاق كامب ديفيد المصري – الإسرائيلي، والذي يحدد المستقبل الفلسطيني بحكم ذاتي لن يصل إلى دولة مستقلة.
هذا صار تاريخاً يجب قراءته ونقده، لكننا اليوم أمام مأزق فلسطيني ينقسم إلى مستويين: مأزق كبير ومأزق صغير.
المأزق الكبير يتجسد في سلطتَي رام الله وغزة. صار الانقسام عاراً، ولم يعد مسألة تقبل النقاش. إنه عار السلطة تحت الاحتلال التي أفقدت بهذا الانقسام قضية فلسطين تفوقها الأخلاقي على المستوى العربي، وجعلتها لعبة في أيدي دمى الأنظمة العربية.
العار هو أن فلسطين صارت ساحة مباحة، ساحة للصراعات العربية، وساحة إسرائيلية، وساحة أمريكية.
هل هكذا يتم التصدي لمحاولة الإبادة السياسية؟
مَن قال إن التنسيق الأمني مع الأجهزة الإسرائيلية مقدس لا يُمسّ؟ ومَن قال إن هذا الجسم البيروقراطي المترهل، وهذه الفقاعات المستكينة لسطوة الاحتلال تمثل شعباً؟
ومَن أوحى بأن المقاومة هي مجرد أداة تكتيكية في لعبة السلطة والتسلط؟
هذا المأزق الكبير الذي فصل منظمة التحرير عن الشعب الذي تمثله، وجعل من الاستفراد بسلطة لا سلطة لها، سواء في الضفة أو غزة، هدفاً، يقود اليوم إلى الاحتضار.
لا مخرج من هذا الاحتضار سوى في الوحدة الوطنية، وهي وحدة لا يمكن تأسيسها إلاّ على قاعدة لها اسم واحد هو مقاومة الاحتلال بالأشكال كافة.
هذا المأزق الكبير وجد انعكاسه في مأزق صغير لكنه بالغ الأهمية والدلالة، هو تشظي القائمة المشتركة في قائمتين خلال الانتخابات الإسرائيلية الماضية.
اليوم هناك انتخابات جديدة فماذا ستفعل الأحزاب السياسية الفلسطينية في إسرائيل؟
لم يكن تشظي القائمة سوى انعكاس للتورم الذاتي والعجز عن صوغ إطار وحدوي حقيقي، وسياسة المحاصصة التي أنتجت مأزقاً كبيراً بعد تعثّر عملية التبادل طويلاً.
المهمة العاجلة هي بناء القائمة المشتركة من جديد، ورفض خوض الانتخابات بقائمتين. إن تكرار تجربة الانقسام ستعني أن جمهور الناخبين سيقاطع الانتخابات، لأنها ستكون بلا معنى.
“الأقلية الفلسطينية” في دولة الاحتلال ليست أقلية إلاّ جرّاء التطهير العرقي؛ لكن هذه الأقلية تمثل أصحاب البلد، وعليها أن تكون كذلك، والأحزاب الأربعة الممثلة لها، ليست سوى أدوات للتعبير الشعبي. ومن هنا تبرز ضرورة بناء برنامج عمل سياسي نضالي لمقاومة السياسة العنصرية الإسرائيلية.
الأمل هو أن تكون القيادات السياسية للأحزاب العربية في الوطن المحتل قد تعلمت الدرس من الانتخابات الماضية، وهو أنها تمثل إرادة موحدة للشعب الذي يواجه الاضطهاد والتمييز العنصري. وهذا يعني أن فلسطين وقضيتها هي فوق الأشخاص والأحزاب، وأن العمل البرلماني في حدود الهامش المتاح ليس استعراضاً، وإنما هو أحد روافد النضال الفلسطيني العام من جهة، كما يستطيع أن يشكل حاجزاً سياسياً وأخلاقياً في قلب إسرائيل نفسها، من أجل عرقلة العنصرية الإسرائيلية ومقاومتها، من جهة ثانية.
من دون إيجاد مخرج نضالي وفكري من المأزق الفلسطيني الحالي، فإن صفقة القرن ستتم حتى من دون وجود مَن يشتري ويبيع، لأن دولة الاحتلال لن تتخلى عن طروحاتها العنصرية الاّ إذا أُجبرت على ذلك.(*)
(*) افتتاحية العدد الجديد من “مجلة الدراسات الفلسطينية” الذي يصدر في 25 حزيران ــ يونيو 2019.