إغتيال خاشقجي: إدارة الأزمة التركية وأسباب الرد الغربي المفاجئ

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1932
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

البشير محمد لحسن
 كانت العلاقات بين تركيا والسعودية متوترةً أصلاً حتى قبل أزمة خاشقجي. يكفي أن نُلقي نظرةً سريعة على الصحافة السعودية أياماً قبل اختفاء خاشقجي لنكتشف مدى انتشاء السعودية بأزمة الليرة التركية في صراعها مع واشنطن. ويعود ذلك الجفاء إلى عدةٍ أسباب من بينها؛ عداء السعودية لتنظيم الإخوان المسلمين الذي ينتمي إليه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتأييد الرياض الضمني للإنقلاب العسكري في تركيا قبل سنتين ثم الموقف التركي الداعم لقطر بعد فرض الحصار الرباعي عليها.
جاء اندلاع أزمة خاشقجي بمثابة السيمفونية التي كانت أنقرة تتمنى الرقص عليها، لذلك عمدت إلى تدويل الأزمة منذ اللحظات الأولى وسعت إلى تقسيط وصول معلومات التحقيق إلى وسائل الإعلام، بل أكاد أجزم أن تسريب التفاصيل الدقيقة من قبيل؛ تقطيع أصابع الصحفي، جمال خاشقجي، واستعمال منشار كهربائي لتقطيع جسده واستماع فريق التقطيع للموسيقى أثناء عملية التخلص من الجثة و غيرها، كل ذلك كان مقصوداً ومدروساً من أجل تأليب الرأي العام ضد السعودية وإعطاء مادة دسمة للصحافة المتأهبة أصلاً. وتسعى تركيا لإطالة الأزمة قدر المستطاع وتضييق الخناق على الرياض مع تكشُّف معلومات جديدة حول عملية الاغتيال والجهة العليا التي أمرت بتنفيذها.
كل ذلك لا يعني أن الأتراك سيؤون أو أنهم يقومون بذلك نكاية في السعودية، بل على العكس، فلو كانت السعودية مكانهم لقامت بذات الشيء أو أكثر.
هناك ثلاثة عوامل رئيسية ساهمت بشكلٍ مباشر في سرعة انقلاب المواقف الدولية ضد السعودية وحشرها في زاوية ضيقة حتى من قبل أقرب حلفائها.
ويرجع السبب الأول إلى مكانة الضحية؛ فهو صحفي سعودي مرموق وكاتب عمود في إحدى كبريات الصحف الأمريكية، الواشنطن بوست، وإضافةً إلى ذلك، فهو يمتلك شبكة علاقاتٍ واسعة جداً ومتشعبة ليس فقط على المستوى الخارجي، كعلاقته الشخصية بالرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، وغيره من زعماء العالم والشخصيات المتنفذة، بل أيضاً داخل السعودية والأسرة المالكة نفسها. كل ذلك يجعل عملية التخلص من شخصية بذات الوزن مُكلفةً وعلى جميع الأصعدة السياسية، الإعلامية والإقتصادية وليست بالأمر الهين الذي تصورته القيادة السعودية.
ويتعلق العامل الثاني بتنفيذ عملية التصفية بحد ذاتها. فإذا كان جمال خاشقجي صحفي معروف على الصعيد الدولي، فإن استدراجه للقنصلية السعودية في إسطنبول لاغتياله من طرف فريق جاء خصيصاً من الرياض لتنفيذ العملية بالطريقة البدائية التي كشفت عنها التحقيقات الجنائية إلى حد الساعة، يطرحنا أمام احتمالان لا ثالث لهما. إما أن جهاز المخابرات السعودي يفتقر للخبرة والتخطيط وهو ليس مؤهل لتنفيذ عملية بذات الحجم على أراضي دولة أجنبية وما يتطلب ذلك من تخطيط وتنسيق مسبق وغيره (مع تنديدنا الشديد بمثل تلك الجرائم)، وإما أن الأمر قد صدر من جهات عليا بالتخلص من خاشقجي بأسرع وقت وقد جاءت الأوامر للتنفيذ وليس للنقاش والمراجعة وهو ما جعل رجال الجهاز يتصرفون بما سمح به الوقت الضيق والظروف المحيطة بالعملية وعدم التحضير والترتيب لاقتراف جريمة مماثلة. وقد ظهر الارتباك والريبة مباشرة مع القنصل السعودي، محمد العتيبي، في جولته بالمقر مع صحفي رويترز، فطريقة حديثه المتلعثمة ونظراته التائهة يميناً وشمالاً وحتى فتحه العداد الكهربائي توحي بأن الرجل يخفي أمراً أو أنه لم يتعاف بعد من آثار الصدمة وهولِ ما رأته عيناه. كما شمل التخبط أيضاً الرواية الرسمية السعودية التي ظهرت غير متماسكة بين تأكيد ولي العهد، محمد بن سلمان، أن جمال قد خرج من القنصلية ثم نفي تلك المعلومات لاحقاً.
العامل الثالث الذي ساهم في انقلاب الرأي العام الغربي والرسمي خاصةً ضد الرياض بهذه السرعة، يمكن تفسيره بأن الغرب قد ضاق درعاً من تصرفات القيادة السعودية الجديدة غير الموزونة. فبعد إعلان الرياض حرباً عبثية ضد اليمن سنة 2015 دون تحقيق أي هدف مع دخول الحرب عامها الثالث وما نتج عن ذلك من سقوط آلاف الضحايا الأبرياء، وهو ما دفع بعض الدول الغربية لاتخاذ قرارات بعدم بيع السلاح للسعودية. التهور السعودي الآخر تمثل في احتجاز رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، مطلع نوفمبر الماضي وهو الأمر الذي زاد من تدهور سمعة العهد السعودي الجديد، فلولا التدخل الفرنسي الحاسم لإطلاق سراحه لظل رئيس وزراء لبنان محتجزاً إلى اليوم كما هو شأن عشرات المغردين والدعاة والنشطاء.
وبعد ردة الفعل الفاترة على كل تلك التجاوزات تَصَوَّر صانع القرار في السعودية أنه بالإمكان فعل اقتراف أي جريمة والاكتفاء بالتهديد بسلاح النفط والاستظلال بعرش الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن طريق صفقات خيالية. ويبدو أن سفينة الأحداث قد جرت بما لا يشتهيه ولي العهد السعودي المتحكم في كل دواليب الحكم في بلاده، فقد بدأت حملات المقاطعة الإقتصادية للرياض، وهي الأكثر إيلاماً، تتسع لتشمل العلاقات السياسية أيضاً بإعلان كل من فرنسا، بريطانيا، ألمانيا وهولندا عن إلغاء كل الزيارات الرسمية للسعودية إلى غاية كشف حقيقة مقتل خاشقجي، وقد تتخذ بقية الدول الأوروبية مواقف مشابهة بل وعقوباتٍ من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكن الشيء الوحيد المؤكد هنا هو أن جريمة اغتيال الكاتب والصحفي جمال خاشقجي لن تمر برداً وسلاماً، بل أجزم أن للعملية ما قبلها وما بعدها والأيام بيننا.
كاتب من الصحراء الغربية