«الإبادة السياسية» هي السبب الأول للوفاة غير الطبيعية في العالم
ماجد محمد الأنصاري
كان ر. ج. رومل باحثاً أكاديمياً متميزاً أفنى حياته العلمية في التنقيب في بيانات العنف والحروب للتعرف على جرائم البشرية.
من أهم إنجازاته الفكرية ابتداعه لمصطلح "ديموسايد" الذي يعرفه رومل على أنه القتل المتعمد لأشخاص عزل من قبل وكلاء النظام الحاكم بناء على تفويض السلطة وفي إطار تنفيذ سياسات حكومية أو قرارات من القيادة.
يمكن أن نطلق عليه بالعربية مصطلح "الإبادة السياسية" حيث استخدمه رومل ليكون أشمل من مصطلح "جينوسايد" وهو الإبادة الجماعية التي تختزل في عمليات القتل التي تستهدف فئات عرقية أو جماعات محددة للتأثير على تركيبتها الاجتماعية أو السياسية.
وبهذا التعريف تمكن رومل من جمع كل أنواع القتل الذي تمارسه الحكومات خارج إطار الحروب ومعاركها، كان هدف رومل من تشكيل هذا المصطلح هو إمكانية احتساب الجرائم الحقيقية للحكومات بشكل لا يغفل أي جانب منها.
النتيجة الرئيسية التي خلص إليها رومل هي أن ضحايا الإبادة السياسية هم أضعاف ضحايا الحروب وهي القاتل الأول للأبرياء في التاريخ الحديث.
وفق تقديرات رومل قتل خلال القرن العشرين قرابة 262 مليون شخص نتيجة الإبادة السياسية أي ستة أضعاف أولئك الذين قتلوا كنتيجة مباشرة للحروب وبذلك تكون الإبادة السياسية هي السبب الأول للوفاة غير الطبيعية في العالم.
يخلص رومل في أبحاثه إلى علاقة طردية بين شمولية النظام وممارسة الإبادة الجماعية، أي أنه كلما تركزت السلطة في يد النظام الحاكم وضعفت الرقابة عليه وضبطه بالمؤسسات التشريعية والقضائية كلما زادت ممارسة النظام لجرائم الإبادة السياسية.
يتضح ذلك مع حصاد جرائم الحزب الشيوعي الصيني (80 مليوناً) والاتحاد السوفييتي (62 مليوناً) والنظام النازي (21 مليوناً)، لا ينفي رومل طبعاً أن الأنظمة الديموقراطية الرأسمالية لها جرائمها كذلك خاصة إبان الاستعمارين الفرنسي والبريطاني حول العالم.
لكن تقديراته تشير إلى فرق واضح في الأرقام بين الأنظمة الشمولية القمعية والأنظمة الديموقراطية أو تلك التي فيها درجة من الفصل بين السلطات والضبط والرقابة للممارسات الحكومية.
العالم العربي في تاريخه الحديث شهد حالات مؤلمة من الإبادة السياسية بدأت بجرائم نظام الاتحاد والترقي والإعدامات السياسية ضد الناشطين العرب ثم جرائم الاستعمار ضد كل من سولت له نفسه دعم مشروع التحرر الوطني.
لكن اللافت هو الجرائم الضخمة التي ارتكبتها "الجمهوريات العربية" في العراق وسوريا ومصر وبنسبة أقل في تونس والجزائر، ومنذ سقوط الاستعمار تغولت هذه الأنظمة حتى أصبحت الإعدامات السياسية فيها واقعاً يومياً معاشاً.
وكلما ظهرت موجة ثورية أو حركة إصلاحية كانت المشانق لها بالمرصاد، فقتل الآلاف من الداعين للحرية على منصات الإعدام التي نصبها الطغاة في كل عصر.
في سوريا والعراق كانت الحكومات العسكرية والانقلابات المتلاحقة مشغولة بإعدام المواطنين أكثر من انشغالها ببناء الوطن. وفي مصر استهل عبدالناصر عهد الثورة بإعدام معارضيه من الإخوان وغيرهم ليكمل من جاء بعده المسيرة على ذات النهج مع اختلاف الرايات،
واليوم وبعد الربيع العربي والفظائع التي ارتكبتها الثورات المضادة تعود الإعدامات السياسية لتتصدر المشهد باعتبارها الأداة الرئيسية لدى الأنظمة لوأد دعوات الحرية التي انطلقت مع بداية الربيع.
مصر تعلن عن 75 حكم إعدام على معارضي الانقلاب العسكري في ملحمة مؤلمة تشخص الواقع العربي، ولكن هذه المرة ليس الأمر حكراً على الجمهوريات العربية، بل تنضم السعودية الجديدة إلى الركب.
فبعد عام من الاعتقالات غير المبررة ليس للناشطين سياسياً فحسب بل لكل من لم يكن متحمساً بما فيه الكفاية للعهد الجديد يعلن عن محاكمات سرية أو غير ذلك يطالب فيها بالإعدام لرجال دين ونشطاء حقوقيين نتيجة قائمة من الاتهامات المضحكة.
الرياض تطبق ذات السياسة التي انتهجتها جمهوريات القمع العربي، كلما أراد النظام تعزيز شموليته هرع إلى الاعتقال ثم الإعدام ثم يخفف بعض الشيء من حدة تعامله مع مواطنيه مع الإبقاء على السيف المسلط والتذكير عند الحاجة بوجوده عبر إعدام هنا وبعض الاعتقالات هناك.
الإبادة السياسية العربية أثبتت مراراً وتكراراً أنها ناجحة فقط في تأخير انهيار الأنظمة، وليس في ضمان استقرارها، واليوم هذه الأنظمة المتأرجحة تنفث نيرانها الأخيرة عبر هذه الإعدامات المرتقبة، وعلى عكس العديد من المراقبين لا أرى في الأفق ما يبشر بأنها مجرد تخويف يتم التراجع عنه لاحقاً.
هذه الأنظمة تعاني من متلازمة هوس السلطة والخوف من ضياعها بالإضافة إلى جنون عظمة، وهذه الثلاثية تعني أن الإعدام لم يعد أمراً يستحق التفكير وأن أرواح المواطنين هي بضاعة يملكها الطاغية.
ربما لا ينتج عن هذه الإعدامات مباشرة أي تغيير على الأرض ولكن نذكر بأن إعدام شخص مثل سيد قطب رحمه الله أفرز جنوحاً لدى فئات من الشباب إلى العنف حيث أقنعتهم التجربة أنه لا مجال للحوار مع حكومات أرخص ما لديها الروح البشرية.
فالقمعيون العرب اليوم يؤسسون لتطرف جديد سيكونون هم وقوده ليحرقهم في النهاية.
* د. ماجد محمد الأنصاري أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة قطر.
المصدر | الشرق القطرية