محمد بن سلمان.. صاحب بنك أم قائد دولة؟
عبدالحميد قدس
تخفق قلوب المواطنين حين يُعلن عن زيارة يقوم بها الملك الى الخارج، سواء كانت للاستراحة أو زيارة عمل. ففي الحالة الأولى، تكون الفضائح، وتكون المصاريف الخرافية، وقد رأينا بعضاً من ذلك، حينما أراد الملك سلمان تمضية اجازته في شاطئ العراة بفرنسا، وبعدها في المغرب، ثم اتجه شرقاً الى بالي بأندونيسيا.
لا يتحرك الملك او ولي العهد إلا بطاقم من الطائرات تحمل معه الخدم والطباخين والمرافقين وعشرات الأمراء والأميرات، فيما تنتظرهم أساطيل من السيارات الخاصة والمستأجرة، وفنادق كثيرة يتم حجزها، وغير ذلك. وخلال الزيارة السياحية الملكية غالباً ما تكون هناك طائرات تتنقل يومياً بين الرياض ومحل إقامة الملك، تأتيه أحياناً ببعض الملفات، وفي معظم الأحيان تأتيه بأمور تافهة، تنمّ عن مرض، وبطر مستطير، مثلما كان يفعل الأمير سلطان (ولي العهد ووزير الدفاع السابق) الذي كانت طائرة جامبو تنقل اليه من الرياض يومياً، حليب النياق، فتصل المغرب قبل أن يصحو سموه من نوم أهل الكهف!
أما اذا كانت الزيارة الملكية، أي التي يقوم بها الملك او ولي عهده، رسمية، للقاء قادة دول أخرى، فقلوب المواطنين أيضاً تكاد تنخلع، حيث يتحول الملك او الأمير الى (كيس من النقود) متنقل، فيوقع الاتفاقات ويقدم الهبات بمليارات الدولارات، ويعود أدراجه الى الرياض، حيث سخط الرعية المكتوم.
حدث هذا في زيارات سلمان، خاصة تلك التي تنقل فيها بين ماليزيا واندونيسيا والصين واليابان وغيرها. وفي كل محطة، كان الحديث عن مليارات، واحياناً عشرات المليارات من الدولارات، يُقال انها صفقات تجارية او استثمارات او ما أشبه.
ولأن الولد سرّ أبيه، بل سرّ عائلته، كان محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة لمصر، ولندن، وسيكون كذلك في زيارته لواشنطن، الشاب النزق الذي ينثر الأموال ولا يُبالي، وكل ما يحصل عليه: شيء من الترحيب من مضيفيه، مختلط بالإحتقار.
مليارات من الدولارات تم الحديث عنها في زيارته لمصر، قيل اولاً ان هناك استثمارات بعشرة مليارات دولار، نصفها تأتي من مصر، وهذا مجرد كلام، فمصر لا تدفع شيئاً، وليس لديها أموال، وإنما تقترض من البنك الدولي وغيره. ثم جرى الحديث عن ستة عشر مليار دولار، مشاريع مشتركة، وما أشبه، وجاء في وسطها الحديث عن مشروع (نيوم) النائم! الذي لازال حبراً على ورق، شأنه في ذلك شأن المشاريع الأخرى (مشروع البحر الأحمر) ومشروع جسر الملك سلمان، وغيرهما.
وفي بريطانيا، تم توقيع اتفاقيات متعددة، بينها شراء عشرات الطائرات الحربية من طراز (تايفون)، كما تم الاتفاق على عقود لعشر سنوات قادمة بقيمة تسعين مليار دولار فقط! ولا نعلم كم سيدفع ابن سلمان لترامب حين يزوره هذه المرّة، وقد دفع قبل نحو عام ٤٨٠ مليار دولار، كما أن زيارته لباريس غير المؤكدة حتى الآن، ستكلف خزينة الدولة المسعودة الشيء الكثير، خاصة في هذا الظرف الاقتصادي الذي يقولون انه عصيب، والذي وقع عبؤه كاملاً على المواطنين على شكل ضرائب، او على شكل منهوبات كما حدث لرجال الأعمال.
إدفع بالتي هي أخشن
من لا يحترم شعبه لا يستحق الإحترام
واحدة من أهم معالم السياسة الخارجية السعودية، هو استخدام المال في شراء ولاءات الدول، وفي شراء الحماية، بحيث ان ملكها او ولي عهدها، يتحرك وكأنه كيس مال متحرك.
لا عيب في استخدام المال في السياسة، ولكن الموضوع في السعودية أصبح مرضاً، بحيث تعوّد الآخرون على ابتزاز آل سعود (خاصة الدول الغربية)، وبحيث تم تعطيل كل إمكانات الدولة في إيجاد مصالح مشتركة غير (الدفع المالي) وكأن البلاد لا يمكن ان تستقيم الا بدفع الأموال ثمناً للمواقف، حتى ولو كانت تافهة.
هناك اليوم عرف بين الدول، وهو ان السعودية لا تتقن شيئاً في السياسة إلا دفع المال، ولا يمكنها أن تنجز شيئاً بدون رشى، ولا تستطيع ان تحمي نفسها إلا بالمال والمرتزقة (كما هو الحال في اليمن مع قوات السودان والسنغال وغيرهما). وللأسف انه فوق هذا كله، لا يحصل السعوديون الا على الإحتقار، وحتى الاحتفاء بهم، مدفوع الثمن ابتداءً.
لم تخطئ الدول أياً كان شكلها ان تعاملت مع حكام الرياض بحسابات المال، فآل سعود عودوا الآخرين على هذا الأسلوب، وشجعوهم على ابتزازهم، حتى الصحفيين فعلوا ذلك، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
لكن السؤال ماذا يقبض آل سعود مقابل هذه الأموال التي يبعثرونها؟
في الغالب فإن الدول المضيفة هي الرابحة، وأن الزائر الملكي يدفع ويعود الى وطنه سالماً غانماً، وقد طُبّق بحقه شعار (اذا جاءكم البدوي فشلّحوه)!
مالجديد مثلاً في موضوع استثمارات مصر، ومقابل ماذا كان الكلام عن عشرات المليارات من الريالات؟
ماذا قبض ابن سلمان من السيسي؟ او حتى من الإنجليز غير الطائرات الحربية، وبضع تصريحات بريطانية ضد إيران، وتضامن مع الرياض في حربها العدوانية على اليمن؟
عاد والعود غير أحمد
هل ما دفعه ابن سلمان ثمن معقول؟ دعك من الفضائح والتشهير الذي لاحق ولي العهد، والذي وصلت اصداؤه الى كل اركان الدنيا، وسببت انزعاجاً لديه، وهو الذي كان ينتظر حفاوة شعبية الى جانب الحفاوة الرسمية.
لأن ابن سلمان عاد خالي الوفاض، توقفت الحملة الدعائية لزيارته في الصحافة المحلية بمجرد أن عاد. لأن هناك عنصرين كانا عماد زياراته، وهما سبب أساس في الاحتقان الشعبي، الذي لم يقدر الا القلة في التعبير عنه.
مادامت المملكة تعيش أزمة اقتصادية، كما يزعم ابن سلمان نفسه، ما استدعى هيكلة الاقتصاد، بل وتغييره كلياً، من اقتصاد ريعي الى ضريبي.
وما دامت الدولة تقوم فعلياً بحل الأزمة على حساب المواطن من ناحية الضرائب.
وما دام ابن سلمان قد أوقف معظم مشاريع الدولة بحجة التقشف، ما دفع بالشركات الى الإفلاس وتسريح موظفيها.
ومادامت رؤيته العمياء لا تستطيع إيجاد حلول لأزمات المواطنين في البطالة والصحة والتعليم والإسكان، في وقت قريب.
ومادام ابن سلمان يتحدث عن بيع أرامكو من اجل استثمار أموالها في مشاريع نفطية أخرى..
ومادام ابن سلمان يدعو الدول الأخرى والشركات الى ان يستثمروا في السعودية.
فمال بال هذا الصبي الأرعن ـ إذن ـ يستثمر في الخارج، حسبما هو معلن؟ ولماذا يبعثر أموال المواطنين في شراء ولاءات وفي تغطية سياساته الرعناء كما في اليمن وغيرها؟
هذا الموضوع المالي لا يمكن للصحافة الحديث عنه، او التركيز عليه، كونه يؤجج النقمة في نفوس المواطنين الذين يصطلون بضرائب محمد بن سلمان ورؤيته. في حين ان نثر الأموال في الخارج واحدة من أبرز ملامح زيارة أي ملك او ولي عهد!
والموضوع الآخر الذي جعل الصحافة صامتة او غير قادرة على الدفاع عن ولي العهد، هو ان زيارة الأخير، وبسبب ما واجهه من اعلام ودعاية مضادة في بريطانيا، خاصة فيما يتعلق بتجريمه بسبب عدوانه على اليمن، وانتهاكاته لحقوق الانسان في البلاد.. قدّم ابن سلمان تنازلات ليس في الموضوع اليمني، ولا في مجال اطلاق سراح معتقلي الرأي، ولا في موضوع الإصلاحات السياسية، وإنما ركّز على موضوع يعجب الغرب، وهو (تحرير المرأة السعودية)، التي ستقود سيارتها قريباً، والتي سُمح لها بدخول الملاعب الرياضية، كما انها تتمتع بمشاريع الترفيه التي تتعهدها هيئة الترفيه التي يشرف عليها ابن سلمان نفسه، وغير ذلك.
موضوع المرأة في السعودية جدلي، وان يُستخدم كرسالة للغرب، لتحسين سمعة آل سعود، والقول بأن ولي العهد إصلاحي ومنفتح وليبرالي وغير ذلك، هو أمرٌ مقزز.
لكن ما يستطيع ابن سلمان بيعه في الخارج، لا يمكن تمريره في الداخل.
نعم يستطيع ابن سلمان ان يتحدث عن المرأة وحقوقها لدى مضيفيه الغربيين. ويستطيع ايضاً ان يقدّم المزيد من الوعود في هذا الجانب. لكنه يدرك بأن سياسة حرق المراحل، او ما أسماها هو بأسلوب الصدمة، له آثار كارثية، على النظام نفسه، وعلى النسيج الاجتماعي. فالإنتقال من منظومة قيمية الى أخرى، بحاجة الى زمن، والى نقاشات شعبية وتثقيفية موسعة، والى ضوابط وتشريعات قانونية، وكلها غير متوفرة، ما يجعل البلاد أشبه ما تكون منفلتة من الناحية الاجتماعية، بغض النظر عن مسألة الحلال والحرام.
كان المواطنون يستاؤون من طابور الرؤساء والوزراء الأجانب الذين يتدافعون على الرياض، لأنهم يعلمون ـ بما يشبه اليقين ـ أن كل واحدٍ منهم جاء ليستلم حصّته او حصّة بلاده من خزينة الدولة المُسعودة. ولكن فاتهم أن الزمن تغيّر، وأصبح مطلوباً من الملك وولي عهده، إضافة الى ذلك، ان يحملا كيس المال للتوزيع على الدول.
نعم شهدنا ترامب في الرياض، الذي اشترط قبل حضوره ان يحصل على قدرٍ من المليارات، وقد استُجيب له.
ونعم قد جاء رئيس السودان، ليبيع جنوده، ويستلم ثمن جثثهم مقدماً أو مؤخراً لا فرق، وقد كان فيهم من الزاهدين.
ونعم قد جاء رؤساء ورؤساء وزراء كثر الى الرياض، إضافة الى مسؤولي جمعيات وأحزاب واعلاميين ومؤسسات إعلامية، والجميع قد (قبض).
وذات العملية تتكرر حين ينطلق الملك او ولي عهده للخارج، فهناك جيوش من المنتفعين تنتظره، من شركات الليموزين، الى أصحاب الفنادق والمطاعم، الى شركات الإعلانات، مروراً بأعضاء البرلمانات، وممثلي وسائل الاعلام، وانتهاءً بأصغر موظف في السفارة السعودية ـ إن كانت في القاهرة او لندن ـ حيث يقوم ولي العهد بدفع (الشرهة المالية) لهم، ولمن يأتون من الطلبة او المواطنين المقيمين للسلام عليه (حتى السلام والترحيب مدفوع الثمن)!
هذا كله يعطيك انطباعاً أن السعودية أبعد ما تكون عن دولة المؤسسات، او دولة يحكمها قانون يمنع العبث بخزينتها ومستقبل أجيالها. كل ما تراه مختزلاً في شخص واحد: الملك أو إبنه، بيدهما مقدرات الدولة، يعبثان بها بدون رقابة أو مساءلة، وكأنهما ينفقان من مالهما الخاص، ويتعاطى الإثنان مع المليار دولار، وكأنه مائة!
هل يمكن لعقلية كهذه ان يكون لديها رؤية لحاضر الوطن ومستقبله؟
وهل يمكن لأمراء منفلتي العقال أن يبنوا دولة، او يحافظوا على ثروة، أو يحترموا حقاً للشعب؟
وهل يحق لنا الشك ـ مجرد الشك ـ في رؤية ابن سلمان وتوصيفها بأنها عمياء؟