عن السعودية التي تحاول تجديد شبابها: محاولة لرسم التحول من عبد العزيز إلى محمد بن سلمان

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2625
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

طلال سلمان
 عاشت المملكة العربية السعودية في قلب الصمت والذهب عهودها الاولى، مغلقة على نفسها، وقد انصرف مؤسسها المقاتل عبد العزيز آل سعود إلى تصفية خصومه في الداخل بالسيف او بالذهب، مستعيناً بخبرات سياسية وادارية من اقطار عربية أخرى، بينها سوريا ولبنان والعراق ومصر الملكية.
لم يخرج الملك عبد العزيز من مملكته الا مرة واحدة، وذلك للقاء الرئيس الاميركي روزفلت في “البحيرات المرة”، في عرض قناة السويس، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، من دون أن يعرج على القاهرة، مثلاً، للقاء الملك الشاب آنذاك فاروق الاول. كان ابن الصحراء ورهينتها.
ولقد حاول الملك عبد العزيز غزو اليمن.. فلما تعثرت حملته ارسل ابنه فيصل ليقودها.. فلما تعذر عليه التقدم صالح مليكها احمد حميد الدين، وإن ظل يحمل لها الضغينة التي تتبدى اليوم مغسولة بالدم عبر حرب الابادة الظالمة التي تشنها المملكة على اليمن السعيد، بالاشتراك مع دولة الامارات العربية المتحدة، فتكاد لا تُبقي فيها بشراً، كباراً وأطفالاً، وتدمر عمرانها التليد..
بعد عبد العزيز تولى ابنه سعود الملك، وكان مُحباً للحياة، إلى حد ما… وهكذا خرج من المملكة فزار اكثر من دولة عربية (مصر عبد الناصر وبلاد الشام، ومن ضمنها لبنان..)، ثم كان أن اصطدم بجمال عبد الناصر، وتآمر عليه وحاول اغتياله برشوة احد اقرب الناس اليه، عبد الحميد السراج.. وانكشفت المؤامرة، فانقطعت صلته بالخارج، العربي اساساً، إلى حد كبير.
بعد هذا الفشل المدوي، تخلصت الاسرة من الملك الفاشل ليأتي بعده الامير اللامع فيصل بن عبد العزيز الذي ناهض عبد الناصر، وقاتله في اليمن بعد ثورتها في ايلول 1962، ثم صالحه، بشروطه، إلى حد ما، وكان من بينها انسحاب القوات المصرية من اليمن، بعد تسليم السعودية بالنظام الجمهوري فيها.
ولقد نجح الملك فيصل في أن يشكل قوة معترضة على سياسات عبد الناصر.. لكنه بكاه عندما بلغه خبر وفاته، ونهر ابنته التي جاءته مزغردة “تبشره” بزوال خصمه الكبير، قائلاً لها: إنما صرت كبيراً لأنني خاصمت كبيراً، فاصمتي!
وبين الانجازات التاريخية للملك فيصل انه أقدم على اتخاذ القرار بتأميم النفط، مفاجئاً بذلك الولايات المتحدة الاميركية (شركة ارامكو)، وذلك تضامنا مع مصر وسوريا في حربهما ضد العدو الاسرائيلي (1973)..
لكن أباطرة النفط، وهم قوة عالمية لا تحد، سرعان ما دبروا مؤامرة لاغتيال هذا الملك الشجاع على يد واحد من ابناء بعض اخوانه الذي اتهم بالجنون، بعد سنتين من قراره التاريخي.
ورث الحكم ملك ضعيف، خالد بن عبد العزيز.. لكن الملك الفعلي بدءا من اوائل 1979 كان قد استقر بين يدي الامير فهد.
مع نهاية العام 1979 اهتزت المملكة بزلزال مدمر: احتل تنظيم اصولي خطير بقيادة جهيمان العتيبي الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، مكفراً آل سعود، معلنا الثورة ضدهم والعمل لخلع “هذه الاسرة الفاسقة، الخارجة على الدين”.
واضطرت مملكة الصمت والذهب إلى الاستعانة بالقوات الخاصة الفرنسية والاردنية “لتحرير” الكعبة والقضاء على هذه الجماعة الاصولية التي هزت ركائز الحكم في مملكة الصمت والذهب، وتمكين الامير فهد من تولي الحكم، فعلياً، عشية وفاة اخية الملك خالد.
ثم ضرب المرض الملك فهد فأعجزه.. فتولى الامير عبدالله بن عبد العزيز، وكان قائد الحرس الوطني، الرديف القوي للجيش الملكي، ولاية العهد.. ثم استلم العرش بعد وفاة الملك الذي أعجزه المرض بعدما كان تقدم للعب دور عربي كبير، تجلى أكثر ما تجلى في الشراكة الوطيدة التي ربطته مع الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد والتي استمرت مع الملك عبد الله بعد رحيل الملك فهد.
واستمرت الشراكة السعودية ـ السورية بين الملك عبدالله والرئيس بشار الاسد، بعد رحيل حافظ الاسد، وهي قد شملت لبنان، بطبيعة الحال، مع الدور المميز الذي لعبه الراحل رفيق الحريري. الذي كان قريبا من الملك فهد، وتحول في ظله وبرعايته إلى صاحب دور سياسي مميز تجاوز حدود لبنان الذي تولى رئاسة الحكومة فيه لسنوات طويلة، إلى وما حوله، بل العواصم البعيدة (باريس اساساً، ثم واشنطن وروما ولندن الخ فضلاً عن العواصم العربية، قريبها والبعيد)..
على أن علاقة السعودية مع سوريا قد اختلت اختلالاً خطيراً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان، قبل ثلاث عشرة سنة من تاريخه. ثم تحولت إلى جفاء، قطعته زيارة مفاجئة من بشار الاسد إلى الملك عبدالله في الرياض ثم قدوم المسؤوليّن الكبيرين معاً إلى بيروت في طائرة واحدة..
لكن الله “الذي قد يجمع بين الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا” لن يمنع تخاصمهما مرة أخرى إلى حد القطيعة، ثم اتهام دمشق الرياض بمساعدة معارضيها وتسليحهم في الحرب في سوريا وعليها.
بعد وفاة الملك عبدالله تولى الحكم الملك سلمان الذي كان قد أمضى ردحاً طويلاً من الزمن أميراً للرياض.. وكان خلاف اشقائه، قارئاً ومحدثاً لبقاً، وله صلات وطيدة ببعض رجالات العرب في عواصم كثيرة بينها القاهرة.. ويذكر له انه قد سجل اسمه كمتطوع في السويس، أي قبيل العدوان الثلاثي على مصر (1956)..
كانت المملكة، على حد تعبير الملك الجديد، تعاني من بعض امراض الشيخوخة، وهكذا فقد بادر إلى مجموعة من الاجراءات لتجديد شباب المملكة: بداية عزل الامير مقرن ولي العهد، ليعين الامير محمد بن نايف ولياً للعهد، ثم ليعين نجله الامير محمد بن سلمان ولياً ثانياً للعهد.. قبل أن يعزل محمد بن نايف، ليخلي الساحة لنجله الشاب الطموح، والذي حاول أن يقدم نفسه كرجل عصري ومستنير، فاستعان ببعض دور الخبرة الاميركية لإعداد ما (أسماه المملكة ـ 2030).
بعد حين أكمل الملك وولي عهده خطة إبعاد الامراء الاقوياء والاعظم ثراء عن مواقع السلطة والنفوذ… وهكذا في ليلة واحدة، تم احتجاز اكثر من عشرين اميراً، وبضعة عشر رجلاً من كبار رجال الأعمال، في أحد أفخم الفنادق في العالم (فندق الريتز في الرياض) بينما ارسل الاقل ثروة إلى السجون..
كانت حصيلة هذه الكبسة حوالي ثلاثمائة مليار دولار، صادرها ولي العهد لخزينة المملكة، ثم اخذ يطلق سراحهم تدريجياً..
وبين من اعتقل، على هامش هذه الحملة، سعد الدين رفيق الحريري، رئيس حكومة لبنان.. وقد أُبقي قيد الاحتجاز لعشرة أيام، ولم يطلق سراحه الا بشفاعة صارمة من رئيس جمهورية فرنسا، الذي صودف أن كان في زيارة لدولة الامارات، فقطعها ومر بالرياض، والتقى بولي عهد السعودية ورجلها القوي الامير محمد بن سلمان فتوسط ـ بحزم ـ لإطلاق سعد الحريري، ثم لفك أسر عائلته التي كانت ـ هي الأخرى ـ محتجزة في الرياض.
وقد أثار هذا الاحتجاز اللبنانيين، دولة وشعبا، ورأوا فيه مساً بكرامتهم وكرامة دولتهم..
على أن المملكة سرعان ما طيبت خاطر هؤلاء اللبنانيين، فأوفدت وزيراً، دار على المسؤولين مطيباً خواطرهم، ثم وجه دعوة إلى الرئيس سعد الحريري لزيارة المملكة، فزارها والتقى الملك سلمان، ثم بعد ثلاثة أيام التقى ولي العهد الامير محمد وشقيقه سفير المملكة في واشنطن، والتقطوا صور سيلفي والاميرين عاريي الرأس.. بلا كوفية حمراء وعقال اسود.
ها هو ولي العهد السعودي، الامير محمد بن سلمان يباشر، اليوم، نشاطه الخارجي، فيزور القاهرة ولندن، وهو في الطريق إلى واشنطن ليلتقي الرئيس الاميركي بوصفه “الملك العتيد”.
ولسوف يحظى “الامير الثائر” بالترحيب بوصفه امير التغيير في المملكة العجوز وان كانت من ذهب، خصوصاً وانه صاحب قرارات الانفتاح التي طال انتظارها: فسمح للمرأة بقيادة السيارة، والجلوس في المقهى، والذهاب إلى السينما من دون محرم، وحضور مباريات كرة القدم..
لكن هذه القرارات الشجاعة، في مملكة الصمت والذهب، لا تمنع من حقيقة أن المملكة تعيش اوضاعاً اجتماعية قلقة.. فالرعايا لم يتعودوا الالتزام بدوام الوظيفة الطويل، خصوصاً وان اجورهم لا تلبي احتياجاتهم.. وهم قد اعتادوا أن يتركوا “الاجانب” يعملون، مفترضين أن وظائفهم هي بعض حقهم او نصيبهم من ثروة البلاد.
في أي حال فان المشهد السعودي جديد في بابه، ويستحق الاهتمام، وان كانت الحرب الظالمة على اليمن قد باتت مكلفة جداً، سياسياً على مستوى الرأي العام الدولي (ومن ضمنه العربي)، خصوصاً وانها قد استطالت اكثر مما كان مقدراً لها، ثم انها اخذت تتحول إلى “حرب ابادة”.. بالتعاون مع مرض الكوليرا الذي ضرب البلاد الفقيرة اصلاً، والتي اضرت بها الحروب على السلطة، التي سعرتها السعودية ومعها دولة الامارات العربية المتحدة التي احتلت بقواتها الهجينة مدينة عدن وبعض شواطئها والجزر المواجهة.
*****
أين مصر من ذلك كله؟
أين دور مصر في المنطقة التي تعيش مرحلة اضطراب خطيرة تهدد دول التاريخ ومدنه في سوريا والعراق، اضافة إلى اليمن، بعير أن ننسى ليبيا التي سقطت دولتها سهواً..
أين دور مصر في فلسطين، وهي التي لا تعوضها فيه أي دولة عربية أخرى..
انها اسئلة مصيرية، ننتظر اجوبتها الي لا مفر من تحضيرها وتحمل تبعاتها..
كاتب ورئيس تحرير وناشر صحيفة السفير
نشر بالتزامن مع “الشروق” وصحيفة “القدس” المحلية