دولة محمد بن سلمان: تحديث أم حداثة؟
يختلف الباحثون حول تفسير ما يجري في المملكة السعودية، هل يتعلّق باتجاه فعلي نحو «الحداثة»، أم أنّه مجرّد تحديث سطحي للنظام؟
هناك من يؤكّد أنّ مشاريع وليّ العهد محمد بن سلمان ليست إلا محاولة أميركية لإنتاج «سعودية أكثر معاصرة»، قابلة للحياة في إطار الدعم الدائم للنفوذ الأميركي في العالم الإسلامي، ويستشهدون بالرئيس الأميركي السابق أوباما الذي أشار غير مرّة إلى ضرورة التصحيح الداخلي في المملكة، الذي هو «أساس مشكلتها»، كما قال في مناسبات متعدّدة. وهذا يعني أنّ البيت الأبيض يعتقد أنّ التقليل من «قرون أوسطية» السعودية يؤمّن مسألتين: استمرار نظام آل سعود، وتمتين الاحتكار الأميركي للقوة في العالم عموماً.
لجهة تبنّي الحداثة، فهذه مسألة تتعلّق بالفكر أولاً، وهي بدورها جناحان مترابطان السياسي المتعلّق بالنظام الملكي الدكتاتوري المتجسّد في حكم عائلة تستند إلى العادات والتقاليد القبلية المناسبة لها، وتأبى الالتزام بقوانين ودساتير واضحة. أمّا الجناح الثاني، فهو القراءة الوهابية للإسلام التي تُمسك بالمجتمع بمؤسساته الدينية والتعليمية، وتمنح الحكم مجتمعاً منصاعاً له بالتنشئة المتشدّدة منذ الولادة. لذلك فهما جناحان يُمسك بالقوة الأساسية فيهما الحكّام السعوديون، الذين يسيطرون بهذا التحالف على السياسة والاقتصاد والأمن والجيش والتعليم والوظيفة العامّة، والدين نفسه الذي ينصّب الملك السعودي وليّاً للأمر لا رادع لقضائه، ولا رادع لمصالحة وإمكاناته.
وهذا ما يُقصي إمكانية «الحداثة» في دولة ابن سلمان، لأنّه يتشدّد في دكتاتورية الحكم مقلّصاً مداه من نحو عشرة آلاف أمير سعودي كان يحقّ لهم بالتتابع الزمني تولّي الملك، وحصره في «نفسه»، أيّ محمد بن سلمان وأولاده، ناقلاً المملكة من الدولة السعودية إلى «المملكة السلمانية». أمّا على مستوى الفقه الوهابي، فلم يقدّم ابن سلمان قراءة تصحيحية له بقدر ما جنح إلى محاولة الحدّ من التقاطعات العلنية مع الإرهاب إلى مستوى التأييد الضمني. وهذا يؤكّد أنّ الحداثة التي تعني فكرياً المساواة بين الناس واعتماد نظام تعليمي عصري، هي مسائل مستحيلة في مملكة تعشش في ظلام فكري دامس.
بَيْد أنّ لهذا النأي النسبي بالمملكة عن الإرهاب، سببه أيضاً هزائمها في لبنان وسورية والعراق ومراوحتها في اليمن. الأمر الذي يكشف أنّ الفكر الإرهابي السعودي يختبئ للضرورة السياسية في هزائم الإقليم متربّصاً لمناسبات أخرى يستطيع العودة إلى ممارسة جرائمه.
وهذه التحليلات تؤكّد اتجاه وليّ العهد نحو تحديث سطحيّ مرتبط بتفاهمات عميقة مع الأميركيين، فما معنى السماح للمرأة بقيادة السيارة في السعودية؟
أيمكن الاستنتاج بأنّها نالت حريّتها؟ وحرية المرأة ارتبطت في العالم المتحضّر بمشاركتها في عمليات الإنتاج وحيازتها على قسم كبير ممّا تعتاش به، فتصبح مالكة القسم الأكبر من قرارها! أهذا ممكن في دولة سعودية يعتبر فقهها الديني أنّ المرأة للمخدع فقط، وهي أشبه بجارية «تتبرقع» ولا تخرج إلا بإذن، ولا تسافر إلا بإذن، ولا تعمل إلا بإذن من الزوج؟!
فالمرأة إلى جانب السعودي الرجل بحاجة لنظام تعليمي حديث يقود إلى الدولة الحديثة، ولا يؤدّي لتراكم شهادات في الشعر والنثر والتجويد والزّجل لا علاقة لها بأسواق العمل.
التحديث إذن هو مجموعة إجراءات تشبه تزيين منزل من واجهته الخارجية، فيبدو جميلاً في الشكل لكنّ مضمونه شديد التخلف.
والتحديث كما هو متعارف علمياً، لا يؤسّس لنظام مستقبلي حديث بقدر ما يرفع من معدلات الاستهلاك، وهذا يصبّ في مصلحة الصناعات الغربية فتبيع سلعاً أكثر ومنتجات مضاعفة، مقابل جمود التقدّم في المملكة التي لا تمتلك أساس التقدّم الصناعي، وهو الفكر الديمقراطي والعلم.
فإلى أين يذهب إبن سلمان؟
بعيداً من نظرية المؤامرة التي تتّهم الأميركيين بكلّ ما يحدث في العالم، لا يجوز في الحالة السعودية استبعادها، لأنّ السعودية تمتلك عناصر تؤمّن استمرار النفوذ الأميركي في العالم، وهما النفط والأهمية الدينية الناتجة من وجود الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنوّرة. وما يعنيه هذا الأمر من ارتباط أكثر من مليار وخمسمئة مليون نسمة بهما.
فتفتّقت العبقرية الأميركية عن ضرورة تطوير السعودية على المستوى المادي، مع المحافظة على دكتاتوريتها فكرياً. وتبيّن أنّ محمد بن سلمان هو الحلّ المناسب… ينتحل صفة إصلاحي بعقل طاغية، محمّلاً مسؤولية التراجعات الاقتصادية لبلاده في مئات من الأمراء من أصحاب المواقع الهامّة في تقاطعات السلطة والمال، فيستطيع عبر تجريدهم من إمكاناتهم الإمساك بالسعودية بمفرده عبر وضع آلية توريث جديدة في عائلته الصغيرة فقط. وهذا يتطلّب إقناع السعوديين أنّهم أمام حركة حداثة لن تتوقف إلا ببناء نظام إنتاج دائم لمرحلة ما بعد النفط… محاولاً الضحك على الناس بالفرار من نظام ريعي يقوم على النفط بشكل كامل إلى نظام ريعي آخر يستند بدوره إلى السياحتين العامة والدينية، على أساس «الاستثمار في المسلمين» سياسياً واقتصادياً أيضاً، مؤدّياً دورين في آن معاً وضع المسلمين في خدمة النفوذ الأميركي، واستنزافهم اقتصادياً في سياحات دينية على أضرحة ومواقع لأنبياء وأئمّة وحضارات ليس لآل سعود أي علاقة بها على المستويات التاريخية والفقهية والانتمائية.
الحداثة إذاً مستبعَدة تماماً، وما يجري مسألة تحديث لتحسين الصورة الخارجية للمملكة، وتنفيس نسبي للاحتقان الداخلي السعودي برعاية أميركية كاملة. هذا ما سمح لمحمد بن سلمان بضرب أصحاب القوة في مملكة الرمال، مستحوذاً على المواقع كلّها ومحاولاً ضخّ عقود جديدة في حياة جسد يترنّح لإصابته بأمراض بنيويّة.
أمّا التغطية بمحاولة تصوير الصراعات الداخلية على أنّها قتال ضدّ الفساد، فأمر ينفيه التحليل الرشيد، لأنّ كلّ ديكتاتورية إنّما هي منتجة طبيعية لفساد دائم لا يتوقّف حتى لو جرى استئصال أحد أجنحته. والمسألة مسألة فهم عام في العائلة المالكة على أنّهم ربحوا هذه الأرض السعودية بالسيف، وهي ملك خاص لهم بأرضها ونفطها وأهلها وسياساتها، يفعلون ما يحلوا لهم ويوزّعون «مكرمات» على شكل رواتب وأجور. فكيف يمكن إذاَ التطوير في حمى ذهنية تحكم باستلهام مفاهيم القرون الوسطى؟
ولأنّ هذا النظام فاسد ومنتج للفساد بشكل طبيعي، فلا يُمكنه تقبّل أي عمليات تطوير فكرية إلا في إطار التجميل الخارجي، وهذا ما يحدث، لكنّه يقدّم بالمقابل خدمات للسياسات الأميركية، وأهمّها معاداة إيران بشكل مطلق مع تحالفاتها العربية والإقليمية، وإنهاء القضية الفلسطينية عن طريق مصالحة شاملة مع العدو «الإسرائيلي».
هذه هي تجربة وليّ العهد التي تواصل جني الهزائم، ولولا الدعم الأميركي المفتوح لسقطت إثر هزائمها في معارك الإقليم كلها.
فإلى متى تستمرّ هذه التجربة؟
لن يطول أمرها، لأنّ أهالي الجزيرة العربية بدأوا يكتشفون أنّها تجديد للدكتاتورية بأسماء أخرى، و»تأييد» لقرون أوسطية السعودية بواجهة عصرية وتنتهي مع اتجاه أحادية النفوذ الأميركي إلى الاضمحلال، ومتى تقهقر الرأس ذبلت أطرافه، ومنها مملكة الرمال الحارقة المهدّدة بالرحيل في أوقات لم تعد ببعيدة.
بقلم : وفيق ابراهيم