رؤية بن سلمان 2030.. طموحة ولكنها بحاجة الى سياسة “صفر مشاكل” وليس قعقعة السلاح مع ايران
سمير البرغوثي
في محاكاة “للتجربة التركية” في العقد الماضي كشف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان العام الماضي عن وثيقة” رؤيا 2030″ لبناء اقتصاد سعودي لا يعتمد على النفط, وحددت الرؤيا مجموعة من الاهداف اهمها رفع مساهمة القطاع الخاص غير النفطي في الناتج المحلي من 40% الى 67% بحلول 2030, ورفع الايرادات الحكومية بستة اضعاف عبر الضرائب والرسوم وبناء صندوق استثمار سيادي بقيمة 1.8 تريليون دولار
واذا افترضنا ان معدل النمو السنوي المحافظ للاقتصاد السعودي في السنوات الست الماضية (3.7%) سيسود حتى عام 2030 نرى ضخامة المهمة, اذ تهدف الرؤيا الى بناء قطاع خاص غير نفطي بعيدا عن القطاع الحكومي يساهم في الناتج المحلي ب 723 مليار دولار. وحتى لا نضيع القاريء في متاهات الارقام, فما هو مطلوب من القطاع الخاص غير النفطي بحلول 2030 ان يكون قادرا على خلق ناتج محلي يوازي 2.3 مرة الاقتصاد الاسرائيلي الحالي.
عندما اعتلى حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا عام 2002 بعد عقود من الاضطرابات السياسية والانقلابات والانهيار الاقتصادي والتضخم منفلت العقال, وضع نصب عينيه اعادة بناء الاقتصاد التركي من جديد وتحويل تركيا من بلد زراعي ريفي الى بلد صناعي متطور. وبحلول عام 2011 كان له ما يريد, فقد احتلت تركيا الموقع 17 كأقوى اقتصاد في العالم وتضاعف الناتج المحلي باربع اضعاف وبلغت الاستثمارات الاجنبية للفترة 150 مليار دولار وارتفع الناتج المحلي للفرد 3 اضعاف ليصل الى اكثر من 10 الاف دولار وحقق الاقتصاد التركي معدل نمو سنوي ما بين 7 الى 9 بالمائة
من اهم الاسباب وراء هذا النجاح هو الاستقرار الداخلي الذي نعمت به تركيا, ولكن الاهم هو سياسة” صفر مشاكل” مع دول الجوار التي تبناها وزير الخارجية الاسبق داوود أغلو اذ أقامت تركيا علاقات طبيعية مع الدول المجاورة رغم الاختلافات, حتى بشار الاسد الذي اصبح راسه مطلوبا لدى القيادة التركية في ليلة وضحاها, كان اقرب المقربين لاردوغان ووصلت الامور قبل الازمة السورية بفترة بسيطة ان فتحت الحدود لحرية حركة البضائع والافراد بين البلدين, وحتى صدام حسين الذي كان معزولا عالميا وتحت الحصار ويعتبر “خيلا خاسرا” انذاك رفضت تركيا السماح لحلف الناتو الذي هي عضوا فية استخدام قواعده في اراضيها للهجوم عل العراق خلافا لبلدان عربية عديدة.
ولكن “النعمة لم تدم” فالنشوة والرغبة التي اصابت اردوغان وحزبه بقيادة حركة الاخوان المسلمين العالمية بعد استلامها السلطة في اكبر بلد عربي, مصر, ومن ثم تونس وتشكيل الحكومة في المغرب وقيادة الحراك الشعبي في الاردن وتنامي نفوذها في السودان وليبيا واليمن وقطر عوضا عن حكمها قطاع غزة ,دفعته الى المسارعة في دعم الاخوان المسلمين في سوريا الذين كان لهم سبق تفجير المعارضة المسلحة وبقى متأهبا ” على وضوء” ليكون اول المصلين في الجامع الاموي بعد سقوط الاسد الوشيك واستلام جماعته السلطة في سوريا. ولكن على ما يبدو ” حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر” فقد تورطت تركيا في وحل ازمة لا تعرف كيف الخروج منها وتحولت سياسة ” صفر مشاكل ” الى سياسة ” صفر هدوء” فكادت ان تدخل في مواجهة عسكرية مع روسيا وتوترت العلاقات مع ايران والعراق وفقدت ممرا في الاراضي السورية ل 50 الف شاحنة محملة بالبضائع التركية سنويا متجهة الى الاردن وبلدان الخليج. وعلى خلفية أزمة اللاجئين السوريين ساءت العلاقة مع اوروبا وتوترت مع الولايات المتحدة الامريكية على خلفية المسألة الكردية اضافة الى موضوع الداعية فتحي اوغلن, وسريعا ما عكست سياسة ” صفر هدوء” نفسها على “المعجزة التركية” وباتت تهددها فقد انخفض النمو الاقتصادي الى ما دون 1.6% وهو اقل من النمو السكاني وبلغ التضخم 10% نهاية 2016 وانخفضت الاستثمارات الاجنبية الى النصف وبذات النسبة انخفضت الليرة التركية مقابل الدولار, والاضطرابات السياسية الداخلية اخذت تعود والاخطر ان وحدة الاراضي التركية باتت مهددة.
التجربة التركية تشير بكل وضوح الى ان الاهداف الضخمة والتحولات الاقتصادية الاجتماعية العميقة تحتاج الى هدوء داخلي و ” وصفر مشاكل” مع دول الجوار. وفي الحالة السعودية تزداد اهمية الاخيرة حيث ان الحفاظ على الاستقرار الداخلي لن يكون سهلا فالصراع مع المؤسسة الدينية المتجذرة في كافة مناحي الحياة بل تعتبر احد ركائز الكيان السعودي المعاصر لن يحسم باعتقال عددا من الشيوخ والدعاة, والشباب السعودي الذي تعود لعقود على رتابة الوظيفة الحكومية وامتيازاتها لن يكون مسرورا بعملية الخصخصة واسعة النطاق, والمواطن السعودي الذي يولد وملعقة الدعم الحكومي في فمه لن يستقبل فرض ضرائب ورسوم بترحاب. والمرسوم الملكي باعادة البدلات الحكومية بعد عام واحد فقط على الغائها مؤشر عل ذلك .
منذ ان استقرت الادارة الامريكية الجديدة في البيت الابيض اخذت تتبنى استراتيجية التصعيد مع ايران وحلفاءها في المنطقة توجت مؤخرا باعلان سياسة ترامب بشأن ايران, ملخصها “حرب باردة” في المنطقة تتطور الى حرب بالوكالة ,مفتوحة امام خيار الصدام العسكري المباشر, ولتحقيق ذلك تسعى الادارة الامريكية لانشاء حلف عريض من بلدان المنطقة.
لا اعتقد ان من مصلحة الامة العربية بشكل عام وبلدان الخلج بشكل خاص والسعودية برؤية 2030 تحديدا ان تكون عضوا في هذا الحلف الذي يريده نتنياهو ويديره ترامب.
الولايات المتحدة الامريكية لا تكترث بالخطط التنموية لبلدان المنطقة او الديموقراطية وحقوق الانسان او قيادة المرأة للسيارة او الهدوء والاستقرار فقد تعايشت مع ذلك لعقود عديدة, جل ما يهمها هو امن اسرائيل والنفط سابقا وعوائد النفط لاحقا. ترامب العفوي بتصريحاته غير الدبلوماسية فضح ما يدور في اذهان صناع القرار في الولايات المتحدة والغرب عندما وصف بلدان الخليج في اثناء حملته الانتخابية بالبقرة الحلوب ويريد ان يحلبها وبعد فوزه ايضا صرح بانه يريد نصف عائدات النفط مقابل حماية بلدان الخليج. واخيرا في مقابلته مع محطة فوكس نيوز عندما قال, رغم عدائه لايران, انه لا يعارض ان تعمل المانيا وفرنسا فلوس من ايران. واذا ما قرأنا هذا التصريح ما بين السطور كأنه يقول”أصدقائي أنجيلا وكامرون تعالوا نتقاسم الادوار, انتم بتمسككم بالاتفاق النووي تعملون فلوس من ايران وأنا من خلال التصعيد والتهديد بالغاء الاتفاق اعمل فلوس من بلدان الخليج العربي, نحن أحباء والهدف واحد” هكذا يفكر الغرب ومن يعتقد عكس ذلك فهو ساذج
يعول خبراء رؤية 2030, لتمويل التحولات الكبيرة على خصخصة وتسيل شركة ارامكو التي تملك وتدير النفط باسم الحكومة ويقدرون قيمة اصول الشركة ب 2 تريليون دولار ومن المفترض ان تبدأ العملية عام 2018 كما اعلن مؤخرا.بالمقابل اذا ما نفذت الاتفاقيات الموقعة مع ترامب في واشنطن ولاحقا في الرياض هذا العام والبالغة 450 مليار دولار فسيكون اكثر من 23% من اصول ارامكو قد حجزت لترامب قبل تسيلها, ولا اعتقد ان لعاب ترامب الذي طالب بالنصف, سيتوقف عن السيلان, وبالنتيجة فحدة التوتر مع ايران ستتصاعد وفاتورة ” احتواء الخطر الايراني” ستتضخم.
الولايات المتحدة غير معنية بأمن الخليج, ما يعنيها فقط فلوس الخليج واذا ما شح النفط ستدير ظهرها بلمح البصر ألم يقل احمد ابو الغيط وزير خارجية مصر الاسبق في مذكراته الذي صدرت حديثا على لسان حسني مبارك ,المخضرم في العلاقة مع واشنطن لاكثر من 30 عاما من موقع الرئاسة, قوله ” اللي بتغطى بالأمريكان عريان” ؟ المثال الاحدث ما عبر عنه مسعود برزاني في خطاب التنحي عن خيبة أمله الشديدة من الولايات المتحدة بعد أن عشمته ان الدولة الكردية باتت على ألابواب!. والذي يريد أن يتعمق عليه العودة الى أرشيف فضيحة ايران غيت في ثمانينات القرن الماضي . بل أبعد من ذلك ننصح المتحمسين للدخول في حلف أمريكي-اسرائيلي في مواجهة أيران الاطلاع على تصريح مدير مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحاق رابين وهو ايتان هابراحد الاستراتيجين في اسرائيل ولا يقل قلقا من نتنياهو على أمن اسرائيل لصحيفة يديعوت احرونوت حيث طالب إسرائيل بذل كل الجهود من أجل إيجاد سبل لمحادثات مصالحة وسلام مع الإيرانيين. هكذا يفكرون يورطوننا في صراع منهك مع ايران ولكنهم على استعداد لصفقات معها اذا ما اقتضت الحاجة وسنحت الظروف ووافقت الاخيرة.
الصدام مع ايران وحلفائها في المنطقة نتائجه وعواقبه غير مضمونة,فقد دفعنا وشجعنا الجيش العراقي بقيادة صدام حسين للدخول في حرب ضروس لأكثر من عشر سنوات مع ايران, قتل مئات الالوف من شباب العراق, وهدرت مئات المليارات من المال العربي وخرج العراق بديون باهضة دفعته لاحتلال الكويت وما اعقب ذلك من تطورات مأساوية على الامة العربية معروفة للجميع, واذا ما كانت الامور تقرأ بخواتمها فالقاصي والداني ,العدو قبل الصديق بات يقر بان ايران دولة اقليمية كبرى في المنطقة, اما الجيش العراقي الذي كان دوما سندا للجبهة الشرقية في مواجهة اسرائيل تبخر بقرار امريكي في ساعات, وصدام حسين مع الاحترام للتاريخ الوطني, وجد مختبئا في حفرة تحت الارض, والعراق الان يصارع للحفاظ على وحدته.
منذ صدر الاسلام نحن وايران نخوض حروبا وصدامات, من فترة لاخرى, ولكن لم يستطع احد ان ينفي الاخر, سنبقى كلينا في المنطقة الى ابد الابدين ولا يضيرنا ان درسوا ابنائهم ان الخليج فارسي ونحن درسناهم ان الخليج عربي, بالنهاية الكل سيستفيد من الخليج بموجب الاتفاقيات والقوانين الدولية المنظمة لاستخدام البحار والمياه المشتركة, اما الخلاف الديني فيوجد الكثير من العلماء الاجلاء وهم الغلبة في الطرفين, القادرين على اعادة دراسة التاريخ الاسلامي بما يضمن وحدة للمسلمين على أسس عصرية شريطة أن يتركوا وشأنهم بعيدا عن ضغوطات السياسيين ومصالحهم الضيقة.
يجب اعادة النظر بالاستراتيجية الامنية فالامن العربي والخليجي يجب ان يقوم على تفاهمات عميقة مع ايران على قاعدة توازن المصالح بعيدا عن الخضوع والأملاءات. ويمكن لبلدان عظمى تقع في منتصف المسافة بين الطرفين مثل روسيا والصين ان يكونا راعيين لهذه التفاهمات.الصين بصفتها اكبر مستورد لنفط الشرق الاوسط وروسيا بمشاريع الطاقة والغاز لهما مصالح اكثر بكثير من الولايات المتحدة وبالتالي اكثر حرصا على امن المنطقة واستقرارها, والاهم من ذلك بحكم الانظمة السياسية الداخلية لديهم ,و خلوها من مجموعات الضغط ومراكز القوى, غير ملزمتين بالنظر الى الشرق الاوسط ” بعيون اسرائيلية”.
قبول ايران الاتفاق النووي مع “الشيطان الاكبر” بما يتضمنه من تنازلات وشروط يعكس ” روحية سائدة ” بانها تريد ان تكون دولة” طبيعية” في العالم منفتحة على الجميع بغض النظر عن الايدولوجيا, من الصين الشيوعية ذي الطابع الرأسمالي الى روسيا الارثوذكسية الراسمالية وكوبا الشيوعية والهند الهندوسية مرورا بفنزويلا اليسارية العلمانية, واخيرا وليس اخرا باريس ولندن وبرلين منشأ الرأسمالية العالمية وذوي التاريخ الاستعماري الطويل,أعتقد ان هذه الروحية تسمح باقامة علاقات طبيعية مع جيرانها وتوأمها الديني البلدان العربية السنية تتيح بناء نظام أمني مستقر دون كلفة اذا ما تجاهلنا “الاستراتيجية الامنية الابتزازية للولايات المتحدة”
ان مسيرة نزول النفط عن عرش مصادر الطاقة قد بدأت بل أخذة بالتسارع بتسارع العلم والتكنولوجيا والضغوط على سياسات البيئة والمناخ وقد لا تطول والمهمة الاخيرة الباقية له قبل ان يصطف بجانب سلفه الفحم الحجري في متحف التاريخ هو توفير السيولة اللازمة لاحداث التحولات العميقة الضخمة على غرار رؤية 2030, واذا لم نغتنم هذه الفرصة الاخيرة كعرب أخشى أن امنية وزير الخارجية الامريكي الاسبق هنري كيسنجرفي اعقاب حرب اكتوبر 1973 بعودة العرب الى حياة الجمال والخيام, تتحقق !
كاتب وباحث فلسطيني