السعودية: من التسلط الديني إلى التسلط العلماني

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3374
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

سمية الغنوشي
قبل أيام قليلة فقط، سمحت المملكة العربية السعودية للمشجعات السعوديات بدخول الملاعب الرياضية، كما شاهد الناس السعوديات يحتفلن إلى جانب الرجال بالعيد الوطني السعودي.
بموازاة ذلك، شرعت السعودية في التضييق على المؤسسات الدينية التي كانت تُمارس دورا رقابيا على سلوك المواطنين والمقيمين، وقد ثار جدل واسع مؤخرا بعد قرارها إلغاء دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تتدخل في سلوكيات الناس وخياراتهم، وراجت بعض اللقطات على صفحات التواصل الاجتماعي تظهر اقتياد رجال الأمن السعودي لبعض عناصر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإيقاف.
وتتجه السعودية إلى إتاحة مساحة كبيرة للترفيه المجتمعي، بما في ذلك الغناء وفنون السينما والمسرح التي كانت بمثابة المحرمات، مع السماح التدريجي بحضور المرأة والأسر لمثل هذه الأنشطة الثقافية، تحت إشراف "هيئة الترفيه" التي رصدت لها ميزانيات مالية ضخمة. وقد سجل العيد الوطني الأخير ظهور المرأة لأول مرة على خشبة المسرح السعودي.
إلى حد الآن تبدو القصة جميلة مشرقة، في بلد عرف بصرامته الدينية البالغة. أن يتجه هذا القطر العربي والإسلامي المؤثر إلى نوع من التحرر الاجتماعي وتفكيك قدر من القيود المفروضة على المرأة، فهذا أمر محمود.. ولكن حينما نخرج من المشهد الجزئي في ملعب جدة إلى المشهد السياسي الأعم في السعودية، تبدو الصورة قاتمة ومخيفة.
وبما أن عالم السياسة ليس بريئا وشفافا، بل كثيرا ما تختلط فيه الأحجام والألوان، فمن المهم أن نحاول تفكيك شيفرة هذه التوجهات الجديدة، ونفهم دوافعها، ونستقرئ مآلات الأمور في هذا البلد العربي المهم.
لماذا أقدمت السعودية على هذه الخطوات الفجائية الآن تحديدا؟ وما أهدافها المخفية ومراميها المستبطنة؟
جرت في السعودية مياه كثيرة منذ عقود، في إطار موجة التحديث المجتمعي وتغير وسائل العيش، بفعل الثروة النفطية الهائلة، واتساع نطاق التعليم، بما في ذلك بين الإناث، ثم امتلاك مقومات الرفاه، ما عمق الهوة شيئا فشيئا بين التأويل الوهابي الحنبلي المتشدد للإسلام، وبين واقع سعودي ينحو نحو الأمركة المتزايدة.
بيد أن التحولات التي نراها اليوم هي أقرب إلى الهندسة السياسية والاجتماعية منها إلى التحولات العادية التي كانت تجري على الأرض.
لقد قامت السعودية في أصلها على نوع من التحالف المعلن بين شوكة آل سعود ودعوة محمد بن عبد الوهاب، في إطار من العقد المتبادل بين الطرفين، حيث تضفي المؤسسة الدينية غطاء الشرعية على مؤسسة الحكم، عبر الولاء والبيعة للحكام.
في مقابل ذلك، مُنحت المؤسسة الدينية هامشا كبيرا من النفوذ في المجال المجتمعي والسلوكي، فضلا عن الأموال والامتيازات، وتوفرت لها أذرع وإمكانيات كبيرة في الداخل والخارج السعودي لنشر المذهب الوهابي في مختلف أصقاع العالم الإسلامي، وحتى بين الأقليات الإسلامية في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
وقد أخذت هذه العلاقة تختل بصورة متزايدة لصالح مؤسسة الحكم التي تملك في يدها النفوذ والمال، والمؤسسة الدينية التي أخذ وضعها ينكمش بصورة مطردة.
ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي تورطت فيها عناصر سعودية معروفة، بدأت المؤسسة الدينية تشكل نوعا من العبء الثقيل على الساسة السعوديين.
ما نشهده اليوم في ظل صعود نجم ولي العهد الشاب محمد بن سلمان هو:
1- توجه منهجي نحو لجم المؤسسة الدينية إلى أبعد حد ممكن والاكتفاء بإسباغ غطاء الشرعية والبيعة لحكم الأمر الواقع، ثم..
2- انتهاج سياسة لبرلة على المستوى الاجتماعي، من خلال إتاحة هامش أوسع أمام دخول النساء الملاعب الرياضية والعروض الغنائية وقاعات المسارح والسينما، وربما السماح في وقت قريب بقيادة السيارة والاختلاط بالرجال في الساحات الخاصة والعامة.
أي أن السعودبة الجديدة لن تسمح فقط بهذه التحولات المجتمعية السريعة بل ستعمل على دفعها إلى حدها الأقصى. المهم في كل ذلك ألا يقترب أي كان من المنطقة المحرمة: أي التحديث السياسي، بما هو تقييد وضبط للحاكم في مجال السلطة والمال، وإتاحة حرية التعبير والتنظم السياسي والاجتماعي أمام المواطنين نساء ورجالا.
بل إن كل هذه الإجراءات تجري على قدم وساق من أجل قطع الطريق أمام الإصلاح السياسي الجدي الذي تحتاجه المملكة وباتت تطالب به قوى ونخب كثيرة.
ما يحدث الآن هو عملية تحديث فوقي مشوه، وفق أجندات سياسبة محددة، بغاية التسويق الخارجي أن السعودية باتت اأكثر تطابقا مع الوصفة الدولية، ولَم تعد استثناء في المشهد العالمي. النخبة الحاكمة السعودية اليوم منكبة على صناعة واجهات ليبرالية تواري خلفها سوأة حكم تسلطي وإطلاقي، لا مكان فيه للرأي المخالف.
في المشهد الذي يُخرج اليوم يراد لنا أن نستغرق في مظاهر الاحتفالات الكرنفالية الصاخبة وصور النساء المبتهجات في شوارع الرياض، فلا نرى قوات الأمن وهي تحاصر بيوت الأكاديميين والمفكرين والدعاة وتعتقلهم، نصفق لها وهي تفتح مدرجات الإستادات للفتيات المتمايلات جذلى، فيما تزج بالمثقفات والناشطات في غياهب السجون والمعتقلات، مثل الدكتورتين رقية المحارب ونورة السعد اللتين شملتهما حملة الاعتقالات الأخيرة.
ما يجري اليوم على أرض الحرمين تحديث اجتماعي مشوه يتلخص في مشاهد من الحفلات الفنية المختلطة وكشف شعر الرأس ونزع العباية وقيادة السيارة واستجلاب الفنانين والفنانات لإحياء السهرات الصاخبة، ولكن من دون حريات سياسية حقيقية، ومن دون تغيير جدي على مستوى بنية الحكم.
الرسالة في كل ذلك هي: مستعدون أن نفعل أي شيء. المهم ألا يقترب أي كان من المنطقة المسيجة المحرمة: تحديث الحكم وضبط سلطة الحاكم!
من الواضح هنا أن السعودية تحث الخطى صوب نمط من التسلط "العلماني" والتحديثي تقيمه على أنقاض التسلط الديني.
ما كان يجري باسم الشريعة والدين لفرض الانضباط والتحكم في المواطنين، سيتم اليوم خلف واجهة التطوير والتحديث وتحرير المرأة السعودية.
السعودية تقترب بهذا من نموذج مصر مبارك وتونس بن علي، إلى التحديث من دون حداثة، الانفتاح الاجتماعي في إطار من الانغلاق السياسي.
هذا عنوان المرحلة الجديدة في السعودية الجديدة السعيدة. ولا نملك إلا أن نقول: كان الله في عون أهلها الطيبين.