كتاب فرنسي يوثق بالأرقام الدعم السعودي والقطري والكويتي للفصائل المسلحة في سورية
حسان مهراجي
يعتبر كتاب ” Nos très chers émirs de Christian Chesnot et George “من أهم الكتب التي تحدثت عن العلاقات السرية بين الممالك الخليجية وفرنسا، كما يفضح دور هذه الدول في المؤامرة على سورية، وكان قد صدر في باريس عن كتاب أمراؤنا الأعزاء جداً، هل هم حقاً أصدقاؤنا؟ دار ميشيل لافون في الشهر العاشر عام 2016، للصَحَفِيين الفرنسيين المعروفين كريستيان شينو وجورج مالبرونو.
يتضمن الكتاب ثلاثمئة صفحة، تعبّر المقدمة عن الفكرة الموجِّهة للكتاب، ذلك في معرض سرد حادثة جرت مع دبلوماسي فرنسي يعمل في القنصلية الفرنسية في جدة، عندما استدعته إحدى بنات الملك عبد الله المقيمة في أحد فنادق جدة، لتطلب منه الحصول على تأشيرات دخول إلى فرنسا لخمسة من أفراد العائلة المالكة. أصيب الدبلوماسي الفرنسي بالذهول عندما وجد في كل جواز سفر مبلغاً من المال يعادل ثلاثة آلاف يورو، أي أن مجموع المبالغ يبلغ خمسة عشر ألف يورو، عندما عاد إلى القنصلية، ولكي يغطي نفسه، قام بإخبار رئيسه بالحادثة.
إن هذه الحادثة المعبرة تشير إلى أنَّ الخليجيين تعودوا على رشوة رجال السياسة الفرنسيين، وهذا يفسّر المواقف الفرنسية خاصة إزاء الأزمة السورية، ويبين حجم المؤامرة الدولية الكبرى على سورية، ومحاولة إسقاطها مهما كان الثمن. يكشف الكتاب، وعلى لسان شخصيات هامة شاركت في أحداث سورية، اللعبة الدولية الكبرى التي أدت إلى اندلاع الأحداث في سورية. ويمكن القول إنه لولا التدخلات الخارجية، والتمويل الخليجي، لما حدث أي شيء في سورية، إذ إن الدعم الخليجي المادي والمعنوي، وتآمر تركيا وفتحها للحدود أمام عشرات آلاف المتطرفين، إضافة إلى الدعم الأمريكي والفرنسي، هذا كله شكّل الأرضية لاندلاع الأحداث في سورية. كان أمير قطر يتوقع سقوط الدولة السورية في مدّة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وكذلك فعل بندر بن سلطان الذي كان يقسم أمام الجميع أنه سيسقط “نظام حكم” الرئيس بشار الأسد مهما كلف الثمن، وحتى لو تحالف مع الشيطان. وتتأتى أهمية الكتاب من أنه يذكر بالأسماء والأرقام الدعم الذي قدمته الدول الخليجية للمتطرفين في سورية، وكيف كانت تجمع هذه الأموال، وترسل إلى تركيا لتصل في النهاية إلى المسلحين السوريين. كانت الأموال تجمع في قطر على مرأى ومسمع من السلطات، ومن قبل شخصيات مقربة من الديوان الأميري، مثل “الشيخ عبد الرحمن النعيمي الذي وضعته الآن السعودية على قائمة الإرهاب. يجري المؤلفان لقاءً مع النعيمي في الدوحة يتحدث فيه بصراحة عن دعمه لجبهة النصرة (فتح الشام حالياً) التي هي فرع القاعدة في سورية، ورغم وضعه على لائحة الإرهاب الأمريكية والأوربية، فإنه كان يتحرك بسهولة، ويرسل الأموال كما يقوم بزيارات إلى عدد من البلدان الأوربية دون أي مضايقة، وقد التقى في إحدى زياراته لباريس مع “هيثم المناع” الذي يروي ما حدث في اللقاء.
هذا إلى أنَّ الشيء الملفت في الدعم القطري لجبهة النصرة هو المبالغ الضخمة التي كانت تدفعها قطر لها بحجة تحرير رهائن مختطفين، مثلما حدث في موضوع خطف عناصر الأمم المتحدة في الجولان، وخطف عدد من الجنود اللبنانيين. ويقدر الكاتبان أن النصرة حصلت من قطر على مئة وخمسين مليون دولار لقاء إطلاق سراح الرهائن، وما كان يحدث في قطر، كان يحدث في السعودية التي استلم فيها الملف السوري رئيس المخابرات السعودية بندر بن سلطان الذي كان يجول على عواصم العالم بحثاً عن دعم للإرهابيين في سورية.
كما طلب من مجموعة من الضباط السعوديين تقديم استقالاتهم من الجيش السعودي لكي يتمكنوا من الالتحاق بالإرهابيين في سورية، وكان يفتخر بأنه يسيطر على تسعين بالمئة من المتمردين. جاءت المفاجأة في الكتاب من الحديث عن التمويل الكويتي للإرهابيين في سورية، لأنه لا أحد يتحدث عن الكويت في هذا المجال. إن الدعم الكويتي للإرهابيين في سورية لا يقل خطورة عن الدعم القطري، والدعم السعودي، حيث يتم جمع الأموال في الكويت من قبل شخصيات رسمية، واجتماعية، وبمعرفة السلطات الرسمية، ويحدد الكتاب أسماء هذه الشخصيات التي تعمل على جمع الأموال، وإرسالها إلى سورية.
ويذكر الكتاب أنه منذ عام 2011، تم تحويل ملايين الدولارات من الكويت إلى المجموعات المسلحة في سورية، ومن بينها داعش والنصرة وأحرار الشام وجند الأقصى، يضاف إلى دور هؤلاء الدور التركي الذي كان يسهّل مرور المقاتلين والأموال عبر الحدود. ويركز الكاتبان على الدور الفرنسي الذي خضع لتأثير الدول الخليجية، وتغاضى عن المخاطر الكبيرة الناجمة عن تصرفات قطر والسعودية في سورية، وفي غيرها من البلدان، ولهذا لابد من وقفة مطولة مع الموقف الفرنسي من الأزمة السورية. يخلص الكاتبان إلى أن الموقف الفرنسي من الأزمة السورية يمكن اختصاره بأنه يقوم على المصالح الاقتصادية، وفساد الطبقة السياسية الفرنسية. لقد أفسدت الأموال الخليجية الطبقة السياسية الفرنسية، وأصبحت خاضعة بالمطلق للسياسة الخليجية، وكان للسفير القطري في باريس محمد الكواري الدور الأبرز في إفساد أغلب الشخصيات السياسية الفرنسية.
ويكاد المرء يصاب بالصدمة من دناءة الطبقة السياسية الفرنسية التي وصلت إلى مستوى لا يمكن تصديقه، فكيف لوزير فرنسي أو نائب في البرلمان أن يطلب ثمن بطاقة طائرة، أو ثمن حذاء، وهو مستعد لقاء ذلك أن يمدح الأمراء الخليجيين، ويدفع عنهم تهمة دعم الإرهاب، ويتغاضى عن حقوق الإنسان التي يتغنى بها، والأهم بيع الموقف السياسي في أزمة من أخطر الأزمات، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الأزمة السورية.
إن وعد السعودية لفرنسا باستثمار خمسين مليار دولار في الاقتصاد الفرنسي، إضافة إلى تأمين خمسين مليار دولار أخرى من الدول الخليجية الأخرى، جعل السياسة الفرنسية أسيرة هذه النظرة الضيقة في الأزمة السورية، رغم تحذير المخابرات الفرنسية من مخاطر هذه السياسة، والمضحك هنا أن هذه الوعود بقيت حبراً على ورق، ولم ينفذ منها إلّا القليل. لقد قمع لوران فابيوس أي محاولة للتشويش على سياسته الاقتصادية، وتغاضى عن مخاطر سياسته في سورية، لكن الأصوات بدأت ترتفع بعد عام 2012، وبدأت التحذيرات الأولى تظهر في الصحافة، مثل التحذير الذي ظهر في أسبوعية” ماريان”، كان عنوان التحذير: (المعارضة السورية في الداخل: الفخ الإسلامي يأتي من الدول الخليجية، ونحن نخاطر بأن نقع فيه)، إنه عنوان له دلالته. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، طلب السفير إيريك شوفالييه من بعض الصحفيين المعارضين أن يلتزموا الصمت، لأنهم ألحوا في تحفّظهم على موضوع السيطرة الإسلاموية على التمرد في سورية. ركزت الوثائق المنشورة في الصحيفة على مجموعات المسلحين التي أصبحت تحت سيطرة أجهزة مخابرات الدول الداعمة مثل: السعودية وقطر. كان لوران فابيوس يعرف هذا كله، لكنه بقي مستمراً في سياسته إزاء سورية، كما قامت فرنسا وبطلب من قطر بتزويد المسلحين في سورية بصواريخ ميلان المضادة للدروع، وقد وصلت هذه الصواريخ إلى جبهة النصرة. يقول أحد موظفي وزارة الخارجية الفرنسية: كان كبار المسؤولين الفرنسيين يدركون مخاطر تحول الصراع إلى سيطرة “الجهاديين” لكن كان يبدو هذا الخطر، في ذلك الوقت، ضئيلاً، مقارنة بالهدف الذي يسعى إليه الجميع وهو إسقاط الرئيس بشار الأسد. يقول الكاتبان إن القادة الفرنسيين كانوا على علم باللعبة القطرية السعودية في سورية، بيد أنَّ هذه اللعبة بدت ثانوية أمام هدف إسقاط الرئيس بشار الأسد. يقول أحد المحيطين بالوزير فابيوس: كان هناك من يتساءل في محيط الوزير حول علاقاتنا مع السعودية وقطر.
لكن كان هناك هذه السياسة الاقتصادية التي كانت تسيطر على فكر لوران فابيوس. كان يردد دائماً: على المدى الطويل، سنكون مع الدول الخليجية من أجل إعادة إعمار سورية.
ويوضح الكاتبان أن من يقود المؤامرة على سورية هي الولايات المتحدة، لأنها كانت على علم بكل شيء من تمويل الإرهاب، إلى انتقال آلاف المتطرفين، عبر تركيا، إلى سورية. كانت الولايات المتحدة تعرف بالاسم من يموّل الإرهاب، ومع ذلك كانت تتغاضى عن الممولين في قطر والسعودية والكويت، وكانت تستطيع الضغط بسهولة على هذه البلدان لكي يوقفوا هذا التمويل، لأنها حامية هذه البلدان. يستشرف الكاتبان الصراع بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان إذ يتحدثان مطولاً عن الوضع في السعودية، تحديداً بعد وصول الملك سلمان إلى العرش.
كان الهدف الأول للملك الجديد التخلص من إرث الملك عبد الله، فقام مباشرة بتنحية عدد من المقربين من عبد الله، ومنهم أولاده الأمير مشعل، حاكم منطقة مكة، وتركي حاكم الرياض، ولكن الأهم خالد التويجري، الرجل القوي والمقرّب من عبد الله، ثم قام الملك سلمان بإقالة ولي العهد الأمير مقرن، ووضع مكانه ابن أخيه محمد بن نايف، وأسند إلى ابنه محمد بن سلمان وظيفة ولي العهد. كانت هذه الإقالات غير مسبوقة في تاريخ العائلة المالكة. كانت هذه التغييرات تمهد لصراع خفي بين أجنحة العائلة الحاكمة، وبصورة خاصة بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان. يقول الكاتبان إن حرباً صامتة تجري بين المحمدين، بسبب رغبة محمد بن سلمان بالسيطرة على الحكم مستفيداً من دعم والده.
كان الدبلوماسيون الأجانب في الرياض يعرفون هذا الصراع، ويعرفون أنه سيؤدي، في النهاية، إلى تفوق أحد الطرفين، عندما غاب الأمير محمد بن نايف عن السعودية في بداية عام 2016، عرف الجميع أنه غاب عن الساحة بسبب عدم موافقته على سياسة محمد بن سلمان.
يلخص الكاتبان الوضع في قطر بأنه مجتمع فقد البوصلة بسبب سياسة الشيخ حمد، ويفضح الكاتبان وضع حقوق الإنسان في الدول الخليجية خاصة في السعودية، فالممالك الخليجية تبدو، عند النظر إليها، عالماً ساكناً مثل الصحراء التي تشكل محيطها الطبيعي. وقد كان الاستقرار السياسي والاجتماعيّ هو القاعدة. باستثناء البحرين واليمن، لم تصل رياح الربيع العربي إلى الجزيرة العربية. اشترى الأمراء السلام الاجتماعي عن طريق دفع الأموال التي جاءت من النفط والغاز، لكن الواقع الحالي يشير إلى أن هذه المجتمعات عامةً، وخاصة في السعودية، مصابة بفصام عقلي بسبب الصدمة الثقافية الناتجة عن الصراع بين العولمة والتقاليد، لا وجود للزمن في السعودية التي تعيش على وقع حياة يومية لا تؤمن الحد الأدنى من حقوق الإنسان.