رسالة إلى الشعب العربي في دول الخليج 

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2525
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

أسعد أبو خليل
التواصل بين أهل المشرق وأهل الخليج لم يكن يوماً سويّاً أو رائقاً. والمشرق العربي عموماً عانى ويعاني من عقدة تفوّق ضد العرب في الخليج والمغرب: فأهل الخليج متهمون بسلالاتهم وبداوتهم (المزعومة) وأهل المغرب متهمون بقلّة عروبتهم. وحتى الزمن القومي العربي لم يُنصف أهل «الخليج أو المحيط» بالرغم من الشعارات الرنّانة.
وأيديولوجيات المشرق العربي القوميّة سرعان ما أثبتت تقوقعها في الممارسة العمليّة التي شطرت حزبيْ البعث، وأحالت صراعهم الدموي إلى صراع استنفدهم أكثر بكثير من صراعهم (المُفترض) مع العدوّ الإسرائيلي.
والتواصل مع أهل الخليج صعبٌ بصورة خاصّة لأن هناك تنميطات قبيحة وتعميمات غير علميّة يحملها أهل المشرق العربي عن أهل الخليج. وفي هذا الأسبوع بالذات، تناقل كثيرون في المشرق العربي صورة لديبلوماسي (أظنّ أنه عُماني) في القمّة العربيّة في عمّان وهو يفرك أصابع قدمه بيديْه. الصورة كافية للتعميم عن أهل الخليج، كأن فرك أصابع القدميْن خاصيّة بأهل الخليج. وإعلام الممانعة يزخر بإهانات شنيعة ضد عرب الخليج (وليس فقط لحكّامهم الذين يستحقّون كل الإدانة، كما يستحقّها من دون نقصان كل الحكّام العرب من دون استثناء). تمرّ عبارة «العُربان» كثيراً على شاشة «الميادين»، مثلاً، وهي تمثّل ذروة العنصريّة التاريخيّة من أهل المدن نحو البدو، كأن الخليج لم يتمدّن (نسبة البدو باتت ضئيلة جدّاً في منطقة الخليج). ثم مَن قال إن البداوة سبّة؟ ومَن قرّر أن المدنيّة تتفوّق أخلاقيّاً على البداوة؟ إن هذه التصنيفات تحمل في طيّاتها ترسّبات عنصريّات وكراهيات تاريخيّة و(استشراقيّة) حديثة. قد تكون أفكار الدماء «الخالصة» قد لوثّت الفكر القومي والقطري والشوفيني الإثني على مرّ السنوات. كان إدوار سعيد في نهاية كتاب «الثقافة والإمبرياليّة» قد بدّد فكر الانشطارات بين الشعوب المُستعمَرة إذ قال: «ليس هناك مَن هُوَ شيءٌ واحد محض. توصيفات مثل هندي أو امرأة أو مسلم أو أميركي ليست إلا نقاط انطلاق، يمكن أن تُنبذ لو تُبِعت لتجارب فعليّة... لكن أسوأ وأكثر هداياها تناقضاً (أي للإمبرياليّة) هي السماح للناس بالاقتناع أنهم ليسوا إلا فقط وأساساً وحصراً بيضاً أو سوداً أو غربيّين أو شرقيّين». (ص. ٣٣٦ من النسخة الإنكليزيّة من الكتاب). لكن الافتراق يحمل أيضاً عناصر زهو طبقي غلب على عقليّة أهل المدن في الشرق: والتعيير بالبداوة أو رعاية الإبل فيه من الغباء ما فيه: ومَن نكون نحنُ في المشرق؟ ألسنا كلّنا نتحدّر من رعاة النياق وصيّادين وسكان الكهوف؟ وقد امتزجت دماؤنا بدماء الغير وبدماء بعضنا، وعليه فإن مزاعم التحدّر الصافي تبقى ذروة الوهم الشوفيني المحلّي.
والعنصريّة ضد أهل الخليج زاوجت بين أهل الخليج وبين أسوأ ما ظهر من حكّامهم في نمط معيشة باذخ. أي إن أهل المشرق (ليس كلّهم لكن الكثير منهم ومنهنّ) فعلوا بأهل الخليج ما فعلت بالعرب ثقافة هوليوود، وهي جعلت من كل الشيوخ والأمراء العرب المتسكّعين في مواخير ونوادي وملاهي لاس فيغاس ولندن مثالاً أو نموذجاً لكل عربي. هذه الوصمة لا يجب أن يتحمّل وزرها إلا مرتكبو تلك الشنائع التي أمدّت أفلام هوليوود العنصريّة بأعلاف على مدى سنوات. لكن، هناك نزعة في دعاية الأنظمة الخليجيّة تتقنها أجهزة مخابراتها: يصبح كل نقد لتلك الأنظمة هو نقد للشعوب في تلك البلدان. هل أن نقد بشّار الأسد هو نقد للشعب السوري برمّته؟ هل أن نقد النظام الإيراني هو نقد للشعب الإيراني برمّته؟ فلماذا يكون نقد لسلالات النفط والغاز الخليجيّة، أو حتى المطالبة بجمهوريّات مُنتخبة في الخليج، هو تعيير للشعوب في تلك البلدان؟ هذه حيلة قديمة من الطغاة العرب، يحاولون فيها المساواة بين سمعتهم وصيتهم وبين سمعة وصيت كل المواطنات والمواطنين في تلك الدول؟
من المعروف أن أنظمة الخليج لا تنفق الميليارات على التسليح فقط، بل هي أيضاً من أكثر الدول إنفاقاً واستثماراً في أجهزة التجسّس والتنصّت والمراقبة في العالم. كما أن لها وجوداً يقظاً على مدار الساعة على أجهزة التواصل الاجتماعي. لم تكتف تلك الأنظمة بحصر الإعلام بأبواق العائلة الحاكمة بل هي توجّست من التفلّت الذي حكم المرحلة الأولى من انتشار التعبير في أجهزة التواصل الاجتماعي. وهناك دراسة لمارك أوين جونز على أن المخابرات السعوديّة تردّ تلقائياً بآلاف الردود (من حسابات آليّة غير حقيقيّة، أغلقت «تويتر» بعضها فيما بعد) بناء على خوارزميات معيّنة على أي نقد للسعوديّة، ومن أجل نشر فكر البغض الطائفي ــ المذهبي.
إن الحديث بين أهل المشرق وأهل الخليج مقطوع، وهو زاد شروخاً في سنوات الحروب والانتفاضات العربيّة. ليس هناك الشق السياسي فقط، بين «ممانعة» وبين «حزم»، بل هناك حزازات عنصريّة بين أهل الفريق الواحد. وتعيير كل أهل الخليج هو عنصريّة يجب أن تكون بعيدة عن أصحاب الفكر الأممي أو القومي، أو حتى القُطري إذا كانوا يؤمنون بالمساواة بين العرب ــ وبين البشر. لقد مرّ علي ــ وعلى غيري ممن عاصر تجربة الثورة الفلسطينيّة في لبنان ــ مناضلون ومناضلات من أهل الجزيرة (من السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعمان والكويت)، ولا يمكن بعد هذا التعارف أن يحتفظ المرء بانطباعات نمطيّة عن أهل الخليج. إن مِن أصلب اليساريّين والمناضلين هم من أهل الجزيرة العربيّة لأن النضال هناك صعب ويحمل مجازفة بالحياة، وعليه فإن النضال لا يحتمل تسرّب «الشبّيحة» (بالمعنى اللبناني أو السوري، لا فرق) أو الاستعراضيّين الذين عجّت بهم التنظيمات اللبنانيّة والفلسطينيّة في مراحل الحرب الأهليّة. هؤلاء كانوا (ولا زالوا — على قلّة عددهم لأسباب مختلفة) من أفضل نماذج النضال.


كانت الأنظمة الخليجيّة صريحة عبر العقود في معاداتها للعروبة

ليست هذه دعوة تملّق أو تقرّب مصطنع لكن دعوة للحوار والتواصل. هناك ما هو قاتم في الوضع في منطقة الخليج (وفي مناطق عربيّة أخرى حتى لا تُستفزّ المشاعر الوطنيّة المحليّة من هذه الملاحظة). لكن بعيداً عن الخوف من سطو أهل المشرق على ثروات الخليج (وهذه من الصور النمطيّة التي يحملها أهل الخليج عن أهل المشرق، أنهم لا يريدون إلا سلب أهل الخليج من ثرواتهم ونِعمهم، وأن القوميّة العربيّة لم تكن إلا ستاراً من أجل توزيع الثروات — لكن النظام السعودي الذي عادى القوميّة العربيّة على مدى عقود طويلة عاد واكتشف سحر القوميّة — سطحيّاً فقط — وذلك بغرض عزل النظام الإيراني وليس بهدف تجميع أو توحيد العرب). إن الأنظمة الخليجيّة تعادي الزمن. قد يُقال إن الشأن الخليجي هو شأن داخلي، لكن متى كانت شؤون الدول العربيّة شأناً داخليّاً والكل يتدخّل في شؤون الكل؟ وهل النظام السعودي (وأهل السعوديّة) يعتبرون أن الوضع في سوريا أو اليمن هو شأن داخلي محض؟ إن الحرص على حياة ومصلحة وحريّة الشعب في إيران أو في السعوديّة أو في كولومبيا يجب أن يكون مصدر اهتمام إنساني. كما أن الانغلاق والتزمّت السياسي والديني في الخليج ألقى بظلال وقيود ثقيلة على كل العالم العربي برمّته. لم يعد ممكناً إصلاح العالم العربي والتعامل مع حركات دينيّة عنفيّة عبثيّة (أي تلك التي لا تطلق حجراً على العدوّ الإسرائيلي) من دون إحداث تغيير سياسي في الخليج، خصوصاً في نجد والحجاز. وهناك أسئلة مشروعة في الحوار (أو الخلاف) بين أطراف العالم العربي:
أوّلاً، هل يمكن تصديق أن صناعة السياسة الخارجيّة الخليجيّة هي صناعة محليّة، كما يزعم معظم الكتّاب والمثقّفين هناك؟ هل يمكن التصديق أن الكتّاب الموالين لآل سعود توقّفوا عن هجاء النظام القطري هكذا صدفة بمجرّد أن تصالحت العائلتان الحاكمتان في البلديْن؟ هل يمكن التصديق أن موالاتكم للنظام السوري (أيّام وسنوات وعقود التحالف بين النظام السوري وأنظمة الخليج) ثم معارضتكم للنظام السوري في السنوات الأخيرة (فقط) كانت بجدّ من منطلقات فكريّة وإنسانيّة محضة وأنها لم توالِ السلالات؟ وها قد دعا عبد الرحمن الراشد (القريب من الحاكم السعودي) في «الشرق الأوسط» إلى التأقلم مع سياسة ترامب الجديدة الداعية إلى عدم السعي لإطاحة بشّار الأسد. هذا بعد سنوات من الكلام عن أولويّة الإطاحة ببشّار في إعلامكم. هل الأوامر تصل من واشنطن إلى الحكّام ثم إلى الإعلام؟
ثانياً، هل يمكن التصديق أن التغيير في سياسات الأنظمة الحاكمة تستوجب الطاعة مباشرة ولا تستدعي المعارضة؟ هناك بين الكتّاب والمثقّفين الخليجيّين (ولي أصدقاء أعزّاء بينهم) مَن وإلى الحكّام ومن غرّد بانتظام في مديح الحكّام ومَن تعرّض بالرغم من الطاعة بسبب تغريدة واحدة للاضطهاد والسجن والجلد؟ أليس هناك في سياسات حكّامك ما يستدعي المعارضة أو الخلاف أو الهمس بالاختلاف حتى؟ هل يمكن أن تكون هناك مصداقيّة للكتابة والتفكير والتعليم إذا كان الحاكم صائباً وحكيماً ومفيداً دائماً، وإذا يكون ابن الحاكم مثل أبيه دائماً صائباً وحكيماً ومفيداً دائماً؟
ثالثاً، هل يمكن عدم ملاحظة أن انتقاد الأنظمة العربيّة وغير العربيّة لا يجري إلا بما لا يتوافق مع سياسات وتحالفات حكّامكم؟ هل يمكن أن يكون النظام السوداني وحشي في يوم وحنون في يوم آخر على أثر رعاية النظام السعودي وتحوّله من حليف إلى إيران إلى معارض لها؟
رابعاً، هل بينكم (وبينكنّ) مَن يجد غضاضة في رفع شعارات حريّة وديموقراطيّة في أي بقعة في العالم؟ هل يمكن أن تكونوا أنتم جاهلون وجاهلات بالوضع الإنساني ــ السياسي البائس في كل دول الخليج من دون استثناء، خصوصاً في وضع المرأة هناك؟
خامساً، هل تقبلون أن هناك في المشرق والمغرب مَن هو (أو هي) مُعارض لأنظمة الخليج وهو أيضاً معارض للنظام السوري والإيراني؟ أم أنكم في إجمالكم وتعميمكم أن كل مَن ينتقد أنظمة الخليج هو حكماً عميل للنظام الإيراني أو السوري؟ هل أنتم مقتنعون أن ليس هناك مِن فريق ثالث؟ ألم تسمعوا بموقف يساري علماني مُعارض لأنظمة الخليج ومُعارض أيضاً للنظام الإيراني والسوري في آن؟ لا يمكن لكم (ولكنّ) بسبب تسهيل المهمّة الدعائيّة المرعيّة من قبل الأنظمة تشويه كل المواقف المعارضة لأنظمة الخليج.
سادساً، ماذا عن الموقف من العدوّ الإسرائيلي؟ أنا لا أزعم كما يزعم البعض في إعلام الممانعة أن الشعب في دول الخليج غير آبه لما يجري في فلسطين، وأنه أصبح معادياً لإيران ومتعاطفاً مع العدوّ الإسرائيلي في جرائمه. أنا لا أصدّق هذا التشنيع الذي يصيب أهلنا في الخليج. أنا أعرف من معرفتي بطلاب سعوديّين (وسعوديّات) في أميركا وبريطانيا أن الشعب السعودي (متى كان حرّاً) هو مِن أكثر الشعوب العربيّة تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني (إما من منطلق إسلامي أو علماني إنساني). لكن: هناك حقائق لا تقبل المناقشة، أن أنظمة الخليج، وبدرجات متفاوتة، باشرت بعد حرب الخليج في التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي. لكن هذا التطبيع ترقّى بعد الحرب في العراق، وخصوصاً بعد الانتفاضات العربيّة، إلى مرتبة التحالف الوثيق. لا يمكن نفي حقيقة التحالف الوثيق بين النظام السعودي والإماراتي والبحريني مع العدوّ الإسرائيلي (والنظام العماني والقطري يحتفظ أيضاً بدرجة من العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي، ويسمح للإسرائيليين بالزيارة فيما لا يستطيع العربي أن يزور إلّا بشق النفس)، وقد أصبح أولاد زايد من أقرب حلفاء العدوّ الإسرائيلي، وهم سمحوا له بإقامة قاعدة موساديّة تعبث بأمن البلاد وتتجسّس على العرب المقيمين، وهي أيضاً إدارت عمليّة اغتيال المبحوح في سريره، من دون عقاب أو محاسبة أو مسائلة من قبل النظام هناك. على العكس، لقد تطوّرت العلاقات بين النظام الإماراتي ودولة العدوّ بعد الاغتيال، وكأن دولة الإمارات تكافئ العدوّ على جريمته على أرضهأ. في بلادكم، يُطرد العربي إذا تعاطف — فقط تعاطف مع حزب الله أو حماس — ويُرحّب بالإسرائيلي العدوّ حتى لو كان ذا سجلّ إرهابي طويل.
أين يقف الكتّاب والمثقّفون والطلاّب (ولا أستسيغ الفصل بين الناس والكتّاب وفئة ما يُسمّى بـ«المثقّفين» لكن لهؤلاء الحضور الأبرز في الحيّز العام) من تغلغل العدوّ الإسرائيلي في بلادكم ومن مجاهرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بتحالفه مع حكامكم؟ ألا يستثير غضبتكم كلام مسؤولي العدوّ عن تحالف مع «دول سنيّة»؟ لماذا مشاعركم الإنسانيّة تبدو معطّلة إزاء جرائم العدوّ الإسرائيلي المستمرّة؟ ثم هل موقف حكامكم الطائفي ضد «حزب الله» يعني أن إسرائيل باتت بديلاً أفضل بالنسبة لكم ولكنّ؟ ثم ما هذه الصدفة: هل حركة مقاومة فلسطينيّة واحدة عبر العقود (قوميّة عربيّة كانت أو شيوعيّة ماركسيّة أو إسلاميّة سنيّة أو شيعيّة) لاقت استحسان حكّامكم؟ ألا يستدعي هذا مراجعة حول سجلّ أنظمتكم التي أجزلت العطاء على حركات الجهاد الرجعي في أفغانستان فيما باتت تعتنق قوائم الإرهاب التي تصدر عن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن؟ إن سفراء دول الخليج، خصوصاً سفراء النظام السعودي والإماراتي والبحريني في دول الغرب، باتواً أصدقاء شخصيّين وحلفاء سياسيّين لسفراء العدوّ الإسرائيلي في هذه العواصم (واعترف السفير الإماراتي في واشنطن بصداقته مع السفير الإسرائيلي). وليس سرّاً أن اللوبي الإسرائيلي ينسّق عن كثب في واشنطن مع اللوبيات الخليجيّة المنتشرة كالفطر هذه الأيّام.


يتحدث الإعلاميون في أنظمة الخليج من فوق كأنهم في السويد

سابعاً، ماذا عن الموقف من الحركات الإسلاميّة. لقد أصبتونا بالدوار صراحة. كان بعضكم مناصراً ورفيق سلاح لأسامة بن لادن، عندما كان مُباركاً من حكّامكم، ثم أصبحتم معادين هكذا فجأة ليس فقط للحركات الإسلاميّة الإخوانيّة بل أصبحتم متعاطفين مع عتاة الـ«إسلاموفوبيا» في الغرب. لقد قامت الإدارة الأميركيّة بسنّ قانون جائر (حتى المحاكم الأميركيّة اعترضت عليه) ضد زوّار من بلدان إسلاميّة. كيف كانت ردود الفعل الخليجيّة؟ أكد وزير الخارجيّة الإماراتي أن قرار حظر الزوار المسلمين ليس موجّهاً ضد المسلمين، كما أن محمد بن سلمان أفتى بعد لقاء واحد مع ترامب أنه «صديق للمسلمين» — هذا فيما يُجمع معظم نقّاد ترامب من المسيحيّين واليهود والهندوس والزنادقة أنه معاد للإسلام والمسلمين. كيف تجمع المملكة بين استقاء شرعيّتها من حماية الحرميْن (أي نعمة صدفة الجغرافيا) فيما هي تتحالف مع أعداء الإسلام والمسلمين؟ وكيف يمكن للحكومات التي نشرت فكر وحركات «الإخوان» في كل العالم العربي، وموّلت دعايتها ضد الناصريّة أن تكتشف فجأة سوء فكر «الإخوان»؟
ثامناً، ماذا عن هذه العروبة المُكتشفة حديثاً. كيف يمكن لنا تصديق أن أنظمة الخليج هكذا فجأة أصبحت داعية للعروبة فيما هي أنبتت وسوّقت للجامعة المبنيّة على العقيدة الإسلاميّة المحافظة («منظمّة التعاون الإسلامي» وغيرها من الاتحادات والروابط الرجعيّة التي صنعها النظام السعودي لمحاربة عروبة جمال عبد الناصر)؟ إن الأنظمة الخليجيّة كانت صريحة عبر العقود في معاداتها للعروبة، وهي حاربت كل الحركات العروبة في السلطة وفي المعارضة في العالم العربي. ليس هناك مِن مشروع وحدوي لم تحاربه الأنظمة الخليجيّة. لكن زعم العروبة بات ملائماً فقط لعزل ومحاربة إيران. هل استعمال واستغلال العروبة من قبل أنظمة الخليج هي جدّية فيما ترحّب هذه الأنظمة بزوّار الغرب والعدوّ الإسرائيلي أكثر بكثير من ترحيبهم بأخوتهم في العروبة؟ ثم إذا كانت العروبة خياراً حقيقيّاً مخلصاً عند حكّامهم، هل هذا يعني أنهم يوافقون على الاندماج مع أخوتهم العرب، أو على الأقل على سوق عربيّة مشتركة كطريق أوّلي؟ أم أنها خدعة سرعان ما لن تنطلي عندما يخفّ العداء ضد إيران؟ وكيف تستقيم العروبة مع استضافة قواعد عسكريّة واستخباراتيّة لحكومات الغرب المعادية للعرب والعروبة؟
تاسعاً، ما هي مسؤوليّة أنظمة الخليج عن إثارة الفتنة الطائفيّة ــ المذهبيّة في العالم الإسلامي؟ وهل أن إثارة الفتنة بعد الغزو الأميركي للعراق كان صدفة من الصدف؟ ولو حكمنا على الإعلام الإيراني وعلى الإعلام الخليجي، مَن يتضمّن كراهية طائفيّة وبغضاً مذهبيّاً أكثر؟ نتفق أن النظام الإيراني مبني على عقيدة دينيّة ــ مذهبيّة، لكن هل الوهابيّة أو دساتير نُظُم الخليج هي دساتير علمانيّة؟ وكيف يمكن لعلمانيّيكم أن يلاحظوا الخلط بين الدين والدولة في إيران ولا يلاحظونه في بلدانهم؟ لماذا لا نعمل على فصل الدين عن شؤون الحكم في كل البلدان، من طهران إلى الرياض؟ ما دور المثقّفين والمثقفّات والكتّاب والناس العاديّين في دول الخليج للاعتراض على الفتنة؟ وما حكم الذين يعترضون على أيّة كلمة إساءة ضد اليهود (ولا يجوز الإساءة لأفراد أي دين أو معتقد) فيما لا يعترض أحد على التحريض الطائفي ـ المذهبي اليومي ضد الشيعة والعلويّين والمسيحيّين في صحف مثل «القدس العربي» و«عكاظ» و«الشرق الأوسط» وغيرها؟
عاشراً، ماذا عن وضع المرأة؟ إن وضع المرأة في إيران ليس فاضلاً البتّة، لكنه أقل سوءاً — وبكثير — من وضع المرأة في الملكة السعوديّة. كيف يمكن لمناصري ومناصرات حقوق المرأة السكوت عن وضع المرأة (المحليّة والعاملة الأجنبيّة) في بلادكم؟ وكيف تستقيم الليبراليّة عند بعضكم مع معاداة المرأة، أو مع السكوت عن اعتبارها عورة؟
حادي عشر، لنقل إن حكّامكم محبوبون من شعوبهم، ألا مِن ضرورة لدليل على ذلك؟ أليس من ضرورة لإثبات الشرعيّة السياسيّة عبر المعيار الديموقراطي الذي لا تريدونه إلّا في إيران وسوريا فقط؟ لماذا لا تطالبون بتعميم المعيار (مع العلم أن الديموقراطيّة ليست هي الحلّ خصوصاً أن الاقتراع في بلادنا لا يمكن أن يكون حرّاً بوجود التدخّلات الأجنبيّة وثروات القلّة التي تصل إلى الحكم بالمال)؟ لكن التعميم ضروري لمَن يرفعه شعاراً في دولة دون أخرى.
ثاني عشر، هل انتقاد العقيدة الوهّابية هو معاداة للإسلام؟ هل انتقاد عقيدة «ولاية الفقيه» في إيران هي معاداة للإسلام؟ حكماً لا، في الحالتيْن. أو لا يجب أن يكون انتقاد العقيدتيْن هو انتقاد لعقيدة الإسلام.
ثالث عشر، ألا تتصف ردود الكثير من الكتّاب في الصحف الرسميّة التابعة للعائلات الحاكمة أو إلى شركائها في الـ«بزنس» بالكثير من الصلف والعنجهيّة نحو المختلفين معهم في الرأي من العرب؟ أليس هذا مناقضاً للعروبة التي باتت موسميّاً سياسة إعلام أنظمة الخليج؟ ولهجة التفوّق الأخلاقي، عمّاذا تنم؟ وما هي أسانيد التفوّق الأخلاقي لإعلام أنظمة موغلة في فرض القمع والاستثناء والحصر والإقصاء ونزع الجنسيّة؟
إن الهوّة بين أهل الخليج والعرب في دول المشرق والمغرب تتسع. لا يجب أن يصبح الخلاف بين الكثير من العرب وأنظمة الخليج خلافاً بين شعوب. يمكن للشعوب أن تختلف من دون أن تفترق وأن تتهم بعضها بعضاً بالعمالة للخارج. والشعوب، في المشرق والمغرب والخليج مغلوبٌ على أمرها وهي تحاول أن تعبّر عن نفسها من ضمن دائرة ضوابط تتسع باستمرار. لكن الإعلاميّين في أنظمة الخليج يتحدّثون من فوق إليها كأنهم في السويد ونحن في العصور الوسطى. يمكن للخلاف أن يبقى خلافاً بين أنظمة من دون أن تعيّر الشعوب بعضها بعضاً. لكن هذا يستدعي تغييراً أيضاً في اللهجة العنصريّة من أهل المشرق والمغرب نحو أهل الخليج، كما هي تتطلّب أيضاً فهماً من أهل الخليج أن ليس كل ناقد لأنظمة الخليج هو عميل إيراني نبذ عروبته بالثلاث.