عندما يصاب وطن بالخرف

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2641
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

د. علي محمد فخرو
ما عاد المشهد العربي السياسي سرياليا فقط، أي غير قابل للفهم، وإنما وصل إلى مرحلة الخرف.
لقد فضح، أولا، وجود ذلك الخرف إلى أقصاه تصريح وزير الخارجية الروسي الأخير بضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، نعم، المناشدة جاءت من وزير الخارجية الروسي وليست من وزير خارجية عربي. فالخرف لم يصل بعد إلى عقل وزير الخارجية الروسي، الذي لايزال قادرا على التفكير المنطقي. فهو يرى مندوبي الحكومة السورية يجلسون في كل محفل دولي، بما فيه مجلس الأمن، ويحضرون كل الاجتماعات التي تعقدها هيئة الأمم للنظر في إيجاد حل للمسألة السورية. وهو يرى وفودا برلمانية تذهب إلى سوريا لتطلع على أوضاعها وتجتمع بمسؤوليها. أما المسؤولون العرب الذين يحضرون اجتماعات جامعة الدول العربية فإنهم لايزالون يحملون الانطباع نفسه الذي كان سائدا منذ خمس سنوات مضت، وهو أن سلطة الحكم في سوريا هي في طريقها للزوال.
والنتيجة هي أن جامعة الدول العربية، المسؤولة عن حاضر ومستقبل كل جزء من الوطن العربي، تجد نفسها غير قادرة على المساهمة في أي مداولات دولية لإخراج الشعب العربي السوري من محنته ومن الجحيم الذي يعيشه، وذلك بعد أن ارتكبت غلطة إخراج سوريا من الجامعة العربية، كسابقة نظامية خطرة، وقبل أن تنجلي صورة نتائج الصراعات المتشابكة المعقدة في الداخل السوري. نحن هنا، لا ندافع عن هذه الجهة ولا نقف ضد تلك الجهة، فمثل هذه الأحكام هي من حق ومسؤولية الشعب العربي السوري، ولكن يحزننا أن نرى مبادرة تصحيح قرار عربي تأتي من خارج الوطن العربي، لتبين عجز وشلل الإرادة العربية السياسية المشتركة.
لقد فضح، ثانيا، ذلك الخرف أن محاولات إيقاف الدمار المفجع الذي أصاب مجتمع القطر العربي اليمني دخلت في متاهات الغموض والمناورات الدولية وطغيان مشاعر الخلافات المذهبية والقبلية والتاريخية، بسبب غياب الموقف العربي الموحد الحاضن لمصالح وآمال شعب اليمن المعذب المنهك، الذي ما إن يخرج من قبضة مجنون فاسد حتى يدخل في قبضة الجنون الطائفي الأحمق، المستعمل بانتهازية من قبل هذه الجهة الأجنبية الخارجية أو تلك.
يفضح، ثالثا، ذلك الخرف يوميا، وعلى امتداد عقود، أن خلافا حول قطعة صحراوية يظل مشتعلا، من دون أن توجد أي مبادرة عربية لإيصال الطرفين إلى حل يحتضن طموحات وآمال شعوب أقطار المغرب العربي الكبير، بعد أن أوصلت المماحكات والتشنجات هذا الموضوع إلى طريق مسدود.
يفضح، رابعا، ذلك الخرف ما تتناقله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من همسات وتصريحات حول قضية القضايا العربية، قضية فلسطين. بعضها يدعو علنا الى التطبيع مع العدو الصهيوني، الذي يحتل فلسطين كلها ويستبدل شعبها بأغراب يهود يأتون من كل أصقاع الأرض، الذي يسجن ويقتل ويهمش ويهدم البيوت. وبعضها يدعو إلى التخلي النهائي عن شعب فلسطين العربي، متناغما مع تصريحات مجرمي الصهيونية في فلسطين المحتلة. ولم لا يحدث ذلك إذا كانت بعض الأنظمة العربية تتعامل مع الكيان الصهيوني وكأنه حكومة عربية في الجامعة العربية؟
يفضح، خامسا، ذلك الخرف أن تنصاع دولة بترولية عربية لإملاءات الخارج وتقبل بأن تنخرط في صراعاتها الدولية، ومن دون أن تتشاور مع شقيقاتها العربيات المنتجة للبترول، لينتهي الأمر بالهبوط المتسارع المذهل لأسعار البترول، ودخول الجميع في دوامة الديون والتقشف والمستقبل المليء بالأخطار. يفضح، سادسا، ذلك الخرف أن هذه الأمة المتخلفة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم والتكنولوجيا، هذه الأمة المهددة بأن تصبح خارج التاريخ وخارج العصر، منشغلة إلى النخاع بصراع فقهي تاريخي طائفي بليد لا يمت بأي صلة إلى القرآن الذي أوحي لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، والذي يكاد أن يحرق الأخضر واليابس، ويكاد أن ينخر المجتمعات ويفسد العلاقات الاجتماعية بين ساكني أرض العرب.
وأخيرا، يفضح خرف هذه الأمة أن تستطيع مجموعات صغيرة من أبنائها إدخال أرض العرب وبقية العالم في دوامة الجهاد التكفيري العنفي، الذي أضر إلى حدود التدمير بسمعة دين الإسلام، وهو الرسالة الوحيدة التي فاخرت هذه الأمة بأنها تحملها للعالم كله.
يستطيع الإنسان أن يذكر العشرات من التصرفات الخرقاء الجاهلة التي تموج بها أرض العرب والتي، شئنا أم أبينا، خجلنا أم تعنتنا، تدل على وصول المشهد العربي العام إلى مرحلة الخرف. عندما يخرف إنسان يرسل إلى مصح لحمايته من نفسه، ولكن ماذا نفعل بأمة مكونة من أربعمئة مليون من البشر؟ ربنا إننا لا نطلب رد قضائك ولكننا نطلب اللطف فيه.