الخليج وحروبنا: كيف تقضي على حلفائك
عامر محسن
كدت أكتب مرّةً أن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية سببه أنّ عرب الخليج ومن معهم كانوا يؤيدون هيلاري كلينتون؛ فهؤلاء لم يدعموا حركةً أو حزباً أو قضية (من لبنان الى أفغانستان) الّا ولاقت الموت والفشل، ولم يلمسوا شيئاً الّا وتحوّل الى تراب.
يروج اليوم في الصحافة الخليجية نمط لوم الولايات المتّحدة والشكوى من «عجزها» و»خيانتها»؛ ولكنّ لوم الحليف البعيد والشكوى من ظلم العالم وقسوته ما هي في حالاتٍ كثيرة الّا أدوات خطابية لإشاحة النّظر عن المعنى السياسي لما يجري، وعدم وضع المسؤولية حيث يجب أن تكون. من السّهل لكاتب في صحيفةٍ سعودية أن ينتقد اوباما وترامب، لأنّه من غير المتاح له أن يعترف بأن تركيا والخليج، قبل أيّ فاعلٍ آخر، هم من تخلّى عن المعارضة في حلب وكتب هزيمتها (وهو الواقع الذي يعرفه المقاتلون على الأرض ويصرّحون به). يحقّ للاجىء سوريّ، دمّرت الحرب بلده وحياته، أن يشتكي من ظلم العالم وانعدام العدالة فيه، ولكن هذه الشكوى تصبح بلا معنى حين يطلقها مثقّفو الخليج، الذين حرّضوا وساهموا ودافعوا، وكانوا جزءاً من آلة الحرب التي دمّرت سوريا، وأوصلوا من صدّقهم واعتمد عليهم الى الطريق المسدود.
ما لا يكتب في العلن يُقال في الجلسات المغلقة، كالحديث الذي تسرّب عن المعارض السوري ميشيل كيلو، وهو يهاجم السعوديين ويتّهمهم بالمسؤولية عن خراب سوريا. في المعسكر الخليجي، خطأٌ كهذا ليس يسير العواقب: سعد الحريري كاد أن يخسر سلطته وماله بسبب جملةٍ قالها عن أميرٍ سعوديّ وتسرّبت، وكيلو شتم «الحلفاء» السعوديين قيادةً وشعباً، وتحدّث عنهم بفوقية وعنصرية (وكانت الردود السعودية عليه، بدورها، عنصرية الطابع، تستهجن هذا «النصراني» و»الغجري» الذي يتشاوف علينا ــــ هكذا هي ثقافتهم اليوم وهذه نقاشاتهم). يخرج من صفوف المعارضة، ايضاً، الكثير من الأصوات التي تعترف بأنّ دخول حلب كان قراراً خاطئاً، وأن حرب المدن مدمّرة بلا نتيجة، ومن الواجب إعادة النظر بهذه الاستراتيجية؛ وهذا الكلام ايضاً يعتريه بعض النّفاق عدا عن كونه متأخراً، فقرار دخول حلب وتحويلها الى ساحة معركة (ومعها دمشق وباقي مدن سوريا) لم يكن نتيجةً خيارٍ سيئ أو تصرّفٍ أهوج، بل كان سياسةً مدروسةً تهدف الى تحقيق هذه النتائج الكارثية بالتحديد، والتي أدّت الى تهجير وتخريب أكبر مدن سوريا وإحدى أجمل مدن الدنيا.
بين السياسة والشّعار
من وجهة نظرٍ انسانية خالصة، فإن المعركة التي تجري في الموصل في هذه الأثناء يُحاصر فيها من المدنيين عشرة أضعاف من في شرق حلب، والمعارك أعنف، والضحايا أكثر، والمدينتان لا تفصلهما الا مئات الكيلومترات، ولكنك لا تكاد تسمع همسةً عن الموصل في الإعلام العربي المهيمن مقارنة بالدعاية عن حلب. ولو طبعت عبارتي «حلب» و»الموصل» في «تويتر» بالانكليزية، لوجدت عالمين مختلفين بالكامل، مع أنّ المشتركات بين المدينتين، ومأساتهما الرهيبة، ساطعة ومن العبث تجاهلها. المسألة والإنحيازات هي اذاً، في العمق، سياسية وليست محض «انسانية»؛ ومحاولة إخراج السياسة والوقائع والتاريخ والسياق من المعركة، واستبدالها بلغة الكارثة والشكوى هي ايضاً وسيلةٌ لحرف النقاش عن مسؤولية المتكلّم وتجهيل الفاعلين (ومن الصّعب، منطقياً، أن نصدّق أن العرب والأجانب الذين استثمروا في الحرب السورية لسنوات، وشجّعوا السوريين على قتل بعضهم، وخاضوا بهم وبمدنهم حروبهم من دون أن يضحّوا بأي شيء ــــ كما فعلوا من قبل في لبنان ــــ يقدّسون حياة السوريين دون غيرهم).
حلب الشرقية ليس فيها «داعش»، ولا تهيمن عليها «النصرة» وحدها، وليست كلّ الفصائل المسلّحة من طرازٍ واحد، هذا كلّه صحيح. هناك فصائل إسلامية (بمعنى أنها تعتبر أن الهدف من القتال هو إقامة شرع الله في الأرض)، وفصائل «غير إسلامية» بهذا المقياس؛ وبين الإسلاميين يوجد سلفيّون وغير سلفيّين (مع العلم أنّ الكثير من المدنيين السوريين، في مناطق «المعارضة»، يفضّلون الحياة تحت «النصرة» على «الجيش الحرّ» فهم، وإن كانوا متشددين، الّا أنّهم لا يسرقونهم ويعتدون عليهم). المشكلة هي أنّ كلّ هذه الفصائل على اختلافاتها، من زنكي الى «النصرة»، تتشابه في عنصرٍ وحيد، هو أنّها تعتبر حرب سوريا «حرباً على النصيريّة والرّوافض». يختلفون على الخلافة وشكل الدولة والسياسة، ولكنهم لا يختلفون على هذا الخطاب. لو كان النّقاش يجري في الغرب، لقلنا إن هؤلاء المثقفين لا يملكون صلةً مباشرة بالأحداث ويتكلّمون من خلف ستار الجهل، ولكن ــــ في بلادنا ــــ الناس تقرأ العربية، وتستمع الى بيانات الفصائل «الثورية»، وتعرف تماماً ماذا تدعم. الهدف هنا ليس تقديم مفاضلة أخلاقية، بل مجرّد الإشارة الى حقيقة أنّ كلّ هؤلاء المثقفين «الحداثويين» العرب ما كانوا ليتجرّأوا على دعم هذه الحركات الإباديّة، لولا أن المؤسسة الغربية وإعلامها قد تبنّتها واحتضنتها وروّجت لها وأخفت وجهها الحقيقي. وهذا، بالمناسبة، له سببٌ، وهو أنّ القوى الغربية تاريخياً تلاحق الخطاب الموجه ضدّ الغرب أو اليهود، وتعتبره خطاب كراهية، ولكنها لا تهتم البتّة بخطاب الكراهية حين نستخدمه ضدّ بعضنا البعض. كان هذا المنطق واضحاً حين طلبت واشنطن من الرياض، بعد 11 ايلول، تنظيف مناهجها الدراسية مما اعتبرته «تعاليم كراهية»، فانتزعت دروساً تحثّ على عداء الغرب واليهود، ولكنها لم تقترب من المواد التي تشنّع على المذاهب الإسلامية.
التضحية بالأتباع
لا كلمات تصف نهج الخليج في استخدام فئات شعبية وحركات عربية كـ»أوراق» يدفعها في معارك يائسة، لا يهمّه أن تحترق وتهزم وتحلّ بها الكوارث على المدى البعيد، من العراق في الثمانينات الى حلب والموصل اليوم. في العراق مثالٌ يختصر الكثير أشرنا اليه في السّابق. بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، ورغم حلّ الجيش والنظام السياسي، ظلّت مدنٌ أساسية في العراق (كالموصل وتكريت) محكومةً اساساً من نخبةٍ بعثية حافظت على وجودها بعد الإحتلال. مدراء الشركات وأساتذة الجامعات ومسؤولو المدارس كانوا في غالبهم من البعثيين السابقين، الذين رفضوا النظام الجديد، وشكّلوا كتلةً اجتماعية فعّالةً وعنيدة، وقفت في وجه المالكي وسابقيه بقوّة، وسيطرت على الرأي العام والطبقة الوسطى في مدنها. هذه الفئات، لاسبابٍ مختلفة، كانت تشكّل حليفاً طبيعياً للسياسة الخليجية في وجه النظام العراقي. البديهي في هذه الحالة هو أن تستثمر في هذه النخبة، وتعينها على التوسّع وإعادة إنتاج نفسها، وستشكّل لك، بالمقابل، حليفاً سياسياً مهمّاً لعقودٍ قادمة. ما حدث في الواقع هو أنّ الخليج ساهم في تصعيد السياسات الطائفية في العراق، التي أوصلت الى تمرّدٍ و»داعش»، وحوّلت نصف هؤلاء البعثيين الى مقاتلين هم اليوم محاصرون في نينوى، وقتلت النّصف الآخر. الشيء الوحيد الذي نجحت فيه سياسات الخليج وحلفائه كان في جمع العراقيين واللبنانيين والايرانيين والروس والسوريين، في مشهدٍ لم يكن أحدٌ ليتخيّله منذ أعوام قليلة، ليتوحّدوا في وجههم ويهزموهم.
بعد الحرب الأهلية الأميركيّة بعقود، كانت مناطق الجنوب الأميركي لا تزال تترنح تحت تأثير الحرب والهزيمة، والنخب الجنوبية فقدت حظوتها السابقة في واشنطن وثرواتها الكبيرة، وصار دخل المواطن الجنوبي يوازي ثلث نظيره في الشّمال. سياسات الخليج في المشرق ضمنت أن النخب التي سارت خلف مخططات الرياض والدوحة ستلاقي مصيراً مشابهاً، وقد تمّ استنزافها لسنوات قادمة. ما لا يفهمه الكثير من النّاس خارج المشرق، وما لا يظهره الإعلام السائد، هو الإختلاف الكبير بين الخطاب الطائفي الذي يرعاه الخليج وقناعات غالبية الناس في سوريا والعراق. في العراق، رغم انتشار التديّن، ورغم النّظام السياسي الطّائفي والفساد والتدخل الخارجي، فإنّ غالبية الشعب ترفض فكرة النزاع الطائفي، وقد تعلّمت من تجارب الماضي ولا تنوي تكرارها (والكثير من استطلاعات الرأي تظهر ذلك بوضوح). رغم كلّ الاستفزاز الذي قام به «داعش» ومناصروه (في الداخل والخارج) طوال الأعوام الماضية، لم تحصل صدامات طائفية في بغداد، ولم ينتقم الناس من بعضهم، ولم تحصل مشاكل في المناطق الآمنة التي يتجاور فيها السنة والشيعة.
فكرة «الهوية السنيّة» التي تروّج لها نخب الخليج، وتصنع حولها خطاباً سياسياً، هي ــــ كما يصف على القادري النزاع الطائفي ــــ «هويات متوهّمة»، ليس بمعنى أنّها مركّبة و»مصطنعة»، فكلّ الهويّات كذلك، ولكن بمعنى أنّها لا تعكس واقعاً فعلياً يشبه خطابها، ووعياً مشتركاً يعبر الدّول. هي فعلياً سردية لنخبٍ خليجية (تعتمدها وتبثّها لأنها تحتاج الى هويّة وإمكانية للتأثير)، يردّد صداها مثقّفون وكتّاب وإعلاميون في الدول المحيطة، أغلبهم يرتبطٌ مباشرة بتمويل الخليج ومصالحه. من هنا تجد مشهداً محيّراً لأناسٍ يقبعون تحت قمع الأنظمة في مصر أو الأردن، أو تحت احتلالٍ مزدوج في فلسطين، ويتكلّمون عن «أمّة السنّة» كأنهم يخططون لامبراطورية (هنا، من الضروري للإسلامي تحديداً أن يفهم أن فشله في انتاج نموذج جهادي ونموذج للحكم ليس سببه الشيعة وايران، وعليه البحث عن جذوره في مكان آخر).
ليس صحيحاً أنّ بلادنا، بعد الحرب، ستغرق في حكم الاستبداد والميليشيات، كما «يتنبّأ» (او يتمنى) لنا الكثيرون. بل إنّ أمامنا، في الحقيقة، فرصة لبناء بلادٍ حصينة منيعة، وعلى أسسٍ جديدة، وتملك مقوّمات الحياة. الواقع اليوم كالحٌ ومحزن، ولكن الحرب بدأت تُحسم، ونحن على وشك هزيمة وباء السلفية في مجتمعنا، وهو لن يعود مجدّداً. ولكن ماذا سيحصل بالدول التي حرّضت على سوريا والعراق وساهمت في مأساتهما، وشنّت عليهما حرباً شبه رسمية؟ حربنا تقترب من نهايتها ولكن أزمتهم لم تبدأ بعد، وماذا سيحصل ــــ على المدى المتوسّط ــــ لدولٍ تعيش على المساعدات والدعم الخارجي، ومجتمعها يغلي وتنتشر فيه الشبكات الوهابية؟ هل يظنّون أنّهم لن يحصدوا ما زرعوه؟ وحين يحصل ذلك، وهو قد لا يكون بعيداً، لن نجني عليهم ونسعّر حربهم، كما فعلوا معنا، بل سيكون مجرّد جزاءٍ من جنس العمل.