اصطفافاتنا البلهاء والوعي المفقود
حسن العمري
موت الدولة القطرية
تمر المنطقة والعالم من ورائها بمرحلة استقطاب شديد، أبرز عناوين هذه المرحلة هو مرحلة فشل وموت الدولة العربية الحديثة التي نشأت من رحم الاستعمار، هذا الموت السريري للدولة العربية يصاحبه هرم وشيخوخة لفكرة الدولة الحديثة ذاتها التي أنتجها الغرب وطورها، والتي هي بدورها نشأت من رحم الرأسمالية.
ما تشهده المنطقة العربية الآن بعد ولادة دولها من رحم الاستعمار غالبًا سواء المباشر، أو غير المباشر، هو نهاية فعالية الدولة «الهجينة» كنموذج معقد لإدارة العلاقة بين الشعب والسلطة، هذا النموذج فشل في المنطقة لعدة أسباب معقدة من أهمها غربة وهجانة مفاهيم الدولة القانونية الحديثة بين نظامين متناقضين أساسًا «الشريعة والقانون الوضعي»، تسابقت جماعات الإسلام السياسي التي اختطفت عناوين تطبيق الشريعة ضد نخب حاكمة مستبدة، لكن دون قدرتها على فض تلك الهجانة بين امتثال نظم في السياسة تنطلق من مقاصد الشريعة وروحها وبين إلزامات الدولة القطرية بشكلها القانوني الحديث ذي الأسس الغربية القائمة على أفكار بعيدة عن البيئة العربية والإسلامية، قوامها مفاهيم عديدة منها مفهوم السيادة الذي لم يكن معروفـًا في مفاهيم السياسة الشرعية لدى المسلمين، ومفهوم الطبيعة الاعتبارية للدولة وحيادية الدولة وعلمانيتها، وفصل سلطاتها الذي يستوجب نظامًا خاصًا بها قادرًا على تنظيم العلاقة بين تلك السلطات وإدارتها، فضلًا عن ارتباطها بمراجعها الدولية المتحكمة في شرعيتها، لذا فإن منتج الدولة الحديثة وتطوراته هو ابن تلك القوى الغربية التي أنتجت مفهوم الدولة القانونية الحديثة وصنعته في مصانعها ليكون على مقاساتها.
قطب واحد وعولمة مخططة
نظام القطب الواحد والنظام العالمي الجديد «الذي تقادم هو بدوره»، والذي بشرت به الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب قبل مطلع هذا القرن، والذي أبرز سماته ما نشاهده من عولمة للقوانين، وتجاوز مفهوم السيادة التقليدي، وتوحيد للأنظمة لتتماشى مع النظام المعولم والمخطط من قبل أولئك الأقوياء المتحكمين في هذا النظام، هذا التحكم الذي احتكر الشرعية واحتكر القوة والإعلام، وأطلق مصالحه على أجنحة العولمة لتعبر شركاته ومنتجاته وأفكاره ورؤاه وتصوراته للكون والقانون والحياة وفق طريقته ونظام حياته.
لقد أدت الحداثة التي أعادت تعريف الأشياء ومسمياتها وماهياتها إلى كسر واختراق جوهري لثقافات الآخرين وأنظمتهم وحياتهم، وجعلت كل شيء قامت بتعريفه ملكًا لأصحاب هذه الحداثة والعولمة المتساوقة معها لتصبح قضايا الملكية الفكرية مرتكزًا مهمًا في هذا التجريف الشامل وليعاد تسمية كل شيء ليصبح بعد إعادة تعريفة ملكـًا لأولئك الأقوياء المخططين للعولمة والمالكين للشرعية الدولية ومراجعها في المؤسسات الدولية التي تتحكم بها، لقد كان يأمل عرابو هذا النظام الجديد أن يمضي العالم إلى هذه الصيرورة ليكون هذا النموذج هو «نهاية التاريخ» بحسب فوكوياما؛ بحيث يسود النموذج الأمريكي بقيمه الغربية كأفضل نموذج وصلت إليه البشرية، لكن ما حملته العولمة من إشكالات ومن وجه قبيح كشرت فيه عن أنيابها حيث لم تعد هذه العولمة صيرورة طبيعية ناتجة عن اتصال أبناء هذا الكوكب ببعضهم بطريقة تلقائية وطبيعية نتيجة ثورة الاتصالات والمعلومات، بل كشفت عن عولمة مخططة متوحشة تكتسح أي خصوصيات أو حقوق، كما أنها لا تتعامل مع الآخر وفق قدراته، بل تملي عليه الإذعان لمخططي هذه العولمة الشريرة.
الجماعات الإسلامية والتيه
قادت جماعات الإسلام السياسي المجتمعات وأتباعها إلى صراع مع الدولة القطرية بغية فتح ثقب في هذا النظام الدولي من داخله ووفق آلياته تارةً عبر ركوب بعض موجاته؛ مثل الديموقراطية وتأسيس الأحزاب والمشاركة السياسية، وتارة أخرى عبر العنف ومقاتلة الأنظمة وتكفيرها بغية إسقاطها وإقامة نظام متخيل في ذهنها دون برامج أو رؤى واضحة لتعاملها مع الحداثة ذاتها ومع «الدولة القانونية الحديثة» ومع النظام الدولي وقواه الذي يراقبها ويلاعبها في كثير من الأحيان، الأسوأ أن القوى الغربية والمعسكر الغربي استطاع أن يستخدم هذه الجماعات بجدارة لأغراضه، سواء بالتحالف معها مباشرة أو مع الأنظمة التي تعرف كيف تتعامل معها، مثل الحالة السعودية على سبيل المثال؛ حيث كانت العائلة الحاكمة حجر الرحى في هذه المعادلات منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وخضوعها للنظام العالمي الذي استقر بعد الحرب العالمية الثانية؛ وذلك نظرًا لأهمية موقعها ورمزيته في العالم الإسلامي، هذه الجماعات أغلبها قامت على الفكر السلفي، وكان نجاح السلطة السعودية بنسختها الوهابية التي استطاعت عبر تطويع «الدين» أن تصيد ذلك «الصقر الحر» – بحسب وصف الملك عبد العزيز للدين الذي شبهه بالصقر الحر وأن من صاده استطاع أن يصيد به! – كل ذلك ليعمل «الدين» المستتبَع لصالحها، وبالتالي فإن جماعات الإسلام السلفي عمومًا، سواء النسخة المتشددة منه كالقاعدة وداعش لاحقًا، والمتجمل منه مثل «تنظيم» جماعة «الإخوان المسلمين» هم من تعاملت معهم ودعمتهم ولاعبتهم العائلة الحاكمة السعودية، وأيضًا القوى الغربية المتحكمة في النظام الدولي التي تشارك العائلة المصالح.
لكن هذه اللعبة الخطرة بالدين لم تنته بعد، وما زالت تشكل المشهد الحالى في العالم بقوة؛ حيث الحرب على ما يسمى بالإرهاب الإسلامي ما زالت قائمة، لقد كان الزلزال الكبير الذي أقدم عليه الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بعد عامين من انتفاضة 25 يناير في مصر والزج بمرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي في مقابل أحد وجوه النظام القديم، مما أدى إلى فوزه بفارق ضئيل رغم المد الثورى الكاسح حينها «بعد أن ناور تنظيم جماعة الإخوان على رغبات الثوار الحقيقيين المطالبين بحكم مدني لا مكان للعسكر فيه»، المقصد أنه بعد عامين من هذه الأحداث وفي خلال أقل من عام حكم فيه تنظيم الإخوان تعامل معها الراحل بمثل تعامل والده الملك عبد العزيز مع «إخوان من طاع الله» عندما قام بالإطاحة بهم في معركة السبلة الشهيرة؛ حيث قام الملك الابن بتحجيمهم عبر ضربهم، لكن الوضع اليوم يختلف تمامًا، ففي ذلك التحجيم كان الأمر بإرادة ومباركة مخططي النظام العالمي المبشرين بولادته والمنتصرين في الحربين العالميتين ومالكي الشرعية التي احتكروها لنظامهم الذي ستتضح معالمه بعد حربهم العالمية الثانية وتأسيس هيئة الأمم المتحدة، إلا أن في القضاء على ذلك الصقر الحر وبما يشبه «شيّه» -أي إحراقه- بحسب المثل الشعبي الدارج في المنطقة «الذي لا يعرف الصقر يشويه!» الأمر كان مختلفًا تمامًا؛ حيث كان الغرب وعرابو النظام العالمي يراهنون على أم هذا الحركات الإسلامية التى سوف يسلمونها قيادة هذه الدول القطرية في المنطقة، بحيث يمكن ترويضهم من خلال آلياتها التي اخترعوها وصنعوها، وبالتالي يمكن السيطرة على حراك الشعوب من ورائهم وضمان بقائهم ضمن لعبة الدولة القطرية التابعة لهم، والتي لا يمكن لأحد الخروج من متاهاتها، حيث سيسهل ضربه بسهولة بموجب آلياتها لو حاول الالتفاف عليها.
على الطرف الآخر وبعد إسقاط الملك فيصل للمد الناصري وإطلاق ما أسماه حينها بالتضامن الإسلامي واستخدامه جماعات الإسلام السياسي ذات الخلفية السلفية التي يعرف كيف يتعامل معها كما والده الملك عبد العزيز تم له إسقاط المشروع الوحيد الذي كان يمكن أن يوحد العرب ويقويهم تجاه أعدائهم من القوى الإمبريالية وكيانها الصهيوني المغروس في فلسطين، تم بعد ذلك تسليم الفضاء الاجتماعي لذلك التيار الذي عمق الأفكار المتشددة في المجتمعات بناءً على أفكار مثل الحاكمية والمجتمع الجاهلي والتي جميعها كانت النسخ الحديثة للتكفير الذي جاء به محمد بن عبد الوهاب، وتسلقت عليه العائلة السعودية الحاكمة لأغراضها السياسية، بعد مرور عقود من الزمن، وتحديدًا بعد الثورة الإسلامية في إيران التي هي في أساسها ثورة ضد الاستكبار العالمي وضد مفهوم الدولة القطرية المرتبطة بعرابيها ومراجعها المستكبرة بحسب أدبيات الثورة ذاتها، مثلها كمثل مشروع عبد الناصر في غاياته، كانت ارتدادات تلك الثورة ما زالت تضرب المنطقة رغم محاولات الغرب وسدنة النظام العالمي ضربها عن طريق تسليط وكلائهم في المنطقة، لذا يمكن فهم لماذا قامت العائلة الحاكمة في السعودية وبعض مشيخات الخليج من دعم صدام للدخول في حرب مع إيران بعد أشهر من قيام الثورة لتبدأ حرب مريرة استمرت لسنوات، لكن ارتدادات هذه الثورة رغم تراجعها بسبب الحرب مع العراق والحصار الغربي لإيران عادت بشكل قوي لتملأ الفراغ الذي خلفه التدخل الأجنبي المباشر في إسقاط بعض دول المنطقة -المارقة في نظر الغرب- بعد استعصائها على الانخراط في النموذج الغربي وبيت الطاعة الغربي، كتلك المشاكسات الحاصلة من عراق صدام وليبيا القذافي التي كانت ضد الغرب أحيانًا ولكنها لم تكن تملك مشروعًا ورؤية تواجه بها الغرب، كما أن بطش قادتها وممارساتهم الاستبدادية جعلت الجميع ينفض من حولهم، كل هذا والثورة وقادتها في طهران يستفيدون ويراجعون ويقيمون مواقفهم لتحقيق أهداف ثورتهم، وكانت تركز فيما ركزت عليه مسألة الاكتفاء الذاتي وتطوير قوة في المنطقة، بل قوة نووية تمكنها من الردع وحماية ثورتها.
بعد حرق ذلك «الصقر الحر» في مصر وتخريب الملك عبد الله – من أجل حسابات فريقه حينها – لمشروع تمكين تنظيم الإخوان كأكبر جماعات الإسلام السياسي من الحكم وإدخالهم في دهاليز لعبة الدولة القطرية، كان لزامًا على امريكا وعرابي النظام الغربي أن يصلوا إلى حل مع إيران، تلك القوة المشاكسة لهم والصاعدة والرقم الصعب في المنطقة؛ لذا كان الاتفاق النووي الذي هو بمثابة تمكين الغرب من التقاط الأنفاس مع عدوته اللدود إيران، وإعادة ترتيب المشهد مع حلفاء جدد يستطيعون السيطرة على القواعد الشعبية الحائرة في المنطقة، والتي من السهل خداعها باسم الدين، وللأسف في أغلب أحوالها.
مع اختلال المشهد بعد ما يسمى بالربيع العربي – الذي كان بريئًا في بعض جوانبه وانتفاضات متفرقة ضد ظلم الأنظمة العربية وبؤسها واستبدادها– قامت أمريكا ووكلاؤها في المنطقة بإعادة إنتاج القاعدة وذلك لزرع الفوضي في المنطقة وإعادة ترتيبها بما يتوافق مع مصالح ذلك النظام المتعالي، لذا ليس من الغريب ولا العجيب أن يكون تموين مثل هذه المجموعات المقاتلة داعش وأخواتها عن طريق بعض الأنظمة الخليجية الغنية، كالسعودية وقطر هذا ليس سرًا هذا ما أكدته وثائق ويكليكس وتسريبات البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون مؤخرًا، وإلا فتورطهم في دعم هذه المجموعات التكفيرية لا يحتاج إلى دليل.
هذا هو المشهد الآن، ومع صعود نجم روسيا الاتحادية وإفاقتها من الضربات المتتالية التي كالها الغرب لها منذ حرب أفغانستان وتحشيد الجماعات السلفية الوهابية التكفيرية لمقاتلتها بالوكالة عن أمريكا، وبدعم من الاستخبارات السعودية آنذاك إلى دعم المقاتلين المتطرفين في الشيشان للغرض نفسه الذي يريده الإسلاميون في فتح ثغرة في النظام العالمي عبر محاربة أي دولة قطرية، متناسين أن ذلك كان نوعًا من العبث -أي الصراع مع الدولة القطرية في أي مكان- لأن أحد أهم جذور هذا النظام العالمي ومستند شرعيته فيما يخص العالم الإسلامي كله قائم على الشرعية التي توفرها العائلة الحاكمة في الجزيرة العربية، والتي تمسك بزمام المناطق المقدسة وأكبر الموارد النفطية في العالم وتروج الدين وتحميه وفق النظرة السلفية الوهابية الوظيفية والمتخادمة مع أمريكا، عبر الاتفاق المعروف مع أمريكا ومع الغرب عمومًا، لذا فقد كان أي صراع مع أي دولة عربية أو إسلامية من قبل الإسلاميين بلا استثناء دون معرفة موقع هذا الصراع من النظام العالمي المتحكم هو بمثابة المعركة الخطأ في المكان الخطأ والظرف الخطأ، بل من أجل تحقيق غايات هذه الجماعات قد أدى ذلك إلى الوقوع في عدة كوارث مادية وأخطاء فكرية فاحشة وفادحة تبرر أعمالها، من مثل مبدأ الحاكمية الذي أدى لتكفير الأنظمة العربية والإسلامية بالجملة، أو تحت ذرائع المجتمع الجاهلي التي كفرت حتى الشعوب، ومن هنا تم إعمال السيف في الأمة وبينها!
استقطابات ومحاور
الواقع الآن يتصارع فيه معسكران أو قطبان، وكسنة من سنن الخالق في التدافع تشكلت معالم هذين المعسكرين بشكل واضح بعد أسوأ فترة من سيطرة نظام القطب الواحد ذي البعد الرأسمالي والبعد العولمي المخطط والمتوحش، فبعد أن كاد المعسكر الغربي أن يقف على قمة قطبه الأوحد بعد تدمير البلاد العربية وتدجين بعض بلادها ذات البعد الرمزي كالمملكة السعودية ودول الخليج الماضية في الفلك الغربي، فإذا بالمعسكر الشرقي ينهض من جديد بعد تدمير وتفكيك الاتحاد السوفيتي في التسعينات من القرن الماضي، وهذه دول البريكس «روسيا – الصين – الهند – البرازيل- جنوب إفريقيا» ومجموعة دول شنغهاي، وبعض الدول الإسلامية الكبرى كإيران تصطف في معسكر ضد ذلك القطب الواحد المتوحش والمستكبر وبدأ يعود التوازن للعالم شيئًا فشيئًا حتى لا نغرق في بحر الغرب الأوحد، لكن هذا الاستقطاب والتدافع بين القطبين ما زال في بواكيره، وما زال يشهد مخاضًا شديدًا تطل عليه مخاوف الحرب النووية والحروب المدمرة وبالتحديد في منطقتنا العربية، وهذا ما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا تحديدًا.
لكن ما يعنينا هنا هو وضع الدول العربية والإسلامية، وخصوصًا الدول المركزية منها، مثل تركيا وإيران والسعودية ومصر، فالعائلة الحاكمة السعودية بعد صدمتها من تحرك الرمال من تحت أقدامها وبروز المحور والمعسكر الشرقي المناهض للإرهاب وللغطرسة الغربية بعد تحالف الروس مع الدول المتضررة من الجماعات الإسلامية التكفيرية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وربما تلحق مصر بهذا المعسكر بحسب القراءة لسياساتها الجديدة، وهنا كانت دول المحور الغربي بقيادة الأمريكان وبعض الدول الغربية وحلفاؤها أو وكلاؤها في المنطقة يريدون كما في السابق استعمال الجماعات الإسلامية المتطرفة – التي تتلاعب بها المخابرات الأمريكية وبعض الدول الخليجية- لترويض الدب الروسي وتهديده بل تحطيمه إذا لزم الأمر حتى لا يُكسَر النظام والنفوذ الغربي المتمثل في القطب الواحد ونظامه العالمي المُحتَكَر، هذا المحور الشرقي بتحالفاته الجديدة بدأ بوضوح يتشكل ليقف ضد الاستكبار العالمي وضد نظام عالمي أحادي بمقاييس عرابيه، وهنا كانت سوريا والعراق واليمن محل الصراع الجديد بين المحورين.
إننا إذا تأملنا واقع هذه الدول ومكانها في لحظة الاستقطاب الحالي فإنه يمكن معرفة آثار اصطفافاتنا تجاه هذه الأحداث والمتغيرات الكبيرة في المنطقة التي خلقت استقطابًا شديدًا، لا يمكن بالطبع أن يكون الشخص في منطقة ما خارج هذه الاستقطابات حيث لا مكان، بعيدًا عن آمال خط ثالث لم تتوفر ظروفه بعد، ولم يستطع نخب الجماعات الإسلامية وقادتها التي حركت الجماهير وحرضتها للذهاب إلى المعارك الخطأ في مثل هذه الاستقطابات والأحداث الجسيمة، بينما قادة الدول المنبطحة والمصطفة مع المعسكر الغربي المتوحش أصبحت أسيرة ذلك المعسكر ولا تستطيع الانفكاك منه كونها مرتهنة وجوديًا له، هذا الخط الثالث بعيدًا عن وحدة وتضامن إسلامي حقيقي يبقى حلمًا وآمالًا بينما هو في صيرورة الأحداث المتسارعة ليس إلا قِطعَ ما يتبقى من الصراع الحالي وشظاياه لولا رحمة من ربك قد تسبق.
اصطفافات بلهاء
أمام هذا المشهد بالغ التعقيد نجد أن اصطفافاتنا أحيانًا هي مجرد اصطفافات بلهاء، هذه الاصطفافات لا تنفذ بوعي لمعرفة دوافع الصراع العالمي وخفاياه وموقعنا منه وموقع فهمنا للدين والسياسة منه أيضًا، فعندما تقوم العائلة الحاكمة في الرياض بالتحريض الطائفي ضد الشيعة عربًا وعجمًا، وضد الروس وحلفائهم إنما هي تريد جر مواطنيها وهذه الجماعات معها في معاركها في اليمن وسوريا والعراق ليكونوا في المكان الخطأ في مثل هذا الاصطفاف بين المحورين السابقين، هنا يجب أن نقف ونتساءل عن هذين المحورين، أي المحورين متكبر ويريد فرض نظامه ومفاهيمه على العالم، من يريد إعادة استعمار العالم وإثارة الفتن فيها، من يحرض العرب والمسلمين بينهم البين عن طريق وكلائه، من يدعم إسرائيل ويصوت بالفيتو ضد كل حقوق فلسطين وشعبها، بل من زرع إسرائيل أصلًا في المنطقة، من دعم الأنظمة الملكية الفاسدة الوكيلة والرجعية له في المنطقة، من جمد أموال الأنظمة الغنية في المنطقة وثرواتها ليمارس مزيدًا من الابتزاز والضغط على حلفائه ليمضوا في مخططاته الشريرة، من ومن… إلخ، بالطبع ليس الدب الروسي الذي يقاتل في سوريا حتى لا يصل أولئك التكفيريون العبثيون إلى عقر داره كمدينة غروزني ويدمرونها مرة أخرى أو إلى جمهورياته الإسلامية التي يدعم القوم متطرفيهم وأن يكونوا محرقة الفكر الوهابي التكفيري القاتل أو دراويش السياسة حاملي الفكر السلفي الوهابي الذين فقدوا بوصلتهم في سبيل السعي للسلطة وجر أتباعهم للاصطفاف مع الوكلاء تارة أو مع الأصلاء في هذا النظام الدولي المتجبر تارة أخرى.
عندما تتقرر هذه الحقائق فإننا نستطيع أن نحدد أين يجب علينا أن نقف وأن نعرف مع من نصطف؛ لأن الوقوف على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى نوع من الخيانة، وبالتالي وبالنظر إلى الواقع الآن فإننا سنعرف لماذا يجب أن نقف مع تحرير الموصل وحلب من تلك الجماعات التكفيرية، كما أننا سنعرف أين نصطف، أو نقف، أو نذرف الدموع على ما يجرى في العراق وسوريا واليمن.