الطريق الى العرش
عامر محسن
في المقاربات التي سادت حول زيارة الوفد السعودي الى الكيان الصهيوني هناك مشكلة تشبه، بمعنى ما، المشكلة في «النقد» الذي يوجّه الى «رؤية» محمّد بن سلمان و»اصلاحاته» وخططه.
الكثير من المعلّقين، من السّعودية الى لندن، ما زالوا يتعاملون مع «خطة بن سلمان» على أنّها أمرٌ جدّيّ، ويحاولون تتبّع منطقها وتفحّص عناصرها، بل ويعبّر العديدون عن إعجابهم بطموح الخطّة وأهدافها، ولكنّهم ــــ لضرورات «الموضوعية» ــــ يتساءلون عمّا إن كانت ستطبّق كما يجب، ويؤكدون على ضرورة التوفيق بين النظرية والتنفيذ (كأنّما الفكرة ممتازة، والمشكلة هي في التطبيق).
أي نظرةٍ الى خطّة بن سلمان لا تدرسها كمحاولة لإعادة توزيع الثروة والسلطة داخلياً (بين النخب أساساً)، أو تأخذ الأرقام والتقديرات المستقبلية التي تذكرها حول الاقتصاد السعودي كأنّها مدروسة وجدّيّة، تكون قد أخذت الخطوة الأولى على درب الخطأ. لا ضرورة لتكرار حججٍ قيلت في السابق حول الخطّة وأنها لا تحلّ أيّاً من التحديات الأساسية التي تواجه المملكة، أو عن امكانية أن ترسم شركة استشارات أجنبية «خطة وطنية» لتحويل البلد، وما إن كانت السياسات التي بنت «نموذج دبي» تصلح للسعودية، أو حتّى عن الحكمة من كتابة خطة استراتيجية مفصّلة «لا تأخذ السياق السياسي في عين الاعتبار».
هناك، قبل هذا كلّه، عددٌ من التناقضات البنيوية، الجوهرية، في «الرؤية»، يكفي كلّ منها للتشكيك في كامل جدواها. خذوا المثال التالي: يقول بن سلمان إنّه ينوي تسييل الشركات الوطنية الضخمة (كـ»أرامكو») وتحويل الأموال التي سيجنيها من بيع أسمها الى صندوق استثماراتٍ نقديّ، يشتري أصولاً حول العالم ويحقّق عليها عوائد تموّل الدولة. من جهةٍ أخرى، يدّعي الأمير أنّ هدفه الأساسي هو توسيع القطاع الخاص واستثماراته، وخلق وظائف للسعوديين لا ترتبط بالدولة والبيروقراطية. حسنٌ، اذا ما افترضنا نجاح الفرضية الأولى، وانهال المستثمرون السعوديون والأجانب على شراء أسهم «آرامكو» وغيرها، ستكون قد أفرغت الاقتصاد السعودي من أكثر رساميله الاستثمارية، وقد سُحبت مئات مليارات الدولارات من السوق المحلي لشراء أسهمٍ في شركاتٍ موجودة أصلا في البلد، والدولة استخدمت هذه الأموال في الخارج لشراء حصصٍ في «اوبر» و»فايسبوك». وفي هذه الحالة، من أين ستأتي الرساميل التي تحتاجها الاستثمارات الداخلية الضخمة، حتّى تولّد ملايين الوظائف وترفع ناتج القطاع الخاص؟ هذا ليس الّا مثالاً على عدم التناسق بين عناصر الخطّة، بشكلٍ يجعلك تتساءل عن الهدف «الحقيقي» منها (لولا أنّ السيناريو غير منطقي ومستحيل التطبيق، لشككت جدياً في احتمال أنّ الأمراء السعوديين ينوون التعامل مع المأزق الاقتصادي القادم عبر بيع كلّ ما له قيمة في البلد، وتحويله الى أرصدةٍ لهم في الخارج، ثمّ الهرب الى بلدٍ سياحيّ لطيف وترك رعاياهم لمصيرهم).
وحين يتمّ الإعلان عن زيارة وفدٍ سعوديّ الى اسرائيل، تكون ردود الفعل ــــ سواء «الصدمة» أم «الاستنكار» أم غيرها ــــ نافلةً، بل واستعراضية فارغة، إن لم تنطلق من السياق السياسي الفعلي لما يجري، ولم تربطه بخلاصات سياسية جديّة حول طبيعة النظام السعودي وبنية العلاقة مع اسرائيل ــــ وعاملت الحدث بمنطق «الهفوة» أو «التجاوز». في الأساس، لا يجب أن تغيب عنّا جملةٌ من الحقائق: هذه الزيارة، مثلاً، ليست الأولى لعشقي ووفده الى الأراضي المحتلّة، ولا الثانية، فقد لفتني أصدقاء سعوديون الى أنّ الزيارات مستمرّة منذ أكثر من عام، وهي غير سرّيّة، وقد نشرت عدّة مواقع فلسطينية أخبار لقاءاتٍ مع الوفد في آذار من عام 2015، من بينها جامعة الخليل وبلدية سلفيت في الضفة الغربية. لم يكترث أحدٌ يومها (في السعودية أو خارجها) لهذه الأخبار، ولم يتحوّل هذا الفعل الى قضيّة حتّى سربّته وسائل إعلام اسرائيلية مؤخّراً.
على الهامش هنا، كان طريفاً ومعبّراً أن يستخدم أنور عشقي، في ردّه على الانتقادات التي طاولته، الحجّة نفسها التي يكرّرها «الجيل الجديد» من المطبّعين العرب، الذين يشرّعون الدخول الى الأرض المحتلّة والتعامل مع الدولة الاسرائيلية وأمنها وجيشها: انّه ذهب لزيارة أهله الفلسطينيين ولدعمهم، وليس للتطبيع مع العدو (وهنا، تحديداً، الأساس العملي لفكرة «المقاطعة» والإجماع: بالمعنى الفردي، من الممكن لي أن أدّعي أنه لن يكون هناك ضررٌ على القضية اذا ما زرت فلسطين، والتقيت بأحبائي فيها، وحتّى لو تجوّلت في تل أبيب ويافا. فقناعاتي لن تتغيّر، ولن تجنّدني الدولة الاسرائيلية، ولن أسقط في حبائل عميلات الموساد ولكن، حتى ولو افترضنا أنّ هذا كلّه صحيح، ألن أكون قد فتحت الباب أمام الجميع ليُفتي لنفسه ايضاً، وليبتدع، هو الآخر، قواعده وحدوده الخاصة، حتّى نصل الى أنور عشقي؟).
ثانياً، بالمنظور السياسي، المعنى الوحيد للزيارة، وأحداث كثيرة سبقتها، هو نقل العلاقات السعودية ــــ الاسرائيلية من حالة من نصف ــــ السرية والكتمان الى درجةٍ من العلنية. بدلاً من أن تكون العلاقة محصورة في الغرف المغلقة ولقاءات الأمنيين والممثليات السرية، ستخرج الى المحافل العامّة والمؤتمرات والأنشطة التطبيعية. الاختلاف هنا هو في الشّكل والدّرجة، وليس في مضمون العلاقات ومداها. ما يثير القلق فعلاً ــــ بالمعنى العملي والسياسي ــــ هو التنسيق الذي لا نراه، والذي تمارسه أجهزة رسمية، والذي لم يبدأ البارحة؛ صور اللقاءات العلنية، في نهاية الأمر، لا تريك الّا ما يُراد لك أن تراه، وهي رسالة سياسية مقصودة قبل أي شيء آخر. من هنا، كانت الترجمة الحقيقية لأكثر «الهجمات» التي تعرّض اليها عشقي من نخب سعودية، والاحتجاجات التي رددتها شخصيات مرتبطة بالنظام، ما هي الّا مطالبة بالالتزام بنمط السرية والنفاق (أسلوب العهد السابق) والاستنكاف عن التطبيع العلني القائم اليوم. ولم تدفع الحادثة أيّاً من هذه الأصوات الى النظر في تراكم العلاقات بين السعودية واسرائيل، وطابعها الذي صار «استراتيجيا»، أو حتى الاعتراف بذلك (والوفد قد ضمّ، الى جانب المطبّع المعروف، شخصيات تجارية ورجال أعمال كعلي رضا، لن يخاطروا ويبادروا الى هكذا عمل من تلقاء أنفسهم).
السّبب الحقيقي لنهج «العلنية» مع الكيان الصهيوني يشير اليه تقريرٌ نشر قبل الزيارة بأسابيع، في «ميدل ايست اي»، يدّعي الكشف عن خطّة تدعمها الامارات ومحمد بن زايد لإيصال محمد بن سلمان الى العرش. البندان الأساسيان في هذه «الخطّة»، وفقاً لنصائح الاماراتيين، يتلخّصان في أن يقدّم بن سلمان نفسه لواشنطن كـ»معتدل» سيضعف المؤسسة الوهابية ودور الدين في الدولة و ــــ ثانياً ــــ أن يُطلق علاقات مباشرة مع اسرائيل. المقصد هنا هو تجنّب النقاش الصوريّ حول الزيارة، الذي يشبه الجدال «الاقتصادوي» على «رؤية» محمّد بن سلمان. لا معنى للهجوم على الزيارة كـ»خرقٍ تطبيعي» (والحكم السعودي قد تجاوز هذا المنطق منذ عهود) كما أنّه من الغباء الدّفاع عنها، كما فعل بعض السعوديين، بدعوى أنها تعكس «حكمة» في السياسة الخارجية السعودية و»بعد نظر» وعقلانية؛ فلا الأمير يكترث لموانع التطبيع ولا الزيارة لها علاقة بـ»سياسة خارجية» ومصالح الأمم. المعنى الفعلي لما يجري هو، ببساطة واختصار، أن الطريق الى العرش السعودي أضحى يمرّ في تل أبيب.