أميركا تضمن حكم ابن سلمان: «كوينسي» جديدة... ضد الأسرة
تعيش السعودية، هذه الأيام، أجواء توحي ببدء الترتيبات الأخيرة لانتقال العرش رسمياً إلى ولي العهد، محمد بن سلمان، بعد الإعلان عن إصابة الملك سلمان بالتهاب رئوي، ووضعه تحت العلاج في قصر السلام في جدة. وعلى رغم أن مسألة الانتقال صارت تبدو إجرائية إلى حد كبير، بعد أن أحكم الأخير قبضته على السلطة، خلال سبع سنوات من تولّيه منصبه، مارس خلالها فعلياً معظم مهام الملك، وكرّسها للبطش بكل أنواع الخصوم، إلا أن الأمور ليست في الواقع على هذا النحو، ولا سيما أن أحقيته في تولّي العرش، ما زالت تواجه تحدياً من أمراء مسجونين لهم أنصار كثر من أفراد الأسرة في المنافي، وفي الداخل. منذ أشهر، تسعى الولايات المتحدة إلى ترتيبات مركّبة، ترى أنها ستؤدي في محصّلتها إلى تعزيز سيطرتها على الشرق الأوسط، من زاويتَي تمديد تحكّمها بالصراع العربي - الإسرائيلي، وتقديم نوع من الضمانات الأمنية للجيل الجديد من حكام الخليج. ولتحقيق ذلك، تحتاج إلى أمرين، الأول هو توقيع اتفاق ضمانات أمنية تحمي نظام ابن سلمان (تنسحب على بلدان المنطقة)، من التهديد من داخل الأسرة والداخل عموماً، أكثر منه من الخارج، حتى لو كان الاتفاق سيوحي بأن الحماية ستكون من «التهديدات الخارجية»، والإيرانية تحديداً، علماً أن ابن سلمان لا يبدو معنياً بتوتّر مع طهران التي سيواصل على الأرجح مسار تحسين العلاقات معها. والضمانات المذكورة، قوامها معاهدة دفاعية مع الرياض، قد تشمل مساعدتها على إقامة برنامج نووي سلمي، بالإضافة إلى تطبيع العلاقات السعودية - الإسرائيلية. ولأن الأميركيين أنفسهم توصّلوا إلى استنتاج بأن التطبيع لا يمكن تمريره شعبياً في المملكة حالياً، في ظل الحرب على غزة، ولا سيما ذلك النوع من حرب الإبادة الذي تشنّه حكومة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش، فإنه يجري منذ مدة الإعلان عن أن الشق السعودي - الأميركي من الترتيبات صار جاهزاً للتوقيع، على أن يبقى مقعد إسرائيل على الطاولة شاغراً إلى حين جهوزيتها للانضمام، عندما تنتهي الحرب، باعتبار أن نتنياهو وكل وزراء حكومته، وربما حتى الذين انضموا إلى حكومة الحرب، يرفضون مقايضة التطبيع السعودي، حتى بمجرد وقف للنار في القطاع.
على أي حال، الأميركيون صاروا مستعجلين للانتهاء من مسألة الخلافة في السعودية، بعد ترتيب العلاقة مع ابن سلمان. وأصبح جلياً وجود توازٍ بين التوصل إلى المعاهدة الأمنية وتسلّم ابن سلمان العرش رسمياً، على رغم أن الانتقال بحدّ ذاته سيظل ينتظر إعلان وفاة الملك. لكن حين تنتهي الترتيبات الأميركية – السعودية، لا يعود التوقيت مهماً، باعتبار أن المطلوب إيصال رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر مفادها أن الولايات المتحدة هي الضامن لابن سلمان. وبالنظر إلى حساسية المسألة داخلياً، جرى تمرير خبر إصابة الملك سلمان بالتهاب رئوي، في بيان صادر عن الديوان الملكي، بالتزامن مع أحداث اختفاء طائرة الرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، وهذه كانت خطوة أولى للبدء في تعويد السعوديين على غياب الملك. لم يكن مقصوداً بالبيان إظهار الشفافية، بقدر البدء في استكمال انقلاب القصر الذي انطلق مع الإطاحة بولي العهد السابق، محمد بن نايف، وسجنه. ولذا، خرج المعارضون على وسائل التواصل الاجتماعي للحديث عن أحقية أحمد بن عبد العزيز في العرش. واللافت أن أنصار ابن نايف، انضموا إلى المروّجين لأحمد، باعتبار أن الأول فقدَ بعد سنوات على إخراجه من ولاية العهد، جزءاً كبيراً مما كان يُعتقد أنه شرعية منحته إياها قيادته للأجهزة الأمنية سنوات طويلة، وشراكته مع أجهزة المخابرات الأميركية التي كانت تثق فيه. ويضاف إلى ما تقدّم، أن أحمد يستمدّ شرعية أقوى من كونه أحد أبناء عبد العزيز الفاعلين في الأسرة، وبالتالي هو أحق، وفق ما صار عليه العرف بعد وفاة الملك المؤسّس.
وإذا كان متعذّراً على ابن سلمان اكتساب الشرعية بالقوة والقمع وحدهما، فإن التعويض يأتي من اتفاق أمني مع أميركا باعتبارها الراعي الأول للنظام السعودي، بموجب المعاهدة التي عُقدت بين عبد العزيز وفرانكلين روزفلت عام 1945 على متن الطراد "كوينسي" أثناء إبحاره في قناة السويس. بكلام آخر، ستكون المعاهدة الجديدة تطويراً لتلك القديمة، ليصبح طرفاها، ابن سلمان من جهة، والولايات المتحدة من الجهة الأخرى، وموجّهة في الأساس ضد الأجنحة المعارضة لابن سلمان داخل الأسرة. على أن الأميركيين لن يعطوا ابن سلمان اتفاقاً كهذا إلا بثمن كبير. صحيح أن الأخير لوّح لهم خلال فترات سابقة من حكمه بوجود خيارات أخرى لديه، وهو سيُبقي على علاقات جيدة مع الصين وروسيا وإيران، لأنه يعرف أن الولايات المتحدة لا تفي بالتزاماتها إذا استطاعت التهرّب منها، إلا أنه يدرك أن واشنطن تحتاج إلى سعودية مستقرّة، بقدر ما يحتاج هو إلى ضمانات. وطالما أن المنافسة الخارجية لأميركا في السعودية تدور حول العلاقة مع ابن سلمان نفسه، ولا تمر عبر السعي إلى زعزعة حكمه بالتعاون مع أي طرف داخلي آخر، فإن ترتيب الوضع لولي العهد سيضمن للولايات المتحدة، أو على الأقل كما تعتقد هي، سيطرة طويلة الأمد على تلك المنطقة. وهذا لا يعني أن تتخلّى عن علاقاتها مع الأطراف الأخرى في الأسرة أو المعارضة من خارجها؛ فهي منذ وقت طويل تحاول الإمساك بطرفَي المعادلة في أي بلد، وفي منطقتنا، يُترجم ذلك بدعم الحكم من جهة، واحتضان المعارضة التي قد تفرض الظروف في المستقبل أن يكون لها دور، من جهة أخرى.