السعودية تنتظر «الفرج»: المخرج اللائق أوّلاً
هو «عام الهدنة» بشقَّيها، الرسمي الذي وُقّع في بداية نيسان 2022 ومُدّد مرّتَين لستّة أشهر، وغير الرسمي أو المتفاهَم عليه ضمنياً ولا يزال ساري المفعول حتى هذه اللحظة. في هذا العام، أُرغم تحالف العدوان على قبول الهدنة بعد استنفاده الخيارات العسكرية والأمنية والسياسية كافة، وأيضاً الحرب النفسية والاستثمار في الوكلاء المحليين. ساعد في ذلك حدوث متغيّرات إقليمية ودولية، أبرزها الحرب الروسية - الأوكرانية وانكفاء الرُّعاة الغربيين عن الملفّ اليمني وغيره. أحدثت الهدنة تحوّلاً جذرياً في مسار الحرب برمّته، وأرست حالة من اللاحرب واللاسلم، مترافقةً مع عمليات عسكرية موضعية في إطار الضغط الدوري، فيما يمكن لها بالفعل، إذا سارت الأمور كما ينبغي، أن تؤسّس لسلام دائم.
طيلة العام الماضي، استثمرت صنعاء، التي اعتبرت تكلفة الصمود في وجه الحرب أقلّ بكثير من تكلفة الهيمنة والتسلّط على اليمن منذ عقود، في بناء القدرات العسكرية التي لا تزال تنمو وتتطوّر، عاكفةً على تجهيز الكثير من المفاجآت، التي إن اضّطُرت لتفعيلها، فإنها ستولّد تأثيرات كبرى، وخصوصاً منها تلك المتعلّقة بحماية الأمن الملاحي للبلد والمنطقة. وفي ظلّ هذا الوضع، لم تَجِد السعودية بدّاً من التواصل المباشر مع الجانب اليمني، فجَرَت مفاوضات من دون وسطاء بين الجانبين، وزارت وفود سعودية العاصمة اليمنية أكثر من مرّة. لكنّ الرياض ظلّت تحاول، في الحوارات الثنائية، الحصول على مكاسب عجزت آلتها العسكرية عن تحقيقها، وهو ما حمل صنعاء على تصعيد تهديداتها في سياق مطالبتها برفع الحصار وصرف رواتب موظّفي الدولة من العائدات النفطية اليمنية، وصولاً إلى استهداف موانئ تصدير النفط لمّا لم تَلفَ استجابةً لمطالبها.
الآن، دخل على المشهد الاتفاقُ الإيراني - السعودي، الذي تُراهن الرياض على أن يشكّل مدخلاً لتجنّب التصعيد عسكرياً، ومن ثمّ للتوصّل الى صيغة سياسية تنهي الصراع. الأكيد أن الديناميات ما بعد الاتّفاق ستكون مختلفة، ولكن ضمن ثابتة عدم التنازل على جانبَي كلّ من صنعاء وطهران عن قضايا جوهرية لها علاقة بحقوق اليمن وسيادته الوطنية. قد تساعد إيران، السعودية التي ستحاول ربْط تحسّن علاقتها بالأولى بحلّ المعضلة اليمنية، في إيجاد مَخرج يحفظ ماء الوجه السعودي، وهو أقصى ما يمكن أن يُقدَّم. أمّا إذا أرادت المملكة العودة إلى محاولة تخفيض السقف السياسي لليمنيين، فقد تجد صنعاء نفسها مضطرّة إلى اتّخاذ خطوات تردع الرهانات السعودية، وهو ما يفسّر إبقاءها قوّاتها متوثّبة، وإجراءها مناورات ناجحة وخصوصاً في البحر، في إطار الجهوزية العسكرية المرافقة للمفاوضات.
على أيّ حال، يمكن القول إن «سنوات الحرب السبع» (أي ما قبل الهدنة)، أو مرحلة الاستخدام المفرط للقوّة العسكرية، واستعمال الحصار الاقتصادي وسيلة لانتزاع تنازلات سياسية، قد انتهت. وهي مرحلة اتّسمت بمبالغة الجانب السعودي في رفْع سقوفه، وإصراره على عدم الاعتراف بـ«أنصار الله» كمكوّن رئيس في البلاد و«إعادة الحركة إلى جبال مران» شمالي صعدة وفق أدبيّات المملكة وحلفائها، والمغالاة في تقدير إمكاناته والقوى الموالية له، وإفراطه في الاتّكال على «المعونة العسكرية والاستخباراتية الأميركية». حملت هذه المغالاة والثقة المفرطة بالنفس، القيادة السعودية على تقدير الفترة الزمنية لإسقاط صنعاء و«إعادة الشرعية» إليها بأسبوعَين، وفي أبعد تقدير شهرَين كاملَين. وقد شكّل انسحاب «أنصار الله» من المحافظات الجنوبية في الأشهر الأولى من الحرب، إغراءً لـ«التحالف» بتصعيد هجماته والسعي إلى إسقاط صنعاء من جهات مختلفة، مرّة من تعز (غرب) ومرّة من فرضة نهم، فيما شكّل الهجوم على الحديدة، والذي تمّ الإعداد له خلال سنتَين كاملتَين، من البحر الأحمر والساحل الغربي، وشاركت فيه إلى جانب السعودية والإمارات قوّات أميركية وبريطانية وفرنسية، حدثاً مفصلياً، تأكَّد من بَعده عقْم العمل العسكري، ليَجري توقيع «اتفاق استوكهولم» بين الفرقاء اليمنيين. من بَعدها، انتقل زمام المبادرة إلى أيدي الجيش و«اللجان الشعبية» اللذَين استعادا سريعاً فرضة نهم بالكامل ومعظم محافظة الجوف، وشنّا هجوماً على محافظة مأرب سيطرا من خلاله على معظم مديرياتها.
بالتوازي مع ذلك، لم تتوقّف سياسة السعي لاستنزاف «أنصار الله» بكلّ الوسائل، العسكرية والأمنية والاقتصادية والنفسية والإعلامية والسياسية، وإفشال المفاوضات من خلال السقوف العالية، وتحريك الملفّات الداخلية، وأبرزها دعم ما سُمّي «فتنة صالح»، والتي انتهت بمقتل الرئيس الراحل، علي عبدالله صالح، أواخر عام 2017. إلّا أن كلّ ذلك لم يفلح في ثني صنعاء عن أهدافها، بل إن الأخيرة عكفت على تطوير منظومتَيها للصواريخ والطائرات المسيّرة، لتشمل مدياتها الأراضي السعودية كافة، وهو ما شكّل تهديداً استراتيجياً لأمن المملكة واستقرارها وسمعتها الاقتصادية. ومثّلت الهجمات على منشآت «أرامكو» في أيلول عام 2019 في بقيق وهجرة خُرَيص، بواسطة طائرات مُسيّرة وصواريخ «كروز»، منعطفاً تاريخياً، في هذا السياق، سمح للقيادة السعودية بالتفكير بشكل جدّي في إعادة النظر في استمرار الحرب بشكلها السابق، لتبدأ مذّاك رحلة النزول عن الشجرة.