ورشة «إصلاح» العلاقات لا تتقدّم | واشنطن - الرياض: المهمّة الصعبة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 778
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

ما زالت العلاقة مع السعودية، ولا سيما الأمنية منها، تُمثّل «وجع رأس» للولايات المتحدة التي لم تَعُد قادرة على توفير الحماية للمملكة، وتريد في الوقت نفسه الاستفادة منها في تحقيق الهدف المهمّ للاقتصاد الأميركي، والمتمثّل في تأمين تدفُّق النفط إلى الأسواق العالمية وضبْط أسعاره. ولكن عند أيّ غوص في تعقيدات تلك العلاقة، يتّضح مدى صعوبة أن تتمكن واشنطن من تحقيق هذا الهدف، من دون دفْع ثمن مقابل على شكل استنزاف كبير للموارد الأميركية في الشرق الأوسط، وهي اللعنة التي تستميت أميركا للخلاص منها

يقترح «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن برنامج عمل لإعادة إرساء العلاقات الأمنية بين السعودية والولايات المتحدة، يحاول من خلاله جعْلها في اتّجاهَين، بما يطمئنّ طرَفها السعودي، بعدما ظلّت طوال تاريخها الممتدّ ثمانين عاماً في اتّجاه واحد يتمثّل في تحقيق الأهداف والمصالح الأميركية. لكنّ المعضلة التي تَبرز سريعاً تتعلّق بنوع الضمانات الأمنية التي تستطيع أميركا توفيرها للمملكة. ومع ذلك، وبخلاف ما يدعو إليه، فإن البرنامج المقترَح ذاته الذي نشره المعهد أخيراً، ينطلق في الأساس من رغبة في تحقيق المصالح الأميركية التي تضرّرت بفعل الخلاف الكبير مع السعودية، والذي بلغ ذروته في ظلّ القيادة السعودية والإدارة الأميركية الحاليتَين، ما يحيله إلى محاولة أخرى لإعادة تدوير «البضاعة» التي لا تستجيب للمخاوف السعودية. كما يَغفل البرنامج المقترَح أن للمملكة خيارات أخرى في حال ظلّت العلاقة مع أميركا قاصرة عن توفير الحماية للأولى، ويكاد يَحصر التهديد الذي تُواجهه بإيران، وهو تهديد مفترض مرتبط أساساً بالعلاقة السعودية - الأميركية. ويُشار، في هذا السياق، إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، نفسه نصَح السعوديين عند التوصّل إلى الاتفاق النووي، بالتفاهم مع الإيرانيين.
الأكيد أن العلاقات الأميركية - السعودية لن تعود كما كانت، إلّا إذا استطاعت الولايات المتحدة إيجاد سُبل لتوفير قدْر مطمئن من الضمانات الأمنية للمملكة. وعندما يطلب السعوديون ذلك، فالمقصود حتماً هو الدفاع عن النظام أمام كلّ أنواع التهديدات الداخلية والخارجية. وهذا يتطلّب تخصيص موارد أميركية كبيرة قد لا تكون الولايات المتحدة قادرة عليها. فحتى إذا كان بإمكان المملكة تغطية الكلفة الكاملة لهكذا نوع من العلاقات، يظلّ التحدّي قائماً لأن السعودية غير قادرة على تقديم مساهمة تُذكر في الدفاع عن نفسها، في ظلّ بنيتها العسكرية والأمنية الواهنة إلى حدّ العجز. وبالتالي، فإن أيّ التزامات أميركية يجب أن تَلحظ أن عبء الدفاع سيقع بالكامل على الطرف الأميركي وحده. وتشير التوتّرات المتزايدة بين الجانبين، وإنْ هدأت قليلاً في الأشهر الماضية، إلى أن المناقشات المستمرّة عبر الوفود الأميركية التي تزور الرياض، لم تؤدّ إلى العثور على صيغة لتحقيق «التسوية» المطلوبة.

صيغة «النفط مقابل الأمن» التي حكمت العلاقات بين البلدَين لعقود طويلة، لم تَعُد قائمة عملياً، وإن كان أيّ من الجانبَين لم يعلن نهايتها صراحة. وتَمثّل آخر وأوضح تعبير «مُمأسس» عن الدعم الأمني الأميركي للسعودية في «عقيدة كارتر» التي أعلن عنها الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، في خطاب حالة الاتّحاد في 23 كانون الثاني 1980، ردّاً على دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان في العام السابق، والتهديد الذي مثّله اقترابه من الخليج الغني بالنفط لأميركا، حيث تعهّد آنذاك بأن الولايات المتحدة ستَستخدم مواردها العسكرية من أجل الدفاع عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، إذا لَزِم الأمر. وكان أكبر اختبار لتلك العقيدة، اجتياح صدام حسين الكويت في آب 1990، والذي ردّت عليه أميركا بعملية «عاصفة الصحراء» التي أفضت إلى تحرير الكويت وتأمين المملكة بشكل فعّال، وأظهرتْ للرياض استعداد واشنطن وقدرتها على الدفاع عنها من الخطر. ولكن بمجرّد انتهاء «عاصفة الصحراء»، لم تكن واضحةً للسعوديين شروط ومعايير التدخّل الأميركي المستقبلي؛ إذ لم تَكن للولايات المتحدة التزامات قانونية تجاههم. الأحداث اللاحقة أدّت إلى تفاقُم القلق السعودي، ولا سيما بعدما أحجم الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، بعد هجوم الخُبر في عام 1996، عن الانتقام من إيران التي اتّهمتها واشنطن والرياض بالوقوف وراءه. ثمّ أيضاً، حين امتنع الرئيس السابق، دونالد ترامب، عام 2019، عن الردّ على قصْف منشآت «أرامكو» في بقيق وهجرة خريص، والذي نَسَبه البلدان أيضاً إلى طهران. وإذ تسبّب الهجوم الأوّل في تشكيك الرياض في جدوى «عقيدة كارتر»، فإن الثاني قضى فعلياً على أيّ ثقة سعودية في الالتزام الأمني للولايات المتحدة.

في خلاصة تقريره، يقول «معهد الشرق الأوسط» إن «الغموض المحيط باتفاق النفط مقابل الأمن لعام 1945، يساهم في انعدام الثقة والتوتّرات المتبادلة». ويؤكد أنه «يجب على السعودية أن تَبذل جهوداً لمعالجة المخاوف الأميركية المشروعة، بما في ذلك حقوق الإنسان، وسياسة إنتاج النفط، والانفتاح الأمني على بكين، والحرب في اليمن. وفي المقابل، يجب على الولايات المتحدة إعادة بناء إطارها الأمني مع المملكة لجعله أكثر فاعلية ضدّ التهديد المتعدّد الأوجه الذي تشكّله إيران»، مشيراً إلى أن العامل الأمني في العلاقة بين الرياض وواشنطن «لم يَخضع للدرس بالقدر الكافي ويُساء فهمه، على رغم كونه إحدى ركائزها الأساسية». ليس وارداً لدى الأميركيين رفْع علاقتهم الأمنية مع السعودية إلى مستوى التحالف الرسمي. فهناك الكثير من المشاكل والعقبات أمام اقتراح كهذا، أبرزها تَغيّر أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وعدم وجود شهيّة لدى الجمهور الأميركي، ومعظم النُّخب، لتشكيل تحالف كذاك. وفي المقابل، وعلى رغم عدم إيمانها الكبير باستعداد أميركا لحمايتها، لا تزال المملكة تفتقر إلى بديل للتعاون الأمني معها، حتى وإنْ كانت تسعى إلى تنويع علاقاتها في العالم. فالرهان الأساسي للرياض ما زال قائماً على وجود صِلة بين سلامة المملكة وبين مصالح الولايات المتحدة. لكن هذه الصِّلة ليست مباشرة، ما يفتح الباب أمام عديد حالات قد يُستخدم فيها العنف على مستوى منخفض ضدّ السعودية (دون عتبة الحرب التقليدية) كما حصل في هجومَي الخُبر و«أرامكو».

ويناقش البرنامج المقترَح حججاً قدّمها السفير الأميركي الأسبق في إسرائيل، مارتن إنديك، والباحث في المعهد، ستيفن كوك، لعقد «ميثاق استراتيجي أميركي - سعودي» جديد وأوسع نطاقاً، تلتزم من خلاله الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات الدفاعية مع السعودية (من دون إعطاء ضمانات أمنية رسمية). وفي المقابل، تلتزم المملكة بالتعاون في الإصلاح الداخلي وحقوق الإنسان والسياسة النفطية والحرب في اليمن والتطبيع مع إسرائيل. ويوصي المؤلّفان بأن تتمسّك الولايات المتحدة بـ«عقيدة كارتر»، وتؤسّس «اتّفاقية إطار عمل استراتيجي»، وأن تنشئ «آليات استشارية رسمية، وتدريبات عسكرية مشتركة، ودفاعات متكاملة، وغير ذلك من مظاهر القوّة الصارمة للالتزام الأميركي تجاه الأمن السعودي». كما يقترحان اعتماد سياسة مبيعات أسلحة أميركية أكثر مرونة تجاه السعودية. لكنّ إجراءات كهذه، من وُجهة نظر «الشرق الأوسط»، تبقى عاجزة في النهاية، لأنها لا تعيد هيكلة العلاقات الأمنية؛ فلدى الولايات المتحدة والسعودية بالفعل حوار استراتيجي سنوي (توقَّف في بعض الأحيان بسبب التوترات السياسية)؛ وقوّاتهما المسلّحة تتفاعل على الأرض بشكل شبه دائم وتُجري عدّة مناورات عسكرية مشتركة على مدار العام؛ فيما الكثير من المعدّات الدفاعية قابلة للتشغيل المتبادل (لا يزال وضْع الولايات المتحدة في المملكة قوياً من حيث المعدّات على رغم تقليصه أخيراً)، إلّا أن كلّ ما تَقدّم لم يؤدِّ إلى جعْل الصِّلات أكثر فاعلية، أو جعْل السعودية أكثر قدرة وأماناً، لأن المفهوم الذي يَحكمها، ما زال يرتكز على الحراسة الأميركية للسعودية، وفشِل في اعتماد عنصر الشراكة الأمنية معها.

ويتطلّب تحقيق الأمن للسعودية، في نظر المعهد، توافُر عنصرَين أساسيَّيْن: الأوّل هو القدرة على توليد قوّة قتالية مستدامة وذات مصداقية محلّياً في وقت السِّلم؛ والثاني، القدرة على الاستجابة بفعالية، بمفردها أو كجزء من تحالف، لحالات الطوارئ العسكرية المختلفة. إلّا أن المملكة لم تكن قادرة على القيام بأيّ منهما، كما في «عاصفة الصحراء»، حيث لم يكن للقوات السعودية أيّ دور يُذكر في الدفاع عن المملكة. وعلى رغم المليارات، أو مئات المليارات، التي تَدفعها الرياض على التسلّح، والتي تُعتبر رشوة للأميركيين، أكثر ممّا هي محاولة لإقامة نظام دفاعي مستقل وفاعلّ بالارتكاز عليها، لا يزال السعوديون يجدون صعوبة في الانخراط في التحليل الدفاعي المنهجي والتخطيط الاستراتيجي الذي يقود إلى توظيف الإمكانات المتاحة البشرية والمادّية في منظومة دفاعية يمكن الاعتماد عليها.
ويُراهن بعض الأميركيين، الذين يودّون أن تَبقى بلادهم على علاقة جيّدة بالسعودية لأسباب مختلفة، من بينها تَقدّم المملكة نحو التطبيع غير العلني مع إسرائيل، على خطّة التحوّل الدفاعي التي أعدّها وليّ العهد، محمد بن سلمان، والتي وصفها «معهد الشرق الأوسط» بأنها أخطر محاولة لإصلاح مؤسّسات الأمن في المملكة منذ أسّسها عبد العزيز آل سعود عام 1932، ويطالبون بربط جميع جهود التعاون الأمني الأميركي بها. ولكنّ التغييرات التي أحدثَها ابن سلمان في الأجهزة الأمنية والعسكرية، جاءت في سياق تعزيز قبضته عليها أكثر ممّا هي في سياق الإصلاح والحرب على الفساد، وإنْ كانت قد حصلت تحت هذا العنوان. ويقدّم هؤلاء مثال اليمن، حيث أرسلت المملكة قوّة أفضل تدريباً، واستمرّت في قتال أطول بكثير من أيّ عملية أخرى شاركت فيها. ومع ذلك، لا يزال السعوديون يواجهون تحدّيات كبيرة في ساحة المعركة، حيث فشلوا في قلْب مسار التقدّم الاستراتيجي لحركة «أنصار الله»، وتسبّبوا بكارثة إنسانية في اليمن.

حتى لو أرادت واشنطن الدفاع عن المملكة في المستقبل، فإنها بالقطع لن ترغب في القتال بمفردها. لكن ما يَعرفه الأميركيون أكثر من غيرهم، لكونهم خاضوا حروباً بالنيابة في الخليج، هو أن البُنى الدفاعية في السعودية أو غيرها من بلدان الخليج، لا تزال لا تتيح حتى المساهمة المحلّية في الدفاع الذاتي، لأن تركيبة تلك البلدان من الأساس قامت على أنها محميّات بريطانية ثمّ أميركية، ارتكزت على علاقة القوّة الحامية بأُسر الحكم وما تحتها من بُنية قبلية. ولا تزال هذه الدول، على رغم المظاهر العمرانية والتكنولوجية لتقدّمها، تفتقر إلى ما يحفّز الناس على الدفاع عن أوطانهم عندما تتعرّض للخطر، وهو ما لا يمكن إقامة بنية دفاعية سليمة من دونه.