السعودية راعيةً للاتفاق: الأولوية نفوذ العسكر
عاد الدور السعودي في المرحلة الانتقالية في السودان، إلى الواجهة مجدّداً، إثر اجتماع وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، برئيس «مجلس السيادة» السوداني، عبد الفتاح البرهان، في شرم الشيخ على هامش قمّة «كوب 27»، وتَعهّده بضخّ استثمارات بقيمة 3 بلايين دولار في السودان من طريق «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي. وجاءت هذه الخطوة بينما تراجعت عائدات الخرطوم «الرسمية» من صادرات الذهب (الذي أصبح في الأعوام الأخيرة السلعة الأولى في الصادرات السودانية، وعزّز مكانة البلاد كثالث أكبر منتِج له في أفريقيا)، ما ضاعف من أهمّية الإعلان السعودي، سواء لجهة حجمه أو توقيته، اللذَين سيشكّلان عاملاً مساعداً للبرهان.
الاقتصاد مجدّداً
جاء إعلان السعودية، التي تُولي أهمّية فائقة للاستثمار في البحر الأحمر، عن حزمة الاستثمارات الجديدة وسط تزايُد حدّة الأزمة الاقتصادية في السودان، بحسب مؤشّرات أعلنها مكتب الإحصاء السوداني مطلع تشرين الثاني؛ إذ بلغ العجز التجاري في الربع الثالث من العام الجاري 3.5 بلايين دولار، وبينما قُدّرت واردات البلاد من السلع الأجنبية في الفترة الواقعة بين كانون الثاني وأيلول بـ7.1 بلايين دولار، فإن الصادرات في الفترة نفسها (ومعظمها من الذهب) تراجعت إلى مستويات قياسية لتقف عند حدود 3.5 بلايين فقط. كما جاءت الخطوة السعودية إثر تحذير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مطلع أيلول، من أن السودان يواجه خطر أن يصبح «مقيَّداً اقتصادياً»، ما سيحول دون تَوجّه الاستثمارات إليه. أيضاً، تأتي الحُزمة في ضوء عدم تلقّي السودان دعماً خارجياً لموازنته السنوية للعام الثاني على التوالي، واعتماده على موارده لاستكمال مخصّصات موازنة 2023. ومن بين ما يلاحَظ كذلك، أن الإعلان جاء - في ما يُكسبه أهمّية رمزية - إثر كشْف «صندوق الاستثمارات» السعودي، في آب الفائت، عن تكوين خمس شركات استثمارية في خمس دول عربية من بينها السودان، لاستثمار ما يصل إلى 24 بليون دولار في قطاعات البنية التحتية والتنمية العقارية والتعدين والتصنيع والغذاء والزراعة، بما من شأنه تحفيز القطاع الخاص السوداني وعدد من أهمّ البارزين فيه على نسْج علاقات متينة مع الجانب السعودي.
الحرب على «الإرهاب»
تجدّدت، منذ منتصف تشرين الأوّل الفائت، تقارير عن عودة قوية «مرتقبة» لتنظيم «القاعدة» إلى السودان في الفترة المقبلة، على خلفية نشْر إحدى واجهات التنظيم الإعلامية، المعروفة باسم «بيت المقدس»، كتاباً حمَل عنوان «رسائل حرب إلى المجاهدين في السودان»، تضمّن أفكاراً لتكوين تنظيم «طليعي» جديد بين «الموحّدين» السودانيين، لمواجهة ما يُعتبر «هجمة على الدين». والظاهر أن هذا التطوّر لا ينفصل عن الجدل حول وضع الإسلام والشريعة الإسلامية في الدستور السوداني، والذي استعَر في أعقاب اقتراح «نقابة المحامين» أن يكون السودان «دولة ديموقراطية فيدرالية مدنية، نظام الحُكم فيها برلماني... وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان وكلّ المعتقدات»، وهو ما عدّه البعض «تمييزاً سلبياً» في مجتمع «إسلامي الهوى والثقافة».
وفي ظلّ ذلك التطرّف في المواقف، والذي يشير في بعض جوانبه إلى خلل واضح في فهْم المجتمع السوداني الصوفي بالأساس وتبنّي «لا واقعية» سياسية، يأتي موقف الرياض التي بذلت جهوداً كثيفة في الأعوام السابقة لرفع اسم السودان من اللائحة الأميركية لـ«الدول الراعية للإرهاب»، في هذا التوقيت بالذات، لتفادي تَجدُّد التهديدات الإرهابية وتمركزها في السودان مرّة أخرى، وكذلك الحفاظ على شكل السلطة التقليدي هناك، من دون المجازفة بنظام «برلماني» ستكون له تداعيات خطيرة - من وجهة نظر السعودية - على أدوار البلد الخارجية وعلاقته بالمملكة مستقبلاً. وتلتقي مقاربة الرياض للملفّ المُشار إليه مع رؤية القاهرة له، ولا سيما منذ إعلانهما المشترك (آذار 2022) حول عدّة قضايا من بينها الدعم المستمرّ لنجاح عملية الانتقال في السودان «على نحو يسهم في تأمين المكاسب السياسية والاقتصادية» فيه، وضرورة القيام بضربات استباقية ضدّ أيّ تهديدات إرهابية أو انفلات مخرجات المرحلة الانتقالية بعيداً عن قبضة الجيش السوداني و«مجلس السيادة». ولعلّ الترجيحات التي خرجت في أعقاب مقتل زعيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، بتولّي سيف العدل، الذي يتمتّع بمقدّرات كبيرة في التخطيط العملياتي إضافة إلى خبرته العملية في السودان وبعض مناطق القرن الأفريقي، مكانه، كل ذلك يعطي المخاوف السعودية قدْراً كبيراً من المنطقية.
العامل المصري
يحظى الدور السعودي بمقبولية واضحة داخل مكوّنات المرحلة الانتقالية، مقارنةً بنظيره المصري الذي يواجه انتقادات متكرّرة من قوى مدنية مفادها أن القاهرة لا تدعم في المحصّلة نقل السلطة إلى المدنيين، على رغم تَطابق وُجهة نظر الدولتَين، ما يعكس حجم النفوذ السعودي المتنامي داخل هذا المسار، سواء عبر الحضور في «الرباعية الدولية»، أو على مستوى اتّصالات السفارة السعودية بالقوى السودانية. كما أن السعودية تنتهج سياسة استباقية (انتقد مِثلها أكاديميون سودانيون منتصف الجاري في توصيفهم للمقاربة المصرية)، مرتبطة بمشروطيات سياسية واقتصادية محدَّدة، بهدف ضمان عدم خروج الجيش السوداني والقوى الداعمة تقليدياً لعلاقات وثيقة مع الرياض، من ديناميات إدارة المرحلة الانتقالية. وعليه، بات من الصعب، مع تصاعُد دور الرياض وعلانيته مقابل ضبْط القاهرة مواقفها إزاء مختلف القوى السودانية، وضْع حدود للتنسيق السعودي المصري في السودان، فيما يُتوقّع أن تسرّع المملكة من جهودها لاستغلال موارد البحر الأحمر الاقتصادية في الفترة المقبلة ضمن «رؤية 2030»، والاستفادة من المدخولات النامية للمملكة في «استثمارات سيادية» في هذا البلد. وبينما تساهم السعودية، بشكل كبير، في المحادثات الجارية بشأن مسار المرحلة الانتقالية برعاية أميركية وأممية، تُسهم مصر من ناحيتها في حلحلة مواقف أطراف الأزمة داخلياً، إذ تستضيف من وقت إلى آخر بعض قيادات الأحزاب السودانية (ولا سيما من الحزب الاتحادي وحزب الأمة)، في ما يؤشّر إلى تضافر الجهود المصرية مع نظيرتها السعودية لضمان إبقاء مخرجات التسوية في الحدود المقبولة للرياض والقاهرة.
خلاصة
تتوق السعودية إلى تثبيت نفوذها في السودان لاعتبارت عدّة، أهمّها الاستفادة من موارد الأخير «غير المحدودة» تقريباً، وتثبيت موطئ قدم هامّ فيه للسياسة السعودية في قلْب القارة الأفريقية، وترسيخ هيمنة المملكة الإقليمية على جانبَي البحر الأحمر، فضلاً عن مسائل مواجهة الإرهاب والحماية الضمنية لمصالح أهمّ شريك عربي للسعودية: مصر.