واشنطن تَحنّ إلى زمن «كامب ديفيد»: محور سعودي - إسرائيلي يتشكّل
عندما رفعت إدارة جو بايدن شعار حقوق الإنسان في السعودية، لم تكن جادّة في الضغط على المملكة لمنح مواطنيها مزيداً من الحرّيات والحقوق، بل كانت تسعى من ورائه إلى أن ترفع سعر بيْع تلك الحقوق إلى النظام السعودي. ويَظهر أن الولايات المتحدة ستحصل على الثمن المطلوب، في مقابل ضمان انتقال السلطة في المملكة إلى ولي العهد، محمد بن سلمان، مع نوع من الترتيبات الأمنية تشمل دولاً عدة في هذه المنطقة، يكون محورها العدو الإسرائيلي
من المفارقات أن تصير إسرائيل وسيطاً لرأب الصدع بين الولايات المتحدة والسعودية، في عملية لعبت فيها تل أبيب على التناقضات الأميركية، وعلى عامل الخوف لدى النظام السعودي وغيره من الأنظمة الباحثة عن ضمانات للبقاء - بما فيها أنظمة الإمارات وتركيا ومصر والأردن -، لتحوك بهدوء ما بدأت ترتسم معالمه كتحالف ضرورة، رسمي أو غير رسمي، يعيد الأوضاع في المنطقة إلى ما كانت عليه غداة اتفاق كامب ديفيد، وإنما هذه المرّة، بقيادة إسرائيلية تتيح لواشنطن التخفُّف من المسؤوليات المباشرة التي اضطلعت بها في الشرق الأوسط، لتتفرّغ لصراعات أكبر على مستوى العالم الذي نشأت فيه، منذ ذلك الوقت، تحدّيات أكبر تتمثّل في الصين، ومن ثم مواجهة الخطر المحدق الآتي ممَّا يبدو أنه انتصار روسي يتحقَّق في حرب أوكرانيا.
هذا العامل الأخير، سرّع كثيراً في قيام التحالف الجديد، الذي تسعى واشنطن من خلاله إلى التعويض عن تسرُّع في إثارة الصراع مع الروس في أوروبا، والذي أظهر عقم حلف «الناتو»، العاجز تماماً أمام مواجهة التقدّم الروسي. المقصود من ذلك، سيكون إعادة السعودية ودول الخليج الحليفة وتركيا إلى الحظيرة الأميركية، لتوظيفها في هذه المعركة، بعدما نجحت موسكو في تحييدها، بل واستخدامها في صراع النفط الذي يكاد يشلّ اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة، وصولاً إلى احتمال التسبُّب في مجاعة في أماكن عدّة من العالم. ولا يعني ذلك أن الترتيبات الأميركية الجديدة ستنجح في تغيير مسار الأحداث، وإنّما قد يعني استنقاذ ما أمكن من النفوذ الأميركي في العالم الذي تلقّى ضربة لن تعيده إلى سابق عهده، نتيجة حرب أوكرانيا.
لن يعود النفط قريباً إلى أسعار تمكّن أميركا من استخدامه لمدّ نفوذها العالمي، كما دأبها؛ فخروج هذه السلعة من دائرة التحكُّم الأميركي، سابق لحرب أوكرانيا، كما للتباعد بين الولايات المتحدة والسعودية. والانزياح الأميركي نحو آسيا، خلق فجوة في السيطرة الأميركية على مناطق إنتاج النفط الرئيسة، خصوصاً في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى اعتماد واشنطن سياسة غطرسة إزاء دول نفطية مثل روسيا وإيران وفنزويلا، ما جعل نادي منتجي النفط في العالم تحت هيمنة أغلبية معادية لواشنطن. والحروب، كعامل عدم استقرار، هي بطبيعتها تولّد اضطرابات في سوق النفط. وعليه، ليس مضموناً أن تؤدّي أيّ ترتيبات أميركية، إلى عودة الأسعار إلى المستويات التي تخدم اقتصادات الولايات المتحدة ودول أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول التي تنخرط في عملية تعزيز النفوذ العالمي لواشنطن.
الذعر الأميركي من التحوّلات في العالم لم يَعُد خافياً؛ وأحد أكثر مظاهره وضوحاً، هو اللهاث نحو السعودية، لتجديد العلاقة التي صار واضحاً أنها، بصيغتها الجديدة، ستقوم على إعطاء المُلك لوليّ عهد المملكة، محمد بن سلمان، في مقابل النفط والعلاقة مع إسرائيل. وما لم يتضح بعد، هو الترتيبات الأمنية التي ستمنحها واشنطن للرياض ودول الخليج، في المقابل. لكن يظهر أن أميركا لن تعود إلى التورّط المباشر في الشرق الأوسط في شكله السابق، وإنّما ستكون مورّد أسلحة وضامناً لمحور آخذ في التشكُّل، يشمل إسرائيل وبعض دول الخليج وتركيا والأردن ومصر. وسواء كان هذا المحور رسمياً أم لا، فإن المقدّمات تفيد بأن بحيرة من المصالح المشتركة تنشأ بين الدول المذكورة، وهي تمثّل بشكل ما عودة إلى تحالف قديم بدأ مع توقيع مصر اتفاقات كامب ديفيد، ويشمل، في شكل أو في آخر، الأطراف نفسها. أمّا تركيا التي فشلت مشاريعها الإخوانية كلّها، وانتهت إلى طرد الفصائل الإخوانية الخليجية المعارضة من أراضيها، واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى حركة «حماس»، فقد صار رئيسها، رجب طيب إردوغان، أكثر تواضعاً، ورضي بالتحالف بدل الهيمنة، سعياً إلى إنقاذ رئاسته في انتخابات العام المقبل، باستدراج الاستثمارات الخليجية، مقابل التسليم بشرعية حكّام الخليج، والدوران في الفلك الإسرائيلي.
لكنّ المحور الأساسي لهذا التحالف يبقى سعودياً - إسرائيليّاً، وهو المحور الذي يجري العمل عليه بعناية، حيث يبدو أن جو بايدن، بتسليمه المتوقّع لابن سلمان، سيعود إلى الزمن الترامبي، على اعتبار أن مجيء ابن سلمان إلى ولاية العهد تمّ بانقلاب دبّره صهر ترامب، جاريد كوشنر، الصديق الحميم لإسرائيل، وكان في الأساس يقضي بإقامة المحور إيّاه، وإنّما عبر تصفية القضية الفلسطينية، وهو المشروع الذي فشل في حينه، بسبب الإجماع الفلسطيني على إسقاطه. ولذا، فهو يعود الآن بلا الشقّ الفلسطيني، الأمر الذي يحتّم أن يكون تطبيع ابن سلمان تدريجياً، وليس دفعة واحدة، على طريقة الإمارات والبحرين، نظراً إلى حساسية المسألة في المملكة.
وتسريعاً لهذا المسار، تجري ترتيبات مكثّفة لتكون الأمور جاهزة بحلول موعد زيارة بايدن لإسرائيل في حزيران المقبل، والتي يجري التحضير لأن تشمل محطّة في السعودية يريدها ابن سلمان إقراراً أميركيّاً، يمهّد لمباركة عالمية أوسع، بتولّيه العرش. وفي هذا السياق، تأتي زيارة المسؤول الإسرائيلي الكبير التي تحدّثت عنها «القناة 12» الإسرائيلية من دون أن تكشف هويته، إلى الرياض، خلال الأيام الماضية، حيث لقي استقبالاً حارّاً من السعوديين، وأجرى معهم محادثات شملت مناقشة ما اعتبرته القناة تهديداً من «العدو المشترك» للبلدين، إيران، فضلاً عن التعاون المتنامي بينهما، ولا سيما في مجال الأمن. وهي ترافقت مع رحلة إلى المملكة قام بها منسّق مجلس الأمن القومي الأميركي إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك، ومبعوث وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين، لبحث التطبيع السعودي - الإسرائيلي وقضيّة النفط، والتحضير لزيارة بايدن.
ما ظهر حول مشروع التطبيع، إلى الآن، يشير إلى أنه سيكون، في العلن، تدريجياً، ويشمل في المرحلة الأولى نقل جزيرتَي تيران وصنافير في خليح العقبة من مصر إلى السيادة السعودية رسمياً، بالاتفاق مع إسرائيل، التي تقيم ترتيبات مع القاهرة حول الملاحة هناك في إطار معاهدة السلام، فضلاً عن فتح الأجواء السعودية أمام الطيران المدني الإسرائيلي إلى كل الوجهات، وإقامة خطّ طيران مباشر بين إسرائيل والسعودية، بذريعة نقل الحجّاج الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية إلى مكة والمدينة، في الوقت الذي بدأ فيه رجال الأعمال الإسرائيليون بالفعل الدخول إلى المملكة بجوازاتهم الإسرائيلية.