سياسة بن سلمان تجبر المسلمين على مقاطعة الحج
يحاول الأمير السعودي تلميع صورة المملكة وإخفاء سياساتها الداخلية والخارجية العدوانية من خلال ما يسمى بالإصلاحات الليبرالية. ومن الواضح أن هذه المجهودات لم تكن كافية لإسكات أصوات أولئك الذين يواصلون تسليط الضوء على انتهاكات النظام السعودي لحقوق الإنسان.
إن ارتفاع حصيلة القتلى في صفوف المدنيين اليمنيين جرّاء القصف السعودي، والمجزرة المروّعة التي ارتكبت في حق الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، والنهج العدواني الذي تتبعه الرياض في تعاملها مع الأزمة الإيرانية، دفع بعض الحلفاء السنيين للمملكة لإعادة النظر في دعمهم الثابت لها.
في أواخر شهر نيسان/ أبريل الماضي، دعا المفتي الليبي الصادق الغرياني، وهو أبرز عالم دين سني في ليبيا، إلى مقاطعة الحج، وذهب إلى القول إن من يحج للمرة الثانية يقترف "إثمًا ولا يقوم بعمل صالح". وتستند هذه الدعوة إلى اعتقاد الشيخ أن ضخ أموال الحج في الاقتصاد السعودي يساهم في تمويل صفقات الأسلحة التي تبرمها الرياض وتغذي الهجمات المباشرة التي تشنها على اليمن، والهجمات غير المباشرة على سوريا وليبيا وتونس والسودان والجزائر. وأضاف الغرياني أن "الاستثمار في الحج سيساعد الحكام السعوديين على ارتكاب جرائم ضد إخواننا المسلمين".
لكن المفتي الليبي ليس أول عالم دين مسلم يدعو إلى مقاطعة الحج، فقد أصدر العالم المصري المسلم يوسف القرضاوي، وهو من أشد منتقدي المملكة العربية السعودية، في شهر أغسطس/ آب الماضي فتوى تحظر الحج قائلا إن إطعام الجياع وعلاج المرضى وإيواء المشردين أفضل أجرًا من إنفاق الأموال على الحج. وفي واقع الأمر، لا يرتبط نفوذ المملكة العربية السعودية بقدراتها السياسية والعسكرية فقط، بل يرتبط أيضًا بعلاقاتها التاريخية بالإسلام.
نظرا لوجود مكة والمدينة في السعودية، وهما أقدس مكانين في العقيدة الإسلامية، ناهيك عن وجود قبر النبي محمد ﷺ فيها، فإن نفوذ المملكة امتد إلى ما هو أبعد من الدول العربية المجاورة لها، ليصل إلى العالم الإسلامي عمومًا، حيث يتوافد أكثر من مليونين وثلاثة مئة ألف مسلم على اختلاف طوائفهم الدينية على مكة خلال موسم الحج السنوي، والكثير غيرهم على مدار السنة، مما يجعل زيارة المملكة طموحًا للعديد من المسلمين حول العالم.
لقد دفع ارتباط السعودية بالإسلام العالم السني لالتماس قيادتها اليومية فيما يخص القضايا الدينية. وردّا على الثورة الإسلامية التي اندلعت في إيران سنة 1979 والخوف من امتداد تأثيرها في جميع أنحاء المنطقة، أنفقت المملكة العربية السعودية ملايين الدولارات للتسويق لمذهبها، وذلك من خلال تمويل المساجد في جميع أنحاء العالم، التي ارتبط الكثير منها بالتطرف الإسلامي في الدول الغربية. فضلا عن ذلك، يُعتقد أن السعودية هي زعيم العالم الإسلامي.
سعت المملكة العربية السعودية لسنوات عديدة إلى أن تصبح قوة مهيمنة إقليميا، إلا أن إيران هي البلد الوحيد الذي يمثل تهديدا لطموحاتها في الشرق الأوسط. وباعتبارها إحدى أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم وتربطها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، استفادت السعودية من الدعم الثابت الذي تقدمه العديد من الدول المجاورة لها على مدى عقود طويلة.
على الرغم من الأدلة المتزايدة حول تورط العائلة الحاكمة في الرياض في مقتل الصحفي جمال خاشقجي، إلا أن الإدارة الأمريكية غضت الطرف عن كل الأدلة التي تدين ولي العهد السعودي في هذه الجريمة، حيث تجاهل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مؤخرا الإشارة إلى هذا الموضوع عند لقائه بالملك سلمان. وفي حين تنتهج القيادة الأمريكية سياسة التجاهل، لم يكن الأشقاء المسلمون متسامحين بالقدر ذاته.
تزايد القلق بشأن مقتل خاشقجي في جميع أنحاء الشرق الأوسط وفي العديد من الدول الأخرى ذات الأغلبية المسلمة. ومن المتوقع أن ترتفع حصيلة القتلى المدنيين في اليمن لتصل إلى 230 ألف قتيل بحلول سنة 2020 جرّاء الغارات الجوية العشوائية التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية على المستشفيات والجنازات وحافلات نقل الأطفال وحفلات الزفاف.
من جهتهم، وصف مسؤولون في الأمم المتحدة ما يجري في اليمن على أنه "أسوأ أزمة بشرية تسبب فيها الإنسان في عصرنا الحالي". وقد أدى النهج الصارم الذي تتبعه الرياض في تعاملها مع اليمن إلى عزلها داخل تحالفها الخاص، فحتى الحكومة الإماراتية باتت تشعر بالانزعاج من ممارسات حليفتها.
أثارت الفظائع التي تقترفها السعودية موجة من الإدانة العالمية، حيث عمل مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكي على فرض ضغط على صفقة الأسلحة التي أبرمها الرئيس دونالد ترامب مع المملكة العربية السعودية، كما حظرت ألمانيا تجارة الأسلحة مع هذا البلد منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فضلا عن ذلك، تحركت سويسرا وإيطاليا في هذا الاتجاه أيضًا. ومؤخرا، أصدرت محكمة بريطانية قرارا يقضي بعدم قانونية صفقات الأسلحة مع السعودية.
على عكس المحاولات السابقة لمقاطعة السعودية، يتجاوز التوجه الحالي الانقسام الطائفي. ففي سنة 2011، قمعت الرياض الانتفاضة الشعبية في البحرين بناء على طلب من الحكومة البحرينية. والجدير بالذكر أن المسلمين الشيعة في البحرين، البلد الذي يمثل الشيعة غالبيته ولكن يحكمه السنّة، قد قادوا هذه الاحتجاجات. وردا على عملية القمع، دعا الناشطون العراقيون إلى مقاطعة جميع المنتجات السعودية. وانتظمت مظاهرات ضخمة شارك فيها رجال دين شيعة وباحثون وسياسيون، كما صرح رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي بأن استمرار أعمال العنف "سيقود المنطقة إلى حرب طائفية".
في الوقت الحالي، تصاعدت الدعوات المطالبة بمقاطعة المملكة، ناهيك عن كونها لا تقتصر فقط على المسلمين الشيعة. ونتيجة لذلك، ينال الوسم المطالب بمقاطعة السعودية، #قاطع الحج، رواجًا كبيرا على موقع تويتر للتواصل الاجتماعي بواقع أكثر من 16 ألف تغريدة. كما صرح اتحاد الأئمة التونسيين بأن أموال الحج لا تذهب لمساعدة الفقراء في السعودية بل تُستخدم لقتل الناس وتشريدهم، كما هو الحال في اليمن.
نظرا لأن الحج يعتبر من أركان الإسلام الخمسة، فإن الدعوة إلى مقاطعة السعودية تشير إلى وجود قلق حقيقي تجاه السلوك السعودي. وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فإنه من المرجح أن مكانة السعودية كمركز روحي للإسلام ستتزعزع، ناهيك عن احتمال تعرضها لضربة اقتصادية.
يعتبر الحج شديد الأهمية بالنسبة للاقتصاد السعودي، حيث تبلغ عائداته 12 مليار دولار سنويا، وهو ما يمثل 20 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي. ومن المتوقع أن ترتفع العائدات إلى 150 مليار دولار سنة 2022 بسبب استثمار المملكة في الفنادق الضخمة. لكن هذا الاستثمار جعل المسلمين الفقراء غير قادرين عن تغطية تكاليف الحج.
ليست هذه المرة الأولى التي يقع فيها إضفاء بعد سياسي على الحج، حيث سبق للمملكة العربية السعودية نفسها منع الحجاج القطريين والإيرانيين من التوافد إلى أراضيها على خلفية تنامي الخلافات السياسية مع حكومات بلدانهم. وإن لم يكن ذلك كافيًا بالنسبة للمسؤولين السعوديين، فقد أساؤوا إلى حرمة مدينة مكة المقدسة تحت طائلة تعزيز أيديولوجيتهم السياسية.
خلال خطبة الصلاة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قال إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس إن "ولي العهد محمد بن سلمان ملهم من قبل الله تعالى ليواصل التقدم إلى الأمام والمضي قدمًا في رؤيته الحداثية والملهمة في ظل التهديدات الفاشلة والضغوطات". وهو ما يوحي بشكل ضمني أنه لا ينبغي لأي مسلم التشكيك في قيادة النخبة السياسية السعودية.
في محاولة منها لاستعراض قوتها السياسية لدفع المجتمع الدولي لصرف النظر عن جرائمها بحق اليمنيين ومقتل جمال خاشقجي، نظمت المملكة قمة طارئة في أواخر شهر أيار/ مايو في مكة للتركيز على تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. وخلال هذه القمة، التي تضمنت اجتماعات منفصلة لكل من القادة العرب ومجلس التعاون الخليجي والعالم الإسلامي، طلبت السعودية الدعم من الدول العربية المشاركة للتعامل مع إيران من خلال استخدام "كل السبل الممكنة لوضع حد لتدخل إيران في شؤون الدول الأخرى، وإيواء الكيانات الإرهابية الإقليمية والعالمية، وتهديد الممرات البحرية الدولية".
في تحد واضح لها وتسليط الضوء على تراجع مكانة السعودية، عمدت الحكومة العراقية إلى رفض البيان الختامي للقمة وعارضته بشكل كامل نظرا لكونه يدين إيران، وتعهدت في المقابل بإصدار رسالة دعم لطهران ودعت الدول العربية الأخرى للمساعدة في تحقيق الاستقرار في البلاد. وخلال القمة التي عُقدت في مكة، صرح الرئيس العراقي برهم صالح قائلا: "بصراحة، إن أمن واستقرار دولة إسلامية مجاورة يصبّ في مصلحة الدول الإسلامية والعربية"، في إشارة إلى إيران. ونتيجة لهذا الرفض، فشلت المملكة العربية السعودية في دفع منظمة التعاون الإسلامي إلى عزل إيران وإدانتها.
بسبب ارتفاع حصيلة القتلى في اليمن، تدعو جميع دول العالم إلى مقاطعة المملكة اقتصاديًا ودينيًا وسياسيًا، حيث لا يجب أن تقتصر الإجراءَات المتخذة ضدها على حظر تجارة الأسلحة فقط. وإلى جانب تضاؤل قائمة أصدقاء المملكة في الغرب، بدأت علاقتها مع حلفائها الإقليميين تشهد فتورًا ملحوظًا. وفي حال فشل ترامب في الفوز بولاية ثانية في الانتخابات، ستخسر السعودية أصدقاءها الدوليين، وتتضرر مطالبها في قيادة العالمين الإسلامي والعربي بشكل كبير.
المصدر: فورين بوليسي