ستّةُ أسبابٍ جوهريّةٍ وراء إنهاء أعمال اللّجنة الملكيّة السعوديّة بالتّحقيق في قضايا الفساد..
هل حقّقت اللّجنة أهدافها فِعلًا وقضَت على الفاسِدين؟ ولِماذا خفّف الأمير بن سلمان مِن ظُهوره الإعلاميّ مُؤخَّرًا؟ وما مَدى صحّة تقارير تتحدّث عن ابتعادِه عن صفقة القرن؟
أكّد الديوان الملكيّ السعوديّ في بيانٍ أصدَره يوم الأربعاء الماضي أنّ اللّجنة المُكلّفة بالتّحقيق في قضايا الفساد ويَرأسها الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، أنهَت أعمالها بعد أن استعادة 400 مِليار ريال (100 مليار دولار)، كانت عبارةً عن أُصولٍ وأسهُمٍ في شركات وعقارات وودائع ماليّة.
البيان الملكيّ كشَف لأوّل مرّة أنّ عدد الأُمراء ورِجال الأعمال الذين تم اعتِقالهم مُنذ بداية الحملة في تشرين الثّاني (نوفمبر) عام 2017 بلَغ 381 شَخصًا، وتمّت التّسوية مع 87 شخصًا بعد إقرارهم بِما نُسِب إليهم من اتّهامات وقَبِلوا بالتّسوية، وهُناك ثمانية رَفضوا هذه الاتّهامات، وجرى إحالَة 56 شخصًا رهن الاعتِقال إلى النّيابة العامّة للتّحقيق معهم في قضايا غير مُرتَبطة بالفساد.
وقالت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكيّة إنّ جميع الذين جرى الإفراج عنهم، وأبرزهم الأمير الملياردير الوليد بن طلال الذي تراجعت ثروته إلى 15 مليار بعد أن كانت 19 مليارًا قبل اعتقاله، وكذلك السيّد محمد العمودي ثاني أغنى المُعتقلين (تراجعت ثروته من 8.7 مليارا إلى 1.7 مليار دولار)، وجرى الإفراج عنه بوِساطة وضُغوط إثيوبيّة ما زالوا مَمنوعَين من السّفر.
كان لافِتًا أنّ البيان لم يكشف عن أسماء الأُمراء ورجال الأعمال الثّمانية الذين رفضوا الاتّهامات المُوجّهة إليهم بالفساد، والقُبول بالتّسوية، كما أنّه لم يوضّح في الوقت نفسه طبيعة التّهم الجنائيّة أو غير الماليّة المُوجّهة إلى 56 شخصا الذين أُحيلوا إلى النّائب العام لمُواصلة التّحقيقات معهم، ويُعتَقد أنّ من بينهم الأمير خالد بن طلال، الذي جرى الإفراج عنه لبِضعَة أيّام للمُشاركة في جنازة والده، ليعود إلى المُعتقل مُجدّدًا.
وما زال من غير المعروف أسباب صُدور البيان الملكيّ الذي أنهَى عمل هذه اللّجنة، ولكن هُناك ستّة تفسيرات ورَدت على ألسِنة العديد مِن الخُبراء والمُتابعين للشأن، السعوديّ اتّصلت بهم “رأي اليوم”:
الأوّل: أنّ هُناك من يعتقد أنّ الحملة التي استهدَفت بعض المُعارضين للأمير بن سلمان وليّ العهد حقّقت أغراضها السياسيّة والماليّة معًا، فقد نجحت الحملة في تلطيخ صُورة مُعظم هؤلاء بإلصاق تهمة الفساد بهم، كما أنّها جمعت 100 مليار دولار من أموالهم يُفتَرض أن تكون عادت إلى الميزانيّة العامّة للدّولة.
الثّاني: نجحت الحملة في إحكام قبضة الدّولة، والأمير بن سلمان على وجه الخُصوص، على جميع الامبراطوريّات الإعلاميّة السعوديّة شِبه الخاصّة، مثل مؤسسة “الحياة”، وشبكة “إم بي سي” العِملاقة، ومجموعة المليونير صالح كامل التلفزيونيّة، وقنوات “روتانا” التي يَملُكها الأمير الوليد بن طلال الذي أشاد بوليّ العهد السعوديّ، وأيّد إجراءاته في مُحاربة الفساد بعد الإفراج عنه.
الثّالث: مُحاولة طمأنة المُستثمرين في داخِل المملكة وخارجها الذين أحجموا، أو مُعظَمهم، عن الاستِثمار في المملكة بسبب الخَوف من مُواجهة المصير نفسه، أيّ الاعتِقال بجرّة قلم في ظِل غِيابٍ كاملٍ للقضاء، خاصّةً أنّ مشاريع الأمير بن سلمان الجديدة مثل مدينة “نيوم” في حاجّةٍ ماسّةٍ إليها، وكانت هذه الظّاهرة، أيّ الإحجام عن الاستثمار في المملكة، واضِحةً للعيان في مؤتمر دافوس الصّحراء الاستثماريّ الذي انعَقد في المملكة قبل شهرين، وقاطَعهُ مُعظم وزراء الماليّة في الغرب، وكذلك الشركات الماليّة الغربيّة العِملاقة.
الرابع: القضاء على ظاهرة الاستِغلال السياسيّ للأعمال “ألبزنس″، وحصرها في المجموعة الصغيرة التي تحظى بثِقة وليّ العهد السعوديّ فقط في المُستقبل، وهذا ما يفسّر إفلاس، أو شِبه إفلاس شركات سعوديّة عملاقة مِثل امبراطوريّة بن لادن للمُقاولات، وشركة سعودي أوجيه، التّابعة لأُسرَة الحريري.
الخامس: محاولة امتِصاص الأضرار الكبيرة التي لَحِقت بالأمير بن سلمان من جرّاء جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وانعِكاساتها على صُورة المملكة في الدّاخل والخارج، ومُحاولة تخفيف الانتِقادات لاعتقال بعض نُشطاء حُقوق الإنسان، ذُكورًا وإناثًا في المُجتمعات وأجهزة الإعلام الغربيّة، ويسود اعتِقاد بأنّ العاهل السعودي قد يُصدِر عَفوًا عن مُعظَم هؤلاء، إن لم يَكُن كلهم، في الأيّام أو الأسابيع المُقبِلة، لتخفيف حدّة هذه الحملات إذا لم يتأتّ وقفها.
السادس: كان لافتًا للعَديد من المُراقبين اختِفاء الأمير بن سلمان مِن المشهد السعوديّ في الأسابيع الأخيرة، بالمُقارنة مع السّنوات الأُولى لتولّيه قيادة الدّولة، بعد منصب ولاية العهد، فقد خفّ ظُهوره الإعلاميّ كثيرًا، وتُشير بعض التقارير أنّه لم يعد يدعم صفقة القرن بالشّكل الحماسيّ الذي كان يفعله في السّابق بالتّنسيق مع جاريد كوشنر، صِهر الرئيس دونالد ترامب، كما أن رموز التّطبيع في المملكة مِثل الأمير تركي الفيصل والدكتور أنور عشقي خفّفوا من حماسهم للتّطبيع والظّهور الإعلاميّ المكثف في الفترة الأخيرة، وعادةً ما كانوا يفعلون ذلك بمُباركةِ الحُكومة.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هو عمّا إذا كانت هذه الخُطوات، مِثل إنهاء عمل لجنة التّحقيقات في قضايا الفساد والإفراج عن مُعظم المُعتقلين، ستُعطِي أؤكلها، وتُساهِم في تخفيف الضّغوط على الأمير بن سلمان، وتُعيد الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى المملكة مِثلَما كان عليه الحال في السّابق، أيّ قبل حملة اعتِقالات “الريتز كارلتون”؟
والسؤال الآخر المُتفرّع عن الأوّل، وهو عمّا إذا كان إغلاق مِلَف التّحقيقات يعني القَضاء على الفساد بشَكلٍ جذريٍّ وعدم استمراره في المُستقبل بأشكالٍ أُخرَى، و”نُجومٍ” آخَرين؟
يَصعُب علينا تقديم إجاباتً قاطعةً عن هذين السّؤالين، لأنّ الحملة على الفساد التي حظِيَت بشعبيّةٍ لا بأس بها في أوساط الشّباب في بِداياتها لم تُقدّم البدائل المُقنِعة، ولم تُساهم في تخفيف حدّة المصاعب المعيشيّة لهؤلاء الشباب، وإنعاش الاقتِصاد بالشّكل المأمول مِثلما أبلغنا أحد كِبار الاقتصاديّين الغربيّين العائِد للتوّ مِن المملكة.
ربّما يُجادل البعض بأنّه من المُبكر لأوانه إطلاق مثل هذه الأحكام، ولم يمضِ إلا بضعة أيّام على إغلاق ملف اللّجنة العُليا للتّحقيق في قضايا الفساد، وإغلاق ملفّات مُعظم المُتّهمين، وهذا جَدلٌ في محلّه، ولكن قليلةٌ هي المُؤشّرات التي تُوحِي بالعَكس، وتبعَث على الكثير من التّفاؤل.. ولعلّ مِن الحكمة الانتِظار والمُتابَعة في جميع الأحوال.
“رأي اليوم”