السعودية وإضاعة الفرص.. كيف الخروج من الدوامة؟
الاناضول- لم تخف السعودية على مدار سنوات “الربيع العربي” قلقها إزاء الثورات التي أطاحت بقادة عرب وهددت آخرين.
إلا أن تلك الفوضى، كما هي مراحل إعادة ترتيب الأوراق دائما، كشفت عن فرص استراتيجية من شأنها تعزيز أمن المملكة ومصالحها الاقتصادية على المدى البعيد.
ويبدو أن الرياض سعت بالفعل إلى تلقف تلك الفرص، وخصوصا في اليمن، لكن أحداثا لاحقة كشفت عن ضعف في التخطيط والتنفيذ، وربما قصور في الرؤية، لتتحول المنحة في النهاية إلى محنة.
أبرز تلك المكاسب المرجوة ـ سابقا ـ إنهاء حالة الخوف المستمرة على صادرات النفط، مصدر الثروة الأساسي للبلاد، وهو ما شكل محور سياسات ولي العهد الشاب محمد بن سلمان، منذ توليه المنصب عام 2017.
** دوامة الخوف والابتزاز
منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ مراقبون بملاحظة توجه الولايات المتحدة نحو رفع رصيدها لدى دول الخليج الغنية بالنفط، من خلال إثبات حاجة الأخيرة إليها عسكريا واقتصاديا.
قد يطلق البعض على ذلك “ابتزازا”، إلا أن الكثير من قادة دول المنطقة رأوا فيه واقعية وتعاونا يربح فيه الطرفان، خصوصا أن الخليج تمكن فعلا من تحقيق طفرات اقتصادية هائلة في سنوات قليلة، ودفع “أخطار” إقليمية.
لكن واشنطن لم تكن معنية باستهلاك أوراق عادت عليها بأموال واستثمارات ومواطئ قدم استراتيجية على مدار عقود، وكان لزاما، من وقت لآخر، إعادة بث الروح في “الفزاعة”.
ليس أكيدا ما إذا كان ذلك هو ما يفسر توجه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة نووية مع إيران ترفع بموجبها عقوبات اقتصادية، فضلا عن الانسحاب من العراق، والاستنكاف عن التدخل في سوريا واليمن، ما سمح لطهران بمد أذرعها في المنطقة.
إلا أن نواقيس الخطر دُقت على أي حال في عواصم الخليج، وخصوصا الرياض، تلا ذلك تحرك الأخيرة بعيدا عن “الدبلوماسية الهادئة” التي عرفت بها من جهة، وأخذت من جهة أخرى تترقب قدوم “مخلّص” إلى البيت الأبيض.
هل كانت تلك عناصر كافية لاستراتيجية تستهدف في النهاية تحقيق خروج آمن من دوامة التهديد الإيراني والابتزاز الأمريكي؟ الجواب سلبي بالتأكيد، ولكن لماذا؟
** الاستراتيجية الناقصة
أرادت المملكة من انخراطها في الأزمة اليمنية عام 2015، مواجهة خطر تمكن طهران من تهديد مضيق باب المندب، كما هو الحال في مضيق هرمز، وهما المنفذان الوحيدان لعبور نحو 70 % من صادرات البلاد النفطية، بحسب بيانات موقع OEC الاقتصادي لعام 2016.
ولاحقا، تبين أن لدى الرياض مشروعا أكثر طموحا، يتمثل بمد خط أنابيب ينتهي في موانئ شرقي اليمن، لزيادة خيارات طرق التصدير، بعيدا عن التهديد الإيراني.
وفي الواقع، فإن هذه الفكرة تعود إلى أعوام سابقة، إذ وقّعت الرياض وصنعاء اتفاقية بهذا الشأن منتصف عام 2002، إلا أن تقريرا لصحيفة “فاينانشل تايمز” عام 2014، أرجع تأخر تنفيذ المشاريع النفطية في اليمن إلى ضعف القبضة الأمنية والبنى التحتية والاستثمارات، فضلا عن الحسابات السياسية المعقدة، وصولا إلى ثورة 2011، ومن ثم انقلاب الحوثيين عليها.
لم تلبث المملكة بعد ذلك أن حققت ـ بطلب من الحكومة الشرعية ـ تواجدا على الأرض اليمنية، من شأنه بث الروح في شراكة استراتيجية بين البلدين في نهاية المطاف، إضافة إلى تحقق آمالها بفوز “دونالد ترامب” برئاسة الولايات المتحدة.
لكن الدبلوماسية السعودية مع ولاية العهد الجديدة، فرّطت بالفرصة الاستراتيجية التاريخية من خلال ممارسة العديد من الأخطاء.
وفي حديث للأناضول، قال الباحث الأردني في العلاقات الدولية عبد الله أسمر، “إن أول تلك الأخطاء حصار قطر، ذات التأثير الكبير على شرائح واسعة من الشعوب العربية، والإمعان في إظهار العداء لمجموعات إسلامية معتدلة وتيارات ثورية في مختلف دول المنطقة”، رغم انتهاء ذلك “الربيع المخيف” فعليا.
بعثت الرياض بتلك الممارسات إشارات سلبية إلى الشعب اليمني خصوصا، الذي تبددت لدى قطاع كبير منه آمال التعاون في تحقيق الأهداف المشتركة للبلدين، وبات يشكك في نوايا “التحالف العربي”، وبدأت أطراف مختلفة تصرح بمعارضة السماح للسعودية أو الإمارات بتنفيذ مشاريع اقتصادية بالبلاد.
ثانيا، والأهم، بحسب “أسمر”، “ارتهان المملكة لدعم ترامب، وهو ما تعمق إثر خروج الأخير من الاتفاق النووي في مايو / أيار الماضي، وإعادة فرضه عقوبات اقتصادية على طهران”.
فقد عكست عدة تصريحات إعلامية آنذاك اعتقادا سائدا في السعودية بنجاح استراتيجيتها، وثبوت نظرية أن رئيس الولايات المتحدة وحده من بيده الحل، خصوصا إذا كان من النوع الذي يمكن شراء مواقفه بـ 400 مليار دولار.
إلا أن تعمق المأساة الإنسانية في اليمن، وقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية الرياض في إسطنبول، أكتوبر الماضي، ومن ثم انتزاع الديمقراطيين الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي، بعدها بشهر، فضلا عن الضغوط المتزايدة على ترامب بشأن سياساته من قبل مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه، جميعها عوامل ألقت الأضواء على ثغرات الرهان السعودي.
ثبت مجددا أن صناعة قرارات البيت الأبيض غير مختزلة في شخص الرئيس، وأن دفع الأموال وحده لا يكفي لتكميم الأفواه إزاء الأخطاء فضلا عن الجرائم، كما ثبتت حاجة الدول العربية، وخصوصا السعودية بأهميتها وموقعها، إلى تنويع خيارات الشراكة الدولية بشكل حقيقي وثابت، لا في سياق إظهار عدم الرضا عن واشنطن في مرحلة ما، وهو ما يضمن الخروج من خانة الخوف والابتزاز.
وأهم تلك الخيارات احترام دول المنطقة والتعامل معها على أساس الشراكة والتعاون في فتح آفاق جديدة أكثر استدامة واستقرارا، وحل الخلافات من خلال الحوار، عوضا عن نبرة الوصاية أو الندية، صغرت تلك الدول أم كبرت.
وليس الحديث هنا مقتصرا على قطر، أو تركيا التي عرضت على السعودية مرارا التعاون في مجالات مختلفة، لا سيما العسكرية والاقتصادية، والتنسيق في ملفات المنطقة الملتهبة، بل يشمل ذلك إيران نفسها، التي يؤكد خبراء من داخل المنطقة وخارجها ضرورة الاعتراف بحجمها وأهميتها، واستذكار إمكانية أن تعود واشنطن إلى الاتفاق النووي معها، وربما أكثر من ذلك مستقبلا.
إن دبلوماسية من ذلك النوع كان من شأنها أن تحقق للرياض ما أرادته في اليمن بتكاليف مادية وإنسانية أقل، ودون أن تشوه سمعتها وتعرض نفسها لخطر الحصار الدولي، أو تعمق أزمة “الابتزاز”.
أضف إلى ذلك إمكانية استفادة البلاد من تعاون بين دول المنطقة في تحقيق أهداف اقتصادية مشتركة ذات أبعاد استراتيجية، خصوصا من حيث تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على الموارد النفطية، من خلال التعاون في قطاعات تجارية واستثمارية ومالية مختلفة.
إلا أن المملكة لم تكتف بفرض حصار على جارتها الشرقية والتنكر لمبادرات أنقرة، بل إنها تسترت، ولا تزال، على الخيوط الكاملة لجريمة قتل “خاشقجي” على الأراضي التركية، وترفض تسليم المتورطين المباشرين فيها.
بل إنه يمكن الزعم أن الرياض لم تكن لتتحرك خطوة واحدة نحو الكشف عن أي تفاصيل بشأن تلك الجريمة البشعة، ما لم تجبرها على ذلك نتائج التحقيقات التركية، وهو ما يبعث برسائل سلبية مقلقة لشعوب المنطقة، ويحرج “أصدقاء” المملكة بشكل كبير.
وبين إعلان واشنطن إيقاف تزويد مقاتلات التحالف العربي بالوقود في 9 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، ومناقشة مجلس الشيوخ مقترح قرار بوقف الدعم العسكري برمته، ظهرت العديد من إشارات تلاشي الغطاء الأمريكي لحرب اليمن ولسياسات ولي العهد السعودي، وربما لشخصه في منصبه لاحقا.
وبذلك، بات الهروب إلى الأمام غير متاح إلى حد كبير، فيما صياغة استراتيجية خروج من الأزمة المحدقة والعمل بموجبها يتطلب شجاعة في الاعتراف بالأخطاء، وجهدا كبيرا في إعادة مد جسور الثقة مع شعوب المنطقة.
راي اليوم