حصار قطر وامتحان الحماية الأمريكية
محمد الجرمن
بعد غزو العراق للكويت عام 1990 وتحريرها لاحقا على يد قوى «التحالف الدولي» الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية، زاد اعتماد دول «مجلس التعاون الخليجي» على واشنطن كقوة عسكرية أمنية حافظة للدول الخليجية من أي خطر خارجي يهدد استقرار وسيادة هذه الدول.
لكن هذا الاعتماد العسكري كان له تأثير سلبي على استراتيجيات الدفاع الذاتي المستقلة عن الولايات المتحدة لبعض دول الخليج، وأصبح عامل ركود لتطوير البنية العسكرية الأمنية المستقلة وتفعيلها وسط غياب لأي عقيدة عسكرية واضحة لمعظم دول الخليج.
وأثارت أزمة حصار قطر التي فاجأت الإقليم في شهر يونيو/حزيران 2017، العديد من التساؤلات حول جدوى الدور الأمريكي العسكري في حفظ أمن واستقرار الدول الخليجية، ومدى التزامها بتطبيق الاتفاقيات الأمنية التي أجرتها مع بعض دول الخليج، إذ كان الحصار -فيما يبدو- مجرد استهلال لخطوة أكبر وأشمل، وهو غزو قطر بمشاركة مباشرة لثلاث دول خليجية هي الإمارات والسعودية والبحرين.
وقد ذكر ذلك وزير الدفاع القطري «خالد العطية» صراحة حين أكد حقيقة هذه المخططات تجاه قطر، وأنها بالفعل كانت على رأس الأجندة الرسمية لدول الحصار.
مصداقية الحماية
ترتبط أمريكا وقطر باتفاق أمني يفترض أن يشتمل نصا أو ضمنا على إلزام أمريكا بالدفاع عن قطر، وتحتضن قطر أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وهي قاعدة «العديد» الجوية التي تؤوي نحو 11 ألف عسكري أمريكي، وأكثر من 100 طائرة أمريكية تضم مقاتلات جوية منها «F15» و«F16» و قاذفات قنابل مثل «البي 52» و«البي 1» وطائرات نقل لوجستي، وغيرها من مختلف الطائرات.
ومع كل هذا الثقل الاستراتيجي العسكري لقاعدة «العديد» فإن أزمة الحصار شككت في مصداقية الحماية الأمريكية لدولة قطر، فالوجود الأمريكي الذي من المتوقع أن يذود عن أي تهديد خارجي يحيط بقطر، أصبح محط إعادة تقييم بعد أن فشل في منع الحصار على قطر، أو الرغبة في رفعه حتى هذه اللحظة، فضلا عن منع تفكير دول الحصار بالإقدام على هجوم عسكري على قطر.
ومن هنا يمكن أن نشير إلى عاملين مهمين أسهما في تشجيع دول الحصار على التفكير بشكل جدي بغزو قطر:
العامل الأول مرتبط بغياب الردع الأمريكي لدول الحصار، حيث أثبتت القرائن وجود ما يشبه الضوء الأخضر في بداية الأزمة لدول الحصار لتنفيذ عمل عسكري ضد قطر.
صحيح أن هذا الضوء الأخضر مرتبط بوجود «ترامب» شخصيا وعلاقته الخاصة مع «محمد بن سلمان» و«محمد بن زايد»، لكن قابلية الاتفاق لأن يكون دون فاعلية بسبب هوى الرئيس الأمريكي دليل أنه ليس بالصيغة الكافية لإلزام الولايات المتحدة بالدفاع عن قطر ضد أي خطر إقليمي.
ويبدو أن أمريكا تهتم عمليا بما يشكل خطرا عليها فقط مثل إيران والجماعات الجهادية وليس ما يشكل خطرا على قطر دون أمريكا.
قد يقال إن القيادة القطرية راهنت على أن السياسة الأمريكية في المنطقة مبنية على انسجام دول «مجلس التعاون» ولن تسمح بأي خلافات حادة، فضلا عن حصار وحرب بين هذه الدول، بغض النظر عن بنود اتفاقية الدفاع مع أمريكا وقاعدة «العديد».
ويدعم هذا الرأي أن إدارة «أوباما» التي كان لها دور في إنهاء أزمة 2014 ولم تسمح بالتصعيد وأعادت الأمور لنصابها في وقت سريع، لكن أثبتت التجربة مع «ترامب» أن هذا مرده كذلك إلى شخصية من يقيم في البيت الأبيض وليس مرده لثبات السياسة الأمريكية.
مقارنة عسكرية
العامل الثاني هو قصور التسليح القطري نوعا وكما مقارنة بتسليح دول الحصار، ما شجع دول الحصار بعد تحييد أمريكا للمضي قدما في مخطط الغزو.
ولو قارنا بين الإمكانيات العسكرية بين دول الحصار الخليجية الثلاث من جهة ودولة قطر من جهة أخرى (قبل بداية الحصار) لوجدنا أن دولة قطر متأخرة عسكريا وسط قصور في الاهتمام واستحداث منظومتها العسكرية.
ومرة أخرى فإن سبب هذا القصور يرجع للاعتمادية الكبيرة على الوجود الأمريكي؛ فمثلا إذا قارنا سلاح الجو البحريني (والبحرين أصغر حجما من قطر) بسلاح الجو القطري فسوف نجد أن البحرين تمتلك 20 طائرة «F16/بلوك 40» و8 طائرات «F5» بمجموع 28 طائرة مقاتلة أمريكية الصنع.
في المقابل تمتلك قطر 12 طائرة «ميراج 2000/F5» و6 طائرات «ألفا جت» للهجوم الخفيف بمجموع 18 طائرة فرنسية الصنع.
أما الإمارات فهي تمتلك 62 مقاتلة جوية من طراز «ميراج 2000/F9» فرنسية الصنع و79 مقاتلة «F16/بلوك60» أمريكية الصنع بمجموع 141 مقاتلة جوية.
وتمتلك السعودية نحو 141 طائرة «F15» أمريكية الصنع و71 مقاتلة من طراز «يوروفايتر تايفون» بريطانية الصنع ونحو 56 طائرة «تورنادو» بريطانية الصنع أيضا بمجموع 270 مقاتلة جوية.
ومن هنا سنجد أن مجموع المقاتلات الجوية لدول الحصار الثلاث هو نحو 439 مقاتلة في مقابل 18 مقاتلة جوية لقطر.
وهناك قصور كذلك في شبكة الدفاع الجوي المستقلة لدولة قطر، حيث تقتصر الشبكة على عدد من المضادات ذات المدى القصير والمتوسط مثل «روالند2» و«أمسترال» و«بلوبايب» و«ستينغر» و«سام7».
وعلى الرغم من إعلان دولة قطر صفقة شراء مضادات «باتريوت/باك3» الجوية من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014، فإن أيا من هذه الوحدات لم تنشر بعد ومن المتوقع دخولها قيد التشغيل مستقبلا.
في خضم هذه المعطيات العسكرية نجد أن دولة قطر راهنت على الولايات المتحدة في حمايتها من أي أخطار خارجية، ولم تبذل نتيجة لذلك جهدا كبيرا في تسليح قواتها المسلحة وإعادة تأهيلها تقنيا، وفضلت توفير المبالغ المالية التي كان من الممكن استثماراها في القطاع العسكري للاستثمار في قطاعات أخرى في الدولة.
ومن هذا المنطلق قدرت دول الحصار بحساباتها الاستخباراتية والسياسية أنه إذا ما تم تحييد الموقف الأمريكي والوجود العسكري الأمريكي بقطر، فإن القدرات الدفاعية القطرية لن تكون قادرة على تحمل غزو مشترك لدول الحصار.
وبالنظر بأثر رجعي يمكن القول بارتياح إنه لولا التعجيل بتفعيل معاهدة الدفاع التركية - القطرية بعد يومين من الحصار لربما أقدمت دول الحصار على خطة الغزو كما تبين بعد ذلك.
وقد أشارت عدة جهات إلى تسريبات تدل على خطة مفصلة للغزو متزامنة مع ترتيبات تعطي انطباعا بأنه ليس غزو بل خلاف عائلي داخل الأسرة الحاكمة في قطر؛ تتمثل هذه الترتيبات في أن يتزامن الغزو مع تنصيب شخصية موالية من «آل ثاني» كبديل لأمير «تميم بن حمد» فتحدث مشاكل زعما فتضطر دول الحصار وعلى رأسها السعودية للتدخل بهدف استتباب الأمن وضمان استقرار قطر.
القوة الناعمة
كانت سياسة دولة قطر تعتمد على ما يسمى بـ«القوة الناعمة» (Soft Power) المتمثلة في استخدام توازنات المصالح والمال وقوة الإعلام في ضمان الأمن القومي.
والقوة الناعمة شيء جيد ودليل على نضج في التخطيط السياسي، لكنها لا تغني أبدا عن القوة العسكرية والاعتماد على الذات في التسليح ووضع خطط ورؤى دفاعية تكتيكية واستراتيجية في منطقة مليئة بالتغيرات السياسية والأمنية.
يستثنى من ذلك خطوة استراتيجية مهمة وأساسية في البرنامج الدفاعي القطري وهي إدراج واجب الخدمة الوطنية (التجنيد) الذي شمل معظم شرائح المواطنين والمبني على مبدأ جعل أكبر عدد من المواطنين جاهزا للقتال وقت الحاجة.
هذا المبدأ أثبت نجاحه في بعض الدول الصغيرة التي ليس لديها وفرة في عدد السكان وتحيط بها مخاطر أمنية كبيرة مثل سويسرا و(إسرائيل).
ويبدو أن تجربة الحصار نبهت القيادة القطرية إلى الاهتمام بالجانب الثاني وهو التسليح، خاصة الطيران والدفاع الجوي.
ومن أهم الخطوات التي اتخذتها القيادة القطرية بعد الحصار هو الاستعجال في صفقات 72 مقاتلة جوية منها 12 طائرة «رافال» فرنسية، و36 طائرة «F15» أمريكية، و24 طائرة «يوروفايتر» بريطانية، إضافة إلى تسريع صفقة 24 مقاتلة رافال كانت قطر قد وقعتها مع فرنسا عام 2015.
كما أقدمت قطر على قفزة سياسية وأمنية كبيرة بعد الحصار في شؤون الدفاع الجوي والصاروخي من خلال شراء صواريخ باليستية صينية قصيرة المدى «إس واي 400»، كما بدأت مفاوضات مع روسيا في شهر أغسطس/آب 2017 من أجل شراء منظومة الدفاع الجوي «إس 400» الروسية ، والتي تعد من أفضل منظومات الدفاع الجوي وأكثرها فاعلية في العالم.
ومن المتوقع أن تشكل هذه المنظومة في حال دخولها الخدمة القطرية إضافة بارزة لحماية الأجواء القطرية وقوة ردع استراتيجية ضد الأخطار المحيطة تثبط عزيمة الأعداء.
وربما لجأت القيادة القطرية لهاتين الصفقتين من أجل لفت نظر الأمريكان إلى تقصيرهم في ردع دول الحصار حيث كانت قطر ملتزمة بعدم استيراد السلاح الثقيل من دول خارج حلف «الناتو» مراعاة للخاطر الأمريكي.
كما أن الصفقات مع روسيا والصين لا تحتاج إلى بيروقراطية السياسة الأمريكية التي كانت سببا في تأخير بعض الصفقات العسكرية لقطر.
بعد كل هذا يبقى السؤال: لو كان الوجود العسكري الأمريكي ضامنا لأمن قطر هل كانت قطر بحاجة معاهدة دفاع مع تركيا؟
وللإجابة بشكل واقعي على هذا السؤال فإنه بعد التقصير الأمريكي لا مناص من مثل هذه الاتفاقية، وذلك لأن اكتمال المنظومة الدفاعية بشريا وسلاحا يحتاج مدة طويلة لا بد خلالها من وجود حليف حقيقي يعتمد عليه للضمان الدفاعي ريثما تكتمل المنظومة الوطنية.
* محمد الجرمن - ماجستير من جامعة نيويورك في السياسة الدولية
المصدر | الخليج الجديد