من تحديات التغيير في السعودية
تسببت السياسات الداخلية المتشددة عقودا في تحويل مواطنة غالبية “الحضر” المُهمشين في مناطق الحضر، خصوصاً في ساحل الخليج العربي والبحر الأحمر، إلى مواطنة من الدرجة الثانية؛ يشمل ذلك الشيعة والإخوان المسلمين والمواطنين من أصول أجنبية من سكان المنطقة الغربية.
التغيير في السعودية قادم؛ إلا أن أحداً ليس في مقدوره تجاوز حالة “التدافع” التي سيولدها انتقال المملكة من فضاء المرأة العجوز المتشحة بالسواد، والمسكونة بمظاهر الاحتشام، إلى حلم الفتاة المُنطلقة، وهي تقود سيارتها الخاصة من مقر عملها إلى منزلها، مروراً بشارع التحلية في العاصمة الرياض، لتحتسي كوباً من القهوة في ستاربكس أو كوستا كافيه، برفقة أصدقائها من الجنسين.
أمام مشروع التغيير وطموحاته الكبرى، لا يمكن لذلك “الماضي”، بمجموع الأفهام والموروثات والرموز التي يحملها، وصولاً إلى شبكة المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت فاعلة فيه، لا يمكن أن يُقتل بين ليلة وضحاها، ولئن استطاعت ماكنة الإعلام السعودية التغطية عليه، وعلى تفاعلاته مع مشروع التغيير وقبوله، أو الاستخفاف به، وبما يستطيع أن يفرضه في الواقع من متغيرات.
عديدة هي التحديات الماثلة أمام ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، ومشروعه للتغيير في السعودية، داخلية وخارجية، اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية. ولئن كانت رحى التنبؤات تدور بقوة، وتبدو القرارات “الاستثنائية”، كالسماح بقيادة النساء للسيارات، وتنظيم الحفلات الغنائية المختلطة، وبث خطاب اجتماعي/ ديني تقدمي في عنفوانها، إلا أن إنجاز مشروع التغيير الكبير لن يكون بهذه السهولة، فالتحديات عدة، واللاعبون إلى جانب “الأوامر الملكية” كُثر.
من تلك التحديات أن النظام الذي قام على ذلك التحالف القبلي الكبير من “البدو” المُنظمين في حامل ديني إسلامي، مثلته الدعوة الوهابية، لن يكون في إمكانه صناعة (أو إبداع) هوية وطنية جديدة، من دون الاعتماد على حامل اجتماعي حقيقي، وفاعل على الأرض. هذا الحامل الاجتماعي (المفقود) لا يمكن أن يكون مجرد خطابات إعلامية مكرّرة لمجموعة من النخب الإعلامية الذين هم، في غالبيتهم، أفراد منبوذون في أوساطهم العائلية، فضلاً عن المؤسسات الاجتماعية والدينية في المملكة.
إعادة صناعة “البدوي” باعتباره حاملاً مشروع التغيير والتطوير والانفتاح الاجتماعي والديني في البلاد ليست مهمة سهلة أمام ولي العهد الشاب ومستشاريه، بل تبدو هذه المهمة في تفاصيلها مغامرة غير محسوبة العواقب، وخصوصاً أن لاعبين آخرين لن يكونوا مكتوفي الأيدي قبالة هذا المشروع الذي يعيد توزيع مراكز القوى والنفوذ في الدولة.
في مقدمة هذه المؤسسات، مؤسسة القبيلة وبما فيها مؤسسة الأسرة الحاكمة ذاتها. وكذلك هي المؤسسة الدينية، وفي طليعتها هيئة الإفتاء التي وإن داهنت/ سايرت بعض ملامح التغيير في البلاد اليوم إلا أنها لن تستمر في ذلك أمام مشروعٍ يهدف، في نهاياته، إلى إنهاء وجودها على الأكثر، أو تحجيم فضاء سلطتها في البلاد على الأقل.
لا شك أن “الحضر” الذين كانوا في ذهنية ابن القبيلة “البدوي” والدولة السعودية في توقيت ما، الخطر الداهم ومثال الفسادين القيمي والأخلاقي، هم اليوم الوجه الجديد للدولة المنشودة، والحامل المثالي المفترض لشكل الهوية الجديدة للمواطن السعودي ومضمونها.
فأين سيختفي أبناء القبائل عن الواجهة؟ وكيف يتموضعون في هذا التغيير؟
وهل بالإمكان إنهاء نظام العطايا والامتيازات الخاصة لهذه القبائل، وبما يتضمن إنهاء الاعتراف بنفوذ شيوخها ورجالها، وقدرتهم على التأثير المباشر في الدولة، وأسلوب الأسرة الحاكمة في إدارة الحكم؟
والأهم من ذلك، كيف يمكن تعبئة هؤلاء “الحضر” بهوية جديدة معقدة، تبدو منفتحة في شكل من أشكالها وفق النموذج الإماراتي، لكنها، في التوقيت نفسه، انتقائية، محدودة، ومشروطة بما لا يصل إلى حد المطالبة (أو الترويج) لقيم سياسية أو ديمقراطية هي، في جوهرها، مرادفة وطبيعية ولازمة لأي عملية انفتاح وتغيير في أي تجربة.
لقد تسببت السياسات الداخلية المتشددة عقودا في تحويل مواطنة غالبية “الحضر” المُهمشين في مناطق الحضر، خصوصاً في ساحل الخليج العربي والبحر الأحمر، إلى مواطنة من الدرجة الثانية؛ يشمل ذلك الشيعة والإخوان المسلمين والمواطنين من أصول أجنبية من سكان المنطقة الغربية خصوصاً.
اليوم يحتاج ولي العهد محمد بن سلمان لهذه الجماعات في مقدمة مشروعه الجديد؛ فهم الفئة الاجتماعية الأكثر استعداداً وحماسة للقبول بهذا التغيير وتبنيه.
لكنه، وفي التوقيت ذاته، أبعد مواطنيه عن مفاصل الدولة ومؤسساتها وعن مراكز صنع القرار فيها. فهل يذهب الأمير الشاب إلى سياسة “إحلال” على النموذج الأردوغاني مع جماعة فتح الله غولن؟ من يدري؟
محدّدات عدة تربط الدولة السعودية منذ نشأتها ومؤسسة القبيلة التي تحالفت معها، وكانت عمودها وخط الدفاع الأول عنها. ومن أهم هذه المحدّدات التوافق القيمي والأخلاقي والثقافي بين القبيلة والدولة، فإذا كانت الدولة قد اختارت تغيير/ تحديث/ تطوير مجموعة القيم الدينية والثقافية والأخلاقية التي تتبناها، فهل تبدو القبيلة في السعودية مستعدة لمجاراة هذا التغيير وتبينه؟
الشكوك كبيرة، خصوصاً مع إعلان السلطات السعودية يوم 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري اعتقال 22 مواطناً من منطقة حائل، شمال غرب البلاد، على خلفية مظاهرات احتجاجية لقبيلة شمّر على زواج أحد أبناء قبيلة الرشايدة من فتاة "شمرية"، بدعوى عدم تكافؤ النسب!
* عادل مرزوق كاتب بحريني
المصدر | عادل مرزوق | العربي الجديد