في السنوات الأخيرة بنيت للسعودية في اسرائيل صورة المملكة المعتدلة زعيمة معسكر الاخيار اما عمليا فهي مثيرة للحروب.. وداهية ومصلحية
بقلم: جاكي خوجي
كالصورة التي جمعت أطرافها، او الاحجية المصنوعة من قسمين فقط، أنهى هذا الاسبوع ثنائي وزراء الكابنت الواحد أقوال الآخر، ومنحا الجمهور في إسرائيل معلومة مشوقة مأخوذة من واقع موازين القوى الاقليمية.
بداية كان هذا وزير الدفاع افيغدور ليبرمان، الذي ظهر يوم الاحد في مؤتمر ميونخ للامن. فقد وصف افيغدور ليبرمان بتوسع أسس النشاط الاستخباري لايران في الشرق الاوسط. وفي احاديثه ضمن قلقا على دولة ثالثة، بعيدة، ليس لاسرائيل أي علاقات رسمية معها. “يحاولون خلق الفوضى في كل مكان”، اشتكى ليبرمان من الايرانيين، “وهدفهم الاساس هو السعودية”.
منذ متى كان يهتم وزير الدفاع في دولة إسرائيل لمعاناة السعودية؟ الجواب قدمه في الغداة رفيقه في الكابنت، وزير شؤون الاستخبارات اسرائيل كاتس. “نعم، يوجد تعاون بين اسرائيل وبين هذه الدول، ما لا يمكن الدخول في تفاصيله”، اعترف كاتس. “فهذا التعاون آخذ في التطور جدا، كون الولايات المتحدة تتجه نحو قيادته. والهدف الاول هو صد ودحر ايران الى خارج المنطقة”.
محقان هما الوزيران: فالجهود الايرانية للعمل ضد اسرائيل تبلغ هذه الايام ذروتها. فالايرانيون، يشجعهم نجاحهم المشترك لانقاذ نظام الاسد في سوريا، تفرغوا لاعلان حرب صامتة على اسرائيل. وعملهم متفرع. في قطاع غزة يساعدون الذراع العسكري لحماس بالسلاح والمال. وعلى حدود الشمالية يعملون بلا هوادة لملء مخازن السلاح لدى حزب الله بصواريخ نوعية جدا، صواريخ كفيلة بالحاق الهزائم في ميدان المعركة للجيش ولسلاح الجو الاسرائيليين. فبعد عقد ونيف من حرب لبنان الثانية، آخذة في البناء في لبنان قوة بنوعية ومستوى جيش دولة.
“توجد أمور كثيرة لا تعرفها اسرائيل عن قدرات المقاومة”، قال باستفزاز هذا الاسبوع نعيم قاسم، نائب حسن نصرالله في مقابلة تلفزيونية، “هذه القدرات مختلفة وافضل مما كانت في حرب لبنان الثانية”. قبل أكثر من سنتين حاولت ايران ان تبني غرفة حربية للنشاطات ضد اسرائيل في ساحة ثالثة، في القسم السوري من هضبة الجولان. وقد قتل ضباط ايرانيون كبار اقتربوا من منطقة الحدود في هجوم نسب لاسرائيل.
“عندنا ثلاث مشاكل لنواجهها”، أجمل هذا الاسبوع وزير الدفاع امام حاضري المؤتمر الدولي في ميونخ، “ايران، ايران وايران”.
في الخطاب الجماهيري في اسرائيل تحتل ايران مكان العدو الفاعل. أما للسعودية، بالمقابل، فقد بنيت صورة معتدلة: زعيمة معسكر الاخيار. الرياض ليست بالفعل عدوا علنيا لاسرائيل ولا تدعم مباشرة مجموعات وفصائل تعمل لنزف دمائها. ولكن عرض الصورة باللونين الاسود – الابيض بعيد عن الواقع.
المبادرة السعودية
يتخذ النظام السعودي أعمالا تآمرية في الشرق الاوسط لا تقل تطورا عن أعمال ايران. ففي لبنان يقفون خلف الطائفة السنية وممثلها الكبير، رئيس الوزراء سعد الحريري، صاحب الجنسية السعودية. ولكلمتهم مكان شرف في كل تطور سياسي هام يجري في بيروت، بقدر لا يقل عن ايران. في اليمن هم غارقون منذ اكثر من سنتين في معركة عسكرية مضرجة بالدماء ضد الميليشيا الشيعية الحوثية. هذه معركة معظمها تدور من الجو، واحيانا يكون ضحاياها مواطنين ابرياء.
في العراق أيدوا منذ البداية تنظيم القاعدة، الذي اقامه بقايا حزب البعث ورجال صدام، في مسعى لخلق وزن مضاد للنفوذ الايراني. والبحرين هي الاخرى ساحة عمل بالنسبة لهم. هناك يحكم قصر سني سكانا باغلبية شيعية مظلومة، تتحداه كل الوقت، واحيانا بتشجيع من ايران. ويمنح السعوديون صديقهم، الملك حمد بن عيس آل خليفة، مساعدة مستمرة ضد معارضي الحكم من بين السكان الشيعة، ولا سيما في المجال العسكري والاستخباري.
ولكن القسم الاكبر من بين عشرات المليارات التي خصصت لنشاطها الخارجي صرفتها الرياض في السنوات الاخيرة في سوريا. فالسعودية هي عمليا المثيرة الاساس للحرب لاسقاط بشار الاسد. ففي صيف 2011، منذ بداية المعركة تقريبا، قرر السعوديون اسقاطه مهما حصل. ولهذا الغرض اقاموا بأموالهم ميليشيات وفصائل موالية من بين السكان السوريين وزودوهم بالسلاح والتدريب العسكري. وخطط مبعوثو الاستخبارات العسكرية وصمموا السياسة العملياتية لمبعوثيهم في صراعهم ضد النظام. وفي المراحل التالية انضمت دول اخرى لدعم الثوار، وبينها قطر، تركيا واتحاد الامارات. ولكن العلم رفعه السعوديون. ولولا اعلان الحرب على دمشق من جانب ذاك التحالف السني، لما كان تطلب من الاسد الدفاع عن نفسه بطريقته غير المساومة، وهكذا كانت ستوفر حياة مئات الاف المواطنين الابرياء، الذين ذبحوا او هجروا بيوتهم.
“جلبتم كل العالم للقتال في سوريا”، اتهم نصرالله السعوديين في احد خطاباته قبل سنتين، “فقط كي تسقطوا الاسد والنظام. دمرتم سوريا، قتلتموها، ذبحتموها، وترفضون كل حل سياسي هناك”. في ذاك الخطاب لم يعفِ كارهي نفسه من اثبات تدخلهم في العراق بعد صدام: “من بعث اليه بالانتحاريين ومول عمليات القتل في بغداد والمدن العراقية، العمليات التي لم تميز بين العرب، الاكراد، المسيحيين، السنة، الشيعة والتركمان – هي الاستخبارات السعودية”.
في المراحل الحرجة من الحرب في سوريا بدا وكأن خطة الرياض تحقق النجاح، ونظام البعث آخذ في الانهيار. ولكن عندها هرع لنجدة الاسد حزب الله وايران، اللذين سفك دماء أبنائهما في الجهود للدفاع عنه وفي المرحلة الثانية روسيا ايضا، التي انقذت دمشق من الانهيار التام، حاليا على الاقل. وكل هذه السنين كلف السعوديون واخوانهم القطريون أنفسهم العناء، بمثابرة كبيرة، كي يبنوا للاسد صورة الطاغية الذي يصفي بمنهاجية ابناء شعبه، وذلك بفضل هيمنتهم على وسائل الاعلام والقنوات الفضائية الناطقة بالعربية. النظام السوري الطاغية أدار بالفعل حرب إبادة ضد المواطنين الذين يتجمعون في فصائل، حربا تضمنت ايضا إبادة المباني على سكانها. ولكن الصورة الاعلامية التي بناها السعوديون والقطريون، اخفت دورهم في تمويل وتأسيس جماعات الثوار، التي أجبرت الاسد على القتال بلا مساومة.
يشكل التآمر السعودي في جملة الساحات هذه صورة مرآة للتدخل الايراني في الارهاب وفي اضعاف الانظمة. ولكن السعوديين، بخلاف الايرانيين أغنى من الايرانيين، دهاة بقدر لا يقل عنهم، وبالاساس – يتمتعون بالموافقة الصامتة من جانب الغرب لكل افعالهم. وفي الغالب يعملون بهدوء، من خلال شد الخيوط من بعيد، ومن خلال المرتزقة.
يوجد في إسرائيل من اعتقدوا على مدى سني الحرب في سوريا، بان اسرائيل تكسب من الحملة العسكرية المصممة التي ولدت في العراق لاسقاط الاسد. اما الواقع فيثبت العكس. على اسرائيل ان تبعث باكاليل الورود لكل المشاركين في انقاذه. لو كانت دول الخليج – اصدقاءنا حسب الوزير كاتس، أليس كذلك؟- تنجح في خطتها لاسقاط النظام في دمشق، لولد على مدخل دولة اسرائيل عراق ثانية. أحد ما كان ليمنع داعش من الوصول الى الحدود الشمالية في هضبة الجولان، والعمل من هناك دون عراقيل ضد البلدات الاسرائيلية. ساحة اخرى كانت ستفتح، تشبه تلك التي في سيناء.
كما أن التهجمات التي تصدر بين الحين والاخر على ألسنة وزراء اسرائيليين عن وضع حقوق الانسان في ايران هي استخفاف بعقول السامع الاسرائيلي. فلم يولد بعد الوزير الاسرائيلي الذي يهمه حقا وضع المواطنين في ايران. واذا كان يؤلمهم وضعهم، فليتفضلوا بالاهتمام ايضا بوضع حقوق الانسان المتهالك في السعودية. نظرة الى هناك ستبين مملكة على نمط لويس الرابع عشر التي تدار منذ تسع عقود من ذات العائلة، التي تنقل التاج بين ابنائها من يد الى يد وكأنه مُلكهم الخاص. فليس فيها برلمان منتخب، بل “مجلس استشاري” يعين اعضاءه الملك، وبطبيعة الاحوال لا يوجد اجراء انتخابي لانتخاب الملك واعضاء المجلس التشريعي.
صحيح أن ايران هي النعجة السوداء للغرب، ولكن الحقيقة المريرة هي انه لو كان بوسع مواطني السعودية ان يختاروا – لكان يسعدهم ان يجدوا أنفسهم جزء من الجمهورية الاسلامية الايرانية.
تجربة نتنياهو
اسرائيل ليس فقط من حقها بل ومن واجبها ايضا أن تجري اتصالات سرية مع دول كفيلة بان تساعدها في الدفاع عن نفسها. معقول الافتراض بانه يمكن مع النظام السعودي عقد الصفقات من كل الانواع. ولكن من الافضل لدولة اسرائيل أن تكون هذه الاتصالات جزءا من النقاش الجماهيري. ليس من اجل تلبية فضول الصحافيين، بل منعا للخسائر والهزائم مثلما حصل مع مصر. فعلى مدى أربعة عقود وافقت القدس على طلب القاهرة إدارة العلاقات على شكل العشيق والعشيقة؛ فهذه العلاقات لم تصعد ابدا الى اتفاق سلام، يقدم هدية مناسبة للاجيال التالية، بل بقيت مثابة حلف متهالك. في لحظات الحقيقة كاد ينهار.
صحيح أنه من السابق لاوانه الحديث بالنسبة للسعوديين عن سلام، ولكن لا يوجد ما يدعو لان تدير دولة قوية وديمقراطية في المستقبل منظومة علاقات في الظلام مع نظام طغيان يحتاجها. السعودية ليست قوة قوة عسكرية وسياسية هامة، بل هي نظام مخضرم جدا في المنطقة، يوجد في بداية كفاحه في سبيل بقاء وجوده. ولن نعرف ابدا خريطة مصالحه بكاملها. فيمكن لنا أن نسرق جوادا معه، ولكن ليس له أي مشكلة في نفس الوقت ان يسرق جوادا آخر من اسطبلك.
في أحد الخطابات الاحتفالية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في اثناء ولايته الحالية، شرح بان دولة اسرائيل شهدت في هذه السنوات ثورة في علاقاتها مع دول المنطقة، فهذه الانظمة، التي كانت دوما متسامحة نسبيا تجاه إسرائيل تطلب لنفسها تماثل مصالح عندما تثور العاصفة من حولها.
ليس العدو الايراني المشترك وحده يشجعهم على ذلك، ولكن ايضا دافعين انسانيين بسيطين: الحاجة لايجاد لانفسهم سندا في لحظة الضائقة، والامكانية التجارية الكامنة. فاسرائيل ليست فقط قوة عظمى عسكرية، بل بالاساس تكنولوجية، تجارية ودبلوماسية. فليست فقط الحكومات تسعى الى التقرب منها، بل وحتى السياسيون العرب الذين يتلمسون طريقهم الى هنا سرا، محافل تجارية على أنواعها وأفراد. كل واحد يريد ما ينقصه – من رخصة عمل او مكانة لاجيء، عبر التعاون الاستخباري، اقامة قاعدة لعلاقات مستقبلية وحتى الصفقات بالمليارات.
هذا التيار المتعاظم، الذي يتعرض له رئيس الوزراء وقادة أجهزة الامن، أدى الى تفكير ابداعي. “دوما درجنا على القول” شرح نتنياهو في ذاك الخطاب، “انه في اللحظة التي نتقدم فيها في علاقات السلام مع الفلسطينيين، سيكون بوسعنا الوصول الى علاقات سلام مع العالم العربي كله. ولكني اعتقد أكثر فأكثر بان العملية يمكن أن تتحرك ايضا في الاتجاه المعاكس. وان التطبيع مع العالم العربي يمكن أن يساعدنا في التقدم ايضا في سلام واعٍ، أكثر استقرارا واسنادا مع الفلسطينيين”.
بكلمات أخرى، كشف رئيس الوزراء أن في عقله نضج تفكير بمسار سلمي يتجاوز رام الله. وكان هذا بالون اختبار مشوق، يقوم على اساس تفكير ابداعي، وهدفه انقاذ اسرائيل من العزلة الاقليمية النسبية والاسقاط التاريخي للمقاطعة العربية. غير أن رئيس الوزراء منذ كشف بواطن قلبه، أعلنت العواصم العربية، وعلى رأسها الرياض، بانها ترفض الفكرة. وفي المحادثات التي اجراها ابو مازن مع زعمائها، حصل على بوليصة تأمين. فقد قالوا له: “لن نبيعك” واعلنوا عن رفضهم اقامة سلام دون حل المشكلة الفلسطينية.
لماذا لا تقفز السعودية، المملكة “المعتدلة”، زعيمة العالم السني، لتلتقط هذا العرض المغري؟ السؤال الاصح هو لماذا تقفز. السلام مع اسرائيل، لشدة الاسف، لا يعني السعوديين. ولا أخوانهم في اتحاد الامارات. فهم مشغولو البال في تهديدين وجوديين. من الخارج – ايران، القريبة والخطيرة، ومن الداخل – الاسلام المتطرف. اتفاق سلام مع إسرائيل لا يضمن الراحة للفلسطينيين سيثير هذين التهديدين ويمنحهما الشرعية للعمل ضد الاصدقاء الجدد لاسرائيل أو تشديد الصراع المتوتر على أي حال ضدها. بالنسبة لها، هذا ليس وجع رأس بل خطر حقيقي.
ويوجد سبب آخر للرفض التام للقفز على عربة السلام مع القدس: كل ما تحتاجه السعودية، اتحاد الامارات وجيرانهما الان من إسرائيل، تحصل عليه على أي حال – وفقا للمنشورات الأجنبية، بالطبع.
معاريف 24/2/2017