فشل مؤتمر وارسو لا يعني استسلام قوى الثورة المضادة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 6112
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

د. سعيد الشهابي
 عندما كانت مصر عبد الناصر تقود العالم العربي رافعة شعار القومية العربية والنضال ضد الاستعمار، كانت الولايات المتحدة مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الرأي العام العربي بسبب دعمها الكيان الاسرائيلي ووقوفها ضد حركات التحرر الوطني، ولم يكن للتحالف السعودي ـ الإيراني آنذاك تأثير واسع على ذلك. اليوم عندما اصبح التحالف السعودي ـ الاماراتي مهيمنا على العالم العربي سياسيا واقتصاديا واعلاميا فتح الباب على مصراعيه للهيمنة السياسية والامنية للتحالف الأمريكي ـ الاسرائيلي. وبعد ان اثبت هذا التحالف قدرته على النيل من ارادة التغيير لدى الشعوب العربية بعد ان تصدت لثوراته قبل ثمانية اعوام، توسع نفوذ قوى الثورة المضادة، فلم تعد أمريكا او الصهيونية «صديقة» فحسب بل هرع الكثيرون لخطب ود ذلك التحالف.
وفي العام الماضي تجاوز الوضع هذه الحدود، فاصبح هذا التحالف فاعلا في المشروع السياسي لذلك التحالف، وتصدرت السعودية المشهد لتحقيق امور عديدة: اولها تغيير الاولويات العربية والقناعات الشعبية التي تبلورت على مدى سبعين عاما بضرورة تحرير فلسطين واعتبار الولايات المتحدة «عدوة» للتطلعات العربية والاسلامية، ثانيها: استثمار المليارات النفطية لتحييد اغلب الانظمة العربية وتغيير مساراتها وتحالفاتها السياسية بعيدا عن مشروع التحرير والاستقلال. ثالثها: ممارسة دبلوماسية على الصعيد الدولي لشراء مواقف الدول القريبة مما يسمى «محور المقاومة» المناوئ للسياسة الأمريكية ـ الاسرائيلية في الشرق الاوسط. رابعا: التصدي للمشروع السياسي الاسلامي وضرب حاضناته ورواده.
ضمن هذه المحددات يمكن اعتبار مؤتمر «وارسو» الاخير اول مشروع عملي على طريق صياغة شرق اوسط جديد وفق مقاييس قوى الثورة المضادة واكثر انسجاما مع السياسات الأمريكية ـ الاسرائيلية. المؤتمر دعت اليه الولايات المتحدة وموله المحور السعودي ـ الاماراتي الذي فوضته واشنطن العام الماضي بادارة ملف الشرق الاوسط وفق الاستراتيجية الأمريكية الذي عقد يومي 13 و 14 كان هدفه المعلن: «مناقشة الإرهاب والتطرف، وتطوير الصواريخ وانتشارها، والتجارة البحرية والأمن البحري، والتهديدات التي تطرحها الجماعات العميلة عبر المنطقة“. وفي مطلع فبراير، قال وزير خارجية الولايات المتحدة، مايك بومبيو، إن هدف المؤتمر هو التركيز على «تأثير إيران وإرهابها في المنطقة».
ومع ذلك، وبعد الاعتراض الأوروبي على هذا الغرض، اضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع عن التخطيط لإقامة ائتلاف عالمي ضد إيران. وكان واضحا ان منظمي المؤتمر كانوا يأملون بحشد موقف دولي ضد إيران بشكل محدد، على امل ان يؤدي ذلك لاضعاف «محور المقاومة» المدعوم إيرانيا. وقد اثبتت الوقائع لاحقا ان هذا الطرح كان من اهم اسباب فشل المؤتمر. ومن معالم هذا الفشل ما يلي: اولا عدم حماس اغلب دول العالم لحضوره، فلم يشارك سوى خمسين دولة بتمثيل ضعيف في اغلبه، وقاطعته اغلب الدول الاوروبية بمن فيها المفوضية الاوروبية ووزيرة خارجيتها فريدريكا موجريني. ثانيا: بعد انتهاء المؤتمر نأى العديد من الدول بانفسهم عن هدفه الاساس وهو استهداف إيران بشكل مباشر.
ثالثا: بدت الخلافات بين الجهات الاساسية في المؤتمر في الظهور علنا، وكان اولى الخلافات ما حدث بين بولندا الدولة المضيفة للمؤتمر و «اسرائيل» التي كانت من مخططيه الاساسيين، على خلفية حوادث الحرب العالمية الثانية، بعد ان اتهمت السفيرة الاسرائيلية بولندا بالضلوع في اضطهاد اليهود.
كانت الولايات المتحدة مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الرأي العام العربي بسبب دعمها الكيان الاسرائيلي ووقوفها ضد حركات التحرر الوطني
رابعا: ان المؤتمر لم يستقبل برفض شبه شامل من قبل الشعوب العربية فحسب، بل ربما ساهم في تحريك مشروع مناهضة التطبيع الذي مر بمرحلة جمود مقلق في السنوات الاخيرة نتيجة ضغوط قوى الثورة المضادة.
لقد كانت حماقة مخططي المؤتمر وداعميه من اهم عوامل فشله. فقد كان واضحا منذ اللحظات الاولى لاعلانه انه يستهدف إيران بشكل مباشر واعتبارها «العدو الاول» وليس قوات الاحتلال الاسرائيلية، الامر الذي لم يستسغه الكثيرون. هذا الاستهداف جاء من قبل جهتين لا تحظيان باحترام كبير في الاوساط الاوروبية والدولية، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو. فقد كان خطابهما فاقعا واستعلائيا، يتجاهل قوى النفوذ التفليدية خصوصا اوروبا وروسيا والصين والهند. اغلب هذه الدول يتمتع بعلاقات متوازنة مع إيران، وساهم خمس منها (ومعها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق باراك اوباما) في صياغة الاتفاق النووي مع إيران، وشعرت بخيبة امل وغضب عندما اعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من ذلك الاتفاق. وبرغم فرض عقوبات صارمة على الجمهورية الاسلامية من قبل ادارته إلا ان أوروبا قامت بخطوة غير مسبوقة باقرار آلية نقدية للتبادل التجاري مع إيران تتجاوز الحظر الأمريكي، الامر الذي اغضب ترامب. وكان غضبه واضحا في تصريحاته المتكررة لاحقا. ويمكن القول ان مؤتمر وارسو يضاف الى قائمة المبادرات الفاشلة التي طرحها ترامب منذ استلامه الرئاسة قبل عامين. فقد احدث استقطابا حادا في الكونغرس بسبب اصراره على بناء الجدار على الحدود مع المكسيك، واحدث ازمة في العلاقات الدولية بانسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، ودخل في معركة لا تنتهي مع نشطاء حماية البيئة وحقوق الانسان بانسحابه من اتفاقية باريس ومن مجلس حقوق الانسان. وحتى الآن لم تنجح محاولاته انهاء المشروع النووي لكوريا الشمالية. واعاد الى العالم اجواء الحرب الباردة باعلان عزمه على تفعيل نسخة جديدة من «مشروع الدفاع الاستراتيجي» الذي اصطلح على تسميته في الثمانينيات «حرب النجوم» في عهد رونالد ريغان. وكان من نتيجة ذلك اعلان الرئيس الروسي الاسبوع الماضي استعداده لاستخدام صواريخ نووية اذا ما أصرت أمريكا على تنصيب صواريخ استراتيجية في اوروبا.
مع ذلك لا بد من الاعتراف بان العالم مهدد بالمزيد من النزاعات بسبب اختلال التوازن الاستراتيجي بين القوى التقليدية والعودة الى سباق التسلح واستخدام لغة التهديد والقوة وتراجع لغة الدبلوماسية والاحترام المتبادل. ومن المؤكد ان خروج بريطانيا من اوروبا اضعف دورها الاستراتيجي وفسح المجال امام قوى صغيرة اقل شأنا لممارسة ادوار لا تحسن اداءها. ففي الوقت الذي اصبح ترامب مدافعا شرسا عن «اسرائيل» تمارس بريطانيا دورا مشابها، وذلك بتصديها للدفاع عن السعودية بشكل غير لائق. فقد عبرت عن انزعاجها من القرار الالماني بالتوقف عن تزويد السعودية بالسلاح وتجميد صفقة لبيعها 48 طائرة «تايفون» وشجعت على تخفيف حدة انتقادات السياسة السعودية. كما كانت من الدول الاوروبية القليلة التي حضرت مؤتمر وارسو ممثلة بوزير خارجيتها. ولا يبدو ان بريطانيا منزعجة من توسع الدور السياسي للتحالف السعودي- الاماراتي. فقد صمتت على اختراقه الحدود مع البحرين في منتصف آذار/مارس 2011، وما تزال تدرب اجهزة الامن في السعودية والبحرين، وتعترض اية محاولة دولية لشجب اي منهما. وفي غياب المحاسبة الدولية لممارسات الرياض والمنامة بحق شعبيهما، حتى بعد مقتل خاشقجي وفتح ملفات التعذيب في البحرين خلال اعتقال الرياضي حكيم العريبي في تايلاند، وفي ظل استمرار سجن النشطاء الاماراتيين، تشجع التحالف لتوسيع دوره الدولي ضمن الاستراتيجية الأمريكية ـ الاسرائيلية.
هذا هو جوهر النشاط الدبلوماسي المحموم من واشنطن الى تل ابيب، مرورا بوارسو فالرياض فابوظبي، وصولا الى اسلام آباد ودلهي وبكين. حرب ارادات تاريخية ما تزال الشعوب العربية والاسلامية مغيبة عنها، فهل تستوعب هذه الشعوب فحوى هذا الصراع ام تبقى مخدرة تحت تأثير الدولار النفطي؟

كاتب بحريني