الهدوء الذي يسبق العاصفة: انعكاسات مقتل خاشقجي على الساحة الامريكية

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2003
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

د. هشام أحمد فرارجة
 تسود الولايات المتحدة هذه الايام حالة من الترقب الشديد حيال كيفية انعكاسات مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي الذي كان يعمل في صحيفة الواشنطن بوست، في القنصلية السعودية في اسطنبول، على واقع السياسة الامريكية، بشكل عام، والانتخابات التشريعية النصفية المقبلة، بشكل خاص.
فمن ناحية، يلحظ المراقبون احتدام الجدل بين المدافعين عن الابقاء على العلاقات الامريكية—السعودية على متانتها، كما يفعل الرئيس الامريكي، دونالد ترامب، والداعين لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية صارمة على الحكومة السعودية، بما في ذلك العمل على عزل ولي العهد الحالي، الامير محمد بن سلمان من منصبه، كما ينادي بذلك زعيم الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ليندزي غراهام، وأقطاب اخرى هامة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ومن ناحية ثانية، يبدو أن هذه القضية، بما فيها من أبعاد انسانية وقانونية، قد ساهمت في العصف بحالة التراص والتماسك التي سادت الحزب الجمهوري مؤخرا، خاصة عند التصويت على اختيار مرشح ترامب لمحكمة العدل العليا، بريت كفانو. وعلى ما يبدو، فان التوافق الذي صبغ تصريحات أعضاء الكونغرس الجمهوريين وأركان البيت الابيض في الماضي القريب قد أخذ يتبعثر، ويتحول الى تراشق بالعبارات وتسجيل للمواقف. فترامب يسعى الى تبرئة النظام السعودي، رغم كل ما توفر من معلومات وبيّنات حول عملية القتل البشعة حتى الآن. وترامب يرى ضرورة تغليب المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة مع السعودية، بما يتعلق منها بالمبيعات الامريكية للسلاح، والحصول على النفط السعودي وسواه، على أية اعتبارات انسانية، أو قانونية، أو غيرها. وهو كان قد أوضح أثناء حملته الانتخابية وبعد أن تسلم الرئاسة بأنه يحب السعوديين لانهم قد أبرموا معه، كمقاول للعقارات، عقودا بمبالغ طائلة لبناء وشراء الشقق، بمئات الملايين من الدولارات. وكما تساءل ترامب مستنكرا: كيف له أن لا يحبهم؟ وهو الذي يرى في السعودية بئرا لا ينضب من المال، يجب نهله باستمرار. وهو الذي اختار السعودية كدرة زيارته الخارجية الاولى بعد توليه منصب الرئاسة. وهو الذي تربط بين صهره ومستشاره الخاص لشؤون الشرق الاوسط، جاريد كوشنر، وولي العهد السعودي الحالي، الامير محمد علاقة استثمارية فريدة. وهو الذي يرى، بالاشتراك مع كوشنر وبنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلية، في ولي العهد السعودي ركيزته الاساسية لترجمة خطته المعروفة بصفقة القرن بهدف الاجهاز على القضية الفلسطينية. ولذلك، لم يكن مفاجئا كثيرا بأن سارع ترامب لالتماس الاعذار للحكومة السعودية والدفاع عنها في وجه ما تتعرض له من انتقادات حادة في مختلف أرجاء العالم.
وبالمقابل، فان قصة قتل خاشقجي قد فعلت ما لم تستطع فعله سياسيات سعودية اخرى، تصدرها ولي العهد نفسه، كحرب الابادة الدائرة في اليمن وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لاكثر من أربعة أعوام، وتوتير العلاقات مع جميع جيران المملكة ، تقريبا، لا سيما الحصار الجائر على قطر، وزعزعة استقرار المنطقة وسوريا بدعم الحركات الارهابية المسلحة فيها، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري أثناء زيارة رسمية له للرياض، وقمع الحريات الشخصية داخل المملكة والقبض على الاثرياء والامراء وتجريدهم من بعض أموالهم، بحجة مكافحة الفساد.
فحادثة القتل هذه أحدثت زلزلة في الوجدان والوعي الامريكي أكثر من كل الممارسات الاخرى مجتمعة، كون خاشقجي كان صحفيا، ويعمل في احدى كبريات الصحف الامريكية، وكونه كان مقيما في الولايات المتحدة، وكونه، رغم ارتباطه السابق بنظام الحكم السعودي وعمله كمستشار في السفارة السعودية في واشنطن، أخذ ينادي باحترام الحريات الاساسية في بلاده. فهذه القصة أصبحت الشغل الشاغل للاعلام الامريكي، بمختلف مؤسساته. والتحليلات التي توجّه اللوم لترامب لا تنقطع، كون ترامب يطعن دائما بمصداقية الاعلام ويصفه بعدو الشعب. وبعض الاصوات الناقدة لترامب تحمله جزءا من المسؤولية عن حادثة القتل، نظرا لدعمه غير المشروط لولي العهد، رغم كل ممارساته، وأيضا بسبب اطلاق العنان لصهره، كوشنر لكي يدير دفة العلاقة مع السعودية، في الوقت الذي لا يمتلك مؤهلا للوقوف على هذه العلاقة المتشابكة، سوى تطلعه لتحقيق المزيد من الارباح وابرام الجديد من عقود الاستثمارات الاقتصادية والسياسية.
يتضح مما سبق أن واقعة مقتل خاشقجي قد تشكل القشة التي سوف تقصم ظهر البعير في مناحي متعددة. فالعلاقات الامريكية—السعودية لن تبقى على ما هي عليه الآن. ومقاطعة العديد من المسؤولين الامريكيين ومدراء الشركات وأصحاب الاستثمارات والمشاريع لقمة الاستثمار في المستقبل، بما عرف بدافوس الصحراء مؤشر صارخ، وليس ذات أبعاد عابرة. ومستقبل ولي العهد الحالي كملك للسعودية قد اسدل عليه الستار، في الغالب، ما لم يتم ابرام صفقات على أعلى المستويات لانقاذ الموقف لصالحه، ولو مؤقتا. ولا شك أن الامير السعودي في هذه المرحلة يتعلق بقشة كالغريق، حيث سارع الى ايداع ما يقرب من مائة ميليار دولارا في الخزينة الامريكية، بحجة الستيفاء العقود لشراء السلاح، تماما أثنياء زيارة وزير الخارجية الامريكي، مايك بمبايو للمملكة. ومن ناحية ثانية، فان تظاهر الحزب الجمهوري كوحدة متماسكة لم يعد ممكنا، خاصة بعد بروز مواطن شرخ كثيرة في المواقف الى السطح. وما المشادة بين مستشار الامن القومي الامريكي، جون بولتون ومدير شؤون الموظفين في ادارة ترامب، جون كيلي في أروقة البيت الابيض
التي تناقلتها وسائل الاعلام مؤخرا سوى مؤشر صارخ على عمق الازمات داخل الحزب الجمهوري وحاجة المختلفين فيما بينهم للتنفيس عن أنفسهم، حتى قبل أن تبدأ عملية جلد الذات الفعلية بعد الانتخابات النصفية التي قد تخيّب آمالهم، في غالب الظن. وحفاوة النصر التي شعر بها ترامب بعد نجاحه في ايصال كفانو الى المحكمة العليا لم تعد تفي بالغرض. فمستشعرا كيف يمكن لهذه القضية أن تلقي بظلالها على الانتخابات النصفية، فان ترامب نفسه بدأ يقر بما قد تفضي عنه هذه الانتخابات من اخفاقات للحزب الجمهوري. وهو أخذ يمهّد الطريق لتبرئة نفسه من المسؤولية عن هذه الاخفاقات المحتملة، ويلوّح بتحميل المسؤولية لغيره، على غرار ما يفعل عادة.
ولسوء حظ ترامب، فان واقعة قتل خاشقجي جاءت في أسوأ توقيت له، عشية اجراء الانتخابات النصفية التي يعوّل عليها آمال عمره. فلا شك أن الكثيرين ممن كانوا ينوون التصويت لصالح الحزب الجمهوري، دعما لترامب، سوف يتوقفون عن فعل ذلك بسبب مواقفه وتصريحاته المهادنة للحكومة السعودية بعد حادثة القتل. وهنا تختلط في الذهنية الامريكية الصورة النمطية الكارهة للعربي، والتي تنظر اليه كقاتل متوحش، مع الحقائق المكشوفة حتى الآن حول بشاعة عملية قتل خاشقجي. وهذا الاختلاط لن يخدم ترامب، ولا حزبه الجمهوري في الانتخابات النصفية، خاصة اذا ما عاد يطفو على السطح ما قد يكون للسعودية من علاقة ببعض من قاموا بشن الهجمات الارهابية في الحادي عشر من أيلول، عام 2001.
ولكن الاكثر ازعاجا لترامب هو ما بدأ يرشح عن بعض وسائل الاعلام والمعلومات الامريكية باستعداد المحقق الخاص بشبهات ترامب، روبرت مولر لتوجيه مجموعة جديدة من الادانات القانونية لعدد من المتورطين من فريق ترامب الانتخابي، وباستعداده أيضا لاصدار تقريره قبيل نهاية هذا العام. فعادة، لا يرشح عما سيقوم بفعله مولر شيء مسبقا أبدا. وكون هناك تمهيد ما لما قد يصدر عن فريق مولر من ادانات ومعلومات، لا شك يعد ترامب بعاصفة مدوية، قد لا تبقي ولا تذر.
لقد أهدر ترامب فرصة ذهبية لمعالجة حكيمة لازمة مقتل خاشقجي، بحيث كان بامكانه استقطاب الكثيرين، حتى من معارضيه الى جانبه، لو قام بتغليب الاعتبارات الانسانية على مصالحه الاقتصادية الشخصية، كما يعتقد الكثيرون. وعلى ما يبدو، بالفعل، فان مصير ولي العهد السعودي الحالي يرتبط ، عضويا، بمصير ترامب. فالمصير السياسي لكل منهما يبدو موضوعا على المحك. وأحلام الامير بن سلمان ليصبح عاهل بلاده قد تكون ذهبت أدراج الرياح. وفي هذا الخصوص، ما أشبه اليوم بالامس. فحيث اعتقد الامير بن سلمان أن انفتاحه على اسرائيل وأقطابها في واشنطن سوف يشكل صمام أمان له، فقد تخيب توقعاته. وكأن القدر المحتوم يبيّن أن كل من يقترب من الاسرائيليين والامريكيين عنوة تذروه الرياح، تماما كما حدث مع شاه ايران الذي لم تستقبله الولايات المتحدة عند الاطاحة به، وكما حدث مع ماركوس الفلبين، وسعد حداد لبنان، وكذلك بشير الجميّل في لبنان. وما أن توطدت العلاقات بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع اسرائيل، حتى سرّع ذلك في طي صفحة ذلك النظام.
ولذلك، فانه ليس مبالغة القول أن حالة السكون النسبي التي تلبد الاجواء الآن هي بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. فواضح أن كلا من ترامب وابن سلمان ينتظر كل واحد منهما خريف مكفهر، قد تتساقط فيه أوراق كثيرة، ربما أسرع مما يتوقع.
د. هشام أحمد فرارجة – استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية