معضلة الرياض في لبنان.. اتفاق الطائف بوابة عودة النفوذ السعودي
سلطت الزميلة في معهد واشنطن، حنين غدار، الضوء على تاريخ العلاقات بين المملكة العربية السعودية ولبنان وتباينها بين الصداقة والعداء، والجمع بينهما في وقت واحد أحيانا، مشيرة إلى أن هذا النمط من العلاقات جعل السعودية في مأزق.
وذكرت حنين، في مقال نشرته بموقع معهد "هوفر" الأمريكي وترجمه "الخليج الجديد"، أن السبب الرئيسي وراء خيبة الأمل السعودية في لبنان هو قوة حزب الله وراعيه الإيراني، ومع ذلك، فقد كانت المملكة تعاني أيضًا نوعًا مختلفًا من الاستياء، ينبع من خداع أقرب حلفائها اللبنانيين.
وفيما يلي نص المقال:
لم تعد السعودية تعتبر لبنان أولوية، فاليمن وأمن الخليج وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية لها الأولوية، لكنها لا تزال غير قادرة على التخلي عن لبنان بالكامل.
وتسير المملكة على خط رفيع بين عدم ارتياحها إزاء سيطرة إيران المتزايدة على الدولة اللبنانية ورغبتها في مساعدة بلد هش، يحتفظ، على الأقل، بأهمية عرضية بالنسبة للمجتمع الدولي.
تاريخ موجز لخيبة الأمل
كان اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام 1990، بمثابة بداية التدخل السعودي، حيث ضخت المملكة مليارات الدولارات لإعادة إعمار البلاد ومواجهة النفوذ المتزايد للنظام الإيراني.
وتمكن رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، الذي اعتبرته المملكة مواطنًا مخلصًا لكلا البلدين، من تحقيق الخطة السعودية في لبنان، والتي ركزت على إعادة الإعمار والاستثمارات وتطوير القطاع المالي، مع القليل من الاهتمام بالتاريخ الجماعي للحرب، والصراع الطائفي، أو الهيمنة السورية المتنامية في لبنان.
وعندما أدرك الحريري أخيراً صعوبة الموازنة بين الأجندة السياسية السورية الإيرانية في لبنان وخططه الاقتصادية والتنموية الخاصة، اغتاله حزب الله في عام 2005، ما أدى إلى احتجاجات حاشدة وتشكيل ائتلاف 14 آذار/مارس.
وحظي هذا التحالف السياسي بدعم كبير، مالياً وسياسياً، من قبل السعودية، التي كانت تأمل أن يواصل الابن، سعد الحريري، عمل والده، لكن هذه الآمال سرعان ما تحطمت عندما قرر سعد التوصل إلى تسوية مع حزب الله.
وفي الوقت نفسه، تعرضت قيادة 14 آذار/مارس للاغتيالات والتهديدات، مع تزايد انزعاج السعودية بسبب نفوذ إيران المتزايد وقوتها العسكرية في الخليج واليمن. وأصبح لبنان مخيبا للآمال، وانتقل إلى ذيل أولويات السعودية في المنطقة.
وخسر الحريري الدعم السعودي، لكن المملكة لم تعد مهتمة بإيجاد بديل أو تمكين ما تبقى من تحالف 14 مارس/آذار.
وفاز حزب الله وحلفاؤه في الانتخابات النيابية عام 2018، واستولى على معظم القرارات الأمنية والمالية والسياسية في لبنان، ما أدى بالبلاد إلى انهيار مالي.
وكانت الفجوة داخل المجتمع السني مغرية أيضاً، وقد نجح حزب الله في التسلل إلى الأجزاء الأكثر ضعفاً في ذلك المجتمع.
وعلى الرغم من القرار السعودي بالانسحاب من المشهد السياسي اللبناني، واصل حزب الله تحدي المملكة بتصريحات نارية، واتهمها بدعم تنظيم الدولة في سوريا، ثم قصف المملكة ودول الخليج الأخرى بشحنات متعددة من الكبتاجون، مهربة داخل المنتجات الزراعية اللبنانية.
وبعد عدد من المناوشات الدبلوماسية، وحظر الواردات اللبنانية، وانسحاب سفراء دول مجلس التعاون الخليجي، تجد السعودية نفسها على مفترق طرق: إما الاستمرار في مساعداتها السياسية والإنسانية المحدودة للبنان، أو تجاهل هذا البلد المزعج وترك اللبنانيين يحصدون عواقب الهيمنة الإيرانية على بلادهم.
منظور طويل المدى
وفي الشهر الماضي، جددت السعودية وعدد من دول الخليج دعوتها لمواطنيها إلى مغادرة لبنان. ورغم أن هذا التحذير جاء مباشرة بعد جولة عنيفة من الاشتباكات التي اندلعت في مخيم عين الحلوة للاجئين في صيدا، إلا أنه ينبغي النظر إليه في سياق منظور سعودي أوسع بشأن لبنان، أي استمرار الضغط السياسي على النخبة السياسية في لبنان.
ويبدو أن هذا جزء من السياسة السعودية الحالية في لبنان: الحب القاسي، أو الضغط السياسي الذي لا هوادة فيه على القادة السياسيين اللبنانيين، على الرغم من الاتفاق الأخير الذي تدعمه الصين بين المملكة وإيران.
وبالنسبة للقيادة السعودية، لم يستفد لبنان - وربما لن يستفيد - من أي تسوية إقليمية ما لم ينفذ الإصلاح ويتوصل إلى تفاهم مع صندوق النقد الدولي.
فلبنان بحاجة إلى الاختيار بين التبعية لإيران وهويته العربية، وهذا هو المبدأ الذي يحكم مشاركة السعودية في الجهود الدولية الأخيرة للضغط على لبنان لانتخاب رئيس وإنهاء الفراغ المؤسسي.
وافقت السعودية وقطر ومصر والولايات المتحدة وفرنسا مؤخراً على المشاركة في عملية اختيار الرئيس اللبناني، بعد مسعى فرنسا الفاشل والمثير للقلق، الذي أدى مؤقتاً إلى تقدم مرشح حزب الله للرئاسة، سليمان فرنجية.
ولا تدعم أي من هذه الدول مرشحاً محدداً، ولكن من الواضح أن الرئيس الجديد لا يمكن أن يكون حليفاً لحزب الله، ويجب أن يكون قادراً على تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاح. وبالنسبة للسعودية، من الضروري أيضًا تنفيذ اتفاق الطائف بعد سنوات من التأخير والتردد.
تنبع الحاجة الملحة لتنفيذ الاتفاق من الخوف المشروع من خطط حزب الله لتغيير الدستور، وإعادة هيكلة تقاسم السلطة في لبنان، وفرض تقسيم ثلاثي للبرلمان يحصل بموجبه الشيعة على ثلث المقاعد بدلاً من ربعها.
وفي ظل سلاح حزب الله وهيمنته على المجتمع الشيعي، فإن الحصول على المزيد من المقاعد في البرلمان يعني سيطرة إيرانية أكبر على مؤسسات الدولة.
ومن شأن مثل هذه التغييرات أن تؤثر على تشكيل أي حكومة جديدة، بما في ذلك التعيينات السياسية والأمنية، ما لا يترك أي مجال لمقاومة الهيمنة الإيرانية.
ومن الممكن أن يكون تنفيذ اتفاق الطائف وسيلة لعرقلة خطط حزب الله لإعادة هيكلة تقاسم السلطة في لبنان؛ أي منع إيران من التأثير على هوية لبنان وديناميكياته السياسية.
هناك عدد من البنود الحاسمة في الاتفاق التي لم يتم تنفيذها، وإذا تم تنفيذها، فمن الممكن أن تعمل على تمكين مؤسسات الدولة والقضاء على الانقسامات السياسية الطائفية، بالإضافة إلى إضعاف حزب الله وحلفائه. وبالنسبة للسعودية، هذه مواجهة وجودية تتجاوز الرئاسة بكثير، ولكنها يمكن أن تبدأ بها.
على أية حال، من المؤكد أن السعودية لن تعود أبداً إلى سياسة "دفتر الشيكات المفتوح" في لبنان، أي ضخ المليارات في ذلك البلد دون شروط أو نتائج فورية.
لقد ولت تلك الأيام، وإذا قررت السعودية تأييد لبنان مرة أخرى، فإنها ستطالب بالنتائج: تراجع جذري في نفوذ إيران في لبنان، وتنفيذ اتفاق الطائف، وتنفيذ القرارات الدولية، وخاصة قرار مجلس الأمن 1701، وإصلاحات جدية من خلال برنامج صندوق النقد الدولي.
لن تدعم السعودية لبنان دون شروط بعد الآن، ومع ذلك فقد تستثمر في لبنان، وأي تقدم سيكون مشروطا بتنفيذ اتفاق الطائف.
دور الولايات المتحدة
وينبغي أيضاً أن يكون تنفيذ الإصلاحات وإضعاف حزب الله في لبنان من أولويات الولايات المتحدة. وسواء أبصر الاتفاق السعودي الإسرائيلي، الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، النور قريباً أم لا، فإن السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة ستظل ترى أن حزب الله في لبنان يشكل تهديداً لمصالحها.
لن تؤثر الاتفاقيات السعودية مع إسرائيل أو إيران أو الصين أو روسيا على سياستها تجاه لبنان، لكن هناك عامل واحد سيؤثر عليها، وهو دور الولايات المتحدة الأكثر قوة في لبنان.
والولايات المتحدة هي أكبر جهة مانحة للبنان اليوم. ومنذ عام 2010، تجاوزت المساعدات الأمريكية للبنان 4 مليارات دولار، لكن لم تكن هناك سياسة واضحة تجاه لبنان تتجاوز المساعدات الأمنية والإنسانية، بالإضافة إلى عدد من العقوبات المحددة.
فقد تم تفويض معظم الجهود من أجل التغيير في القيادة اللبنانية إلى فرنسا، التي يمثلها اليوم مبعوثها الخاص، جان إيف لودريان.
وقد تقرر السعودية تعزيز جهودها في لبنان إذا كانت هناك سياسة أمريكية واضحة ونهج أكثر عملية، خاصة إذا كانت هذه السياسة الأمريكية تتضمن التصدي للمصالح الإيرانية.
ويمكن أن تشمل مثل هذه السياسة، على سبيل المثال، المزيد من العقوبات ضد حلفاء حزب الله السياسيين ومجتمع الأعمال التابع له، وكشف روابط حزب الله بالحوثيين أو بعض الجماعات المرتبطة بإيران في الخليج.
وإضافة لذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على الحد من تهريب الكبتاجون وكذلك تجنيد حزب الله الأخير للمقاتلين السنة في لبنان والمخيمات الفلسطينية.
لا شك أن هناك عيوباً في اتفاق الطائف، فعلى سبيل المثال، تم نزع سلاح جميع الميليشيات، لكن حزب الله حصل على استثناء، وتم التعامل معه على أنه "قوة مقاومة" وليس ميليشيا، لمحاربته الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.
كما اعترف الاتفاق بالقضاء على الطائفية السياسية كأولوية وطنية، لكنه لم يحدد إطاراً زمنياً لتحقيق هذا الهدف، بينما أقر في الوقت نفسه تقسيماً طائفياً للسلطة في البرلمان.
كما تعامل الاتفاق مع النظام السوري باعتباره وسيط السلطة في لبنان بعد الحرب، وهو الدور الذي أساء النظام استغلاله ومدده حتى عام 2005.
وعلى الرغم من هذه العيوب، فإن الاتفاق يحتوي على عناصر معينة يمكن للولايات المتحدة تسليط الضوء عليها وإيجاد أرضية مشتركة بشأنها مع السعودية.
على سبيل المثال، يتضمن الاتفاق مصطلحات تهدف إلى الإصلاحات، واستقلال القضاء، واللامركزية الإدارية، وقانون انتخابي جديد وغير طائفي، وتشكيل مجلس الشيوخ.
يعد تحديث اتفاق الطائف أمراً حيوياً، لكن البداية قد تكون المزيد من تنفيذ أحكامه الحالية. وقد تسهل مثل هذه الإصلاحات عودة الدعم السعودي، وإلا فإن لبنان سيستمر في الانجرار إلى فلك إيران، مع أولوية التشيع السياسي وترسيخ هيمنة حزب الله.
المصدر | حنين غدار/معهد هوفر - ترجمة وتحرير الخليج الجديد