العرب يكرّرون الأخطاء: أي شرق أوسط بعد غزة؟
عينُ أميركا مركّزة صوب فرضيات «اليوم التالي»، وسؤاله الرئيس: إمكانية إخراج قطاع غزة من دائرة «محور المقاومة»، وإحالته موطئ قدم أميركياً، وضمه إلى الجناح السعودي، وهذه معركة أميركية، أكثر منها إسرائيلية أو سعودية. فالرعونة التي تبديها واشنطن دعماً لحرب الإبادة الإسرائيلية، وتدمير القطاع على أهله، في وضح النهار، تنم عن غايات أميركية، تتجاوز المقولة الإسرائيلية بـ«الدفاع عن النفس»، وتتعدّى الانتقام الذي تريد أميركا إحداثه من أجل أن تبرّد إسرائيل غليلها، عبر تحطيم البنى التحتية وقتل المستضعفين من النساء والأطفال، كما تتجاوز استعادة إسرائيل مفهوم «الردع». وتلك الغايات، على محوريتها، لا تلبي متطلّبات واشنطن. فالتركيز الأساسي للبيت الأبيض ينصب على إخضاع غزة كلياً للنفوذ الأميركي، مثل الضفة الغربية، وهذا يقتضي بالضرورة اقتلاع حكم «حماس»، وتعيين نظام جديد موال للبيت الأبيض، وصديق للنظام العربي الرسمي، ويؤمن بنظريات التطبيع، لكن الأهم أن يكون معادياً لطهران و«حزب الله» و«أنصار الله»، وبارداً جداً تجاه العراق وسوريا.
مصر... تحت العباءة الأميركية
في تشرين الثاني 1977، زار أنور السادات إسرائيل، معلناً خروج مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي، وهو إنجاز أميركي ضخم، أتى بعد تحقيق العرب انتصاراً معنوياً في حرب تشرين الأول 1973. ونظرياً، كان يمكن للسادات توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، مع بقائه في الحلف الشيوعي، لكن المنظومة الغربية، بقيادة جيمي كارتر، ما كان يكفيها تدشين مسار تطبيعي مصري - صهيوني، ولا توجيه ضربة قاصمة إلى القضية الفلسطينية والحالة العربية. فقد سعى هنري كيسنجر في الأساس إلى تسجيل نصر مدوٍّ على موسكو، بنقل القاهرة من معسكر إلى آخر، واستجاب السادات للإغراءات، لكن القاهرة اليوم في أسوأ الأوضاع سياسياً واقتصادياً، وذهبت الوعود الحالمة أدراج الرياح. لكن كارتر الذي خرج مزهواً من «كامب ديفيد»، تلقّى ضربة مميتة من مكان لا يتوقّعه، أطاحت به وبإنجازه التاريخي في مصر، بإسقاط الملكية في إيران، والإطاحة بأكبر حليف أميركي في الشرق الأوسط، وشرطيها في الخليج، وقطع العلاقات مع إسرائيل، وإعلاء قضية فلسطين، وتحويلها مركزاً للسياسة الخارجية الوليدة. ومنذ اقتلاع النفوذ الأميركي في إيران، تحوّلت الديموقراطية فيها إلى مهمة مركزية في الأجندة الأميركية، الراعية للاستبداد والحروب والتطرّف، ما دام يدور في فلكها.
حربا العراق وسوريا
لم يُجر العرب تقييماً جاداً لنتائج الحرب التي شنها صدام حسين على إيران بين عامَي 1980 و1988، برعاية أميركية وتحت شعار حماية البوابة الشرقية. لذا، تراهم يكرّرون الأخطاء. ومنذ أن برد جرح الكويت من غزو صدام، عاد الإعلام الخليجي، بما في ذلك الكويتي، يشنّ حروباً ضد طهران، باعتبارها خطراً أكبر من إسرائيل، وهو عين الخطاب الغربي والصهيوني. كما لم يُجر العرب تقييماً موضوعياً وموسّعاً للحرب الدامية في سوريا، رغم الاعترافات المذهلة لرئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم آل ثاني. ومن بين الأمور التي لا تُغتفر، تلك الدعوات العلنية إلى ضرورة التدخل العسكري الأميركي لإسقاط الدولة السوريّة، والتي أتت من جماعات الإسلام السياسي، التي كنا نعتقد يوماً ما أنها كانت تعبّر عن ضمير في الاستقلال والتنمية والديموقراطية، بل وانخرطت في الطلب من واشنطن احتلال دمشق جماعات ليبرالية ترفع شعارات برّاقة، مدعومة خليجياً.
والأكثر إثارة للدهشة أن تأتي مناشدات التدخل العسكري في ليبيا وسوريا، بعد التجربتين المريرتين الناتجتين من الغزو الأميركي لأفغانستان (2001) والعراق (2003).
أميركا والمنطقة
ربما بتنا ندرك جميعاً أن أميركا لا تريد للمنطقة وأهلها خيراً. فقد كانت غايتها وتركيا والنظام الرسمي العربي من حروب العقد الماضي، قطع صلة سوريا بمحور المقاومة، الأمر الذي يصب حتماً في خدمة الكيان، ولم تكن الديموقراطية إلا شعاراً خادعاً لحلفاء أميركا في المحورين السعودي والتركي، اللذين تحالفا في بداية الحرب ضد محور إيران في سوريا. وقد يكون إخراج سوريا من محور وضمها إلى آخر هدفاً «مشروعاً»، ضمن صراع المحاور، في حال تم بأساليب سلمية وديبلوماسية وإغراءات مالية وحيل سياسية. أما أن يتم فيه اللجوء للسلاح، فذلك ما يستوجب التوقف، ونأمل أن تُعقد ندوات، وتُنشر كتب، بأقلام مفكّرين وناشطين، يسطّرون فيها أبرز ما تعلّمناه من تجربة «الربيع العربي»، ومطالبه المشروعة، التي حوّلها الأميركي والنظام العربي، بمساهمة نُخب عربية واسعة، حروباً دامية، وانقسامات لا شفاء قريباً منها في مختلف البلدان. ذلك أن تكرار ذات النغمة والقفز على تلك المعطيات عند تحليل الحدث الغزاوي الدامي، أمر لا يستقيم.
مستقبل غزة
الحرب قد تطول لأن إخراج «حماس» من الحكم يحتاج إلى المزيد من القصف والقتل، كما يحتاج مزيداً من المناقشات والمؤامرات والخطط لتأسيس حكومة في غزة، موالية للغرب والنظام العربي. وإذا تعذّر القضاء على المقاومة الفلسطينية، وثنيها عن تحالفها مع إيران، فإنه سيتم إعادة القطاع إلى العصر الحجري، وتحويل أهله إلى جوعى، وإظهار الفصائل المقاومة غير قادرة على تحقيق مقولاتها في التحرير والتنمية، كما أرادوا فعل ذلك في سوريا واليمن والعراق ولبنان وإيران، وكل دولة لا تخضع للأميركي. والمثير أن جو بايدن يخيّر «حماس» بين الاستسلام أو الموت، إلا إذا أرادت الحركة تغيير جلدها ولبس جلد سعودي خالص، بيد أن استمرار المفاوضات في باريس يشير إلى أن واشنطن ليست قدراً، وأن «محور المقاومة» لا يمكن أن يُقهر بسهولة، رغم تلقّيه ضربات قاسية.