السعودية ــ أميركا: أكبر من أزمة شخصية
عندما تهبّ أميركا للردّ على الضربة التي وجّهها وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى مصالحها ومصالح الغرب كلّه، فذلك قد يعني أكثر من مجرّد التهديد بعقوبات مِن نوع حظْر صادرات السلاح إلى المملكة، أو سحْب بضع مئات من الجنود منها. يَفتح التحرّك الأميركي، الذي ما زال يُدرس ولم يتسرّب شيء منه، على احتمالات عدّة، يدفع التفاؤل بعض المعارضين إلى القول إنها قد تصل إلى محاولة انتزاع المملكة نفسها من براثن الأمير المشاغب، لأنها «أثمن» من أنْ تُترك لتقع في أيدي «الأعداء». لذا، بدأ ابن سلمان، على رغم المكابرة، يشعر بقلق ممّا هو آتٍ على صعيد العلاقات مع أميركا والغرب، عكستْه تصريحات بعض المسؤولين السعوديين، وأمور أخرى، من بينها تسجيل تراجُع، ولو لفظياً، في الموقف من الحرب في أوكرانيا. ففي النهاية، ما زالت أميركا، من خلال السلاح والتغطية السياسية، تقوم بالدور الأساسي في حماية النظام السعودي، أقلّه في انتظار ما ستسفر عنه إعادة النظر في العلاقات التي تمرّ حالياً بمرحلة تاريخية تُقارَن بالمحطّات التأسيسية الكبرى، مِن مِثل استبدال الملك المؤسّس، عبد العزيز آل سعود، الرعاية البريطانية، بأخرى أميركية، في أربعينيات القرن الماضي.
يَفترض ما تَقدّم الإجابة على سؤال مركزي، هو: هل مشكلة ابن سلمان مع أميركا كلّها، أم مع نصفها المتمثّل في الحزب الديموقراطي واليسار؟ واستتباعاً، ما الشكل الذي تريده الولايات المتحدة لعلاقتها، ليس بالسعودية فقط، وإنّما بدول الخليج، بما هي محميّات أميركية قامت على أساس ربْط مصالح أُسر الحُكم والقبائل الأساسية في هذه الدول بتلك العلاقات؟ تمكّن ابن سلمان، بالترغيب أو الترهيب، من جرّ الإمارات والكويت إلى صفّه في النزاع مع ديموقراطيّي واشنطن. فالنسبة إليه، نجمت الأزمة القائمة عن تغيير في سياسة الحزب الديموقراطي في التعامل مع أنظمة الخليج، التي تخشى من أن يؤدي أيّ فراغ أمني تتركه الولايات المتحدة في المنطقة، إلى تهديد وجودي لها. رفَعَ وليّ العهد السعودي شعار الدفاع عن المصالح الخليجية، لا فقط السعودية، بل أطلق أنصاره حملة تُصوّره مدافعاً عن استقلالية القرار العربي والإسلامي. وأرفقوا ذلك بتجييش علني للتأثير في نتيجة الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي التي تُجرى الشهر المقبل - وفق ما يدلّ عليه إعلان الرياض أن إدارة بايدن طلبت منها تأجيل خفْض الإنتاج لمدّة شهر إلى ما بعد الانتخابات -، ثمّ قاموا بالترويج لتقارير صحافية أميركية عن تحرُّك جمهوري لفضْح ما اعتبروه محاولة لتوظيف العلاقات مع دولة أجنبية لمصالح حزبية في الانتخابات.
إلّا أن هامش حركة الجمهوريين في الاستفادة انتخابياً من قرار خفْض إنتاج النفط، ينحصر في استثمار الاستياء الشعبي الأميركي من التضخّم الكبير الذي سَبّبه ارتفاع أسعار النفط، ولا يمكن أن يتحوّل إلى تحالف علني مع نظام ابن سلمان، لأن خفْض الإنتاج يضرّ بالمستهلكين وبالاقتصاد، وبالمصالح القومية للولايات المتحدة والغرب، باعتباره تعاوناً مع روسيا في حرب أوكرانيا. ولذلك، لا يوجد من يدافع عن ابن سلمان علناً حتى بين الجمهوريين، ولن يكون سهلاً على هؤلاء معارضة إجراءات بايدن المرتقَبة ضدّ السعودية ووليّ عهدها، تماماً مثلما يوجد معارضون سعوديون لا يستطيعون معارضة قرار خفْض الإنتاج، باعتباره مصلحة وطنية سعودية، بغضّ النظر عن منطلقات ابن سلمان، وهي شخصية في جزء رئيس منها. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن سياسة الانسحاب من مناطق التوتّر، وخاصة الشرق الأوسط، وخفْض تكاليف الانتشار العسكري في الخارج، والتي أعاد بايدن تأكيدها في مقابلته الأخيرة مع محطّة «سي أن أن» بقوله إن الهدف الرئيسي لاجتماعات جدة كان العثور على طريقة للخروج من الشرق الأوسط، هي سياسة أميركية عامة تُقرّرها الدولة بكلّ أجهزتها المعنيّة، وتَحصل بعد دراسة معمّقة. وربّما يكون الجمهوريون أكثر حدّة من الديموقراطيين في ذلك؛ فالرئيس السابق، دونالد ترامب، لوّح بالخروج حتى من ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان، وبالانسحاب من «الناتو»، وهو الذي أخرج منظومات «الباتريوت» من السعودية، ورفض التورّط في الدفاع عنها بعد هجوم «أرامكو» في أيلول 2019، وإنْ كان أرسل 500 جندي أميركي إلى المملكة لطمْأنتها. الفارق هو أن ترامب يعتقد بأن صفقات السلاح مع السعودية مجزية، ولا يجب أن تُترك لدول مِن مِثل الصين وروسيا. وهو مستعدّ، مقابل ثمن، للوقوف خلْف ابن سلمان إذا كان يواجه مشكلات في داخل المملكة. ومع ذلك، يَصعب أن تتكرّر ظاهرة ترامب الذي أدار الظهر تماماً لنصائح البنتاغون ووزارة الخارجية ووكالات الاستخبارات في شأن العلاقة مع المملكة.
أمّا في ما يتعلّق بما ستقوم به إدارة بايدن، فلا شكّ في أن إحدى ركائز السياسة الجديدة التي يعدّها فريق الأمن القومي، ستكون دعم المعارضة السعودية المتنامية نتيجة القمع، على رغم شماتة بعض المعارضين السعوديين الذين شعروا بأن بايدن خذلهم عندما تنازل لابن سلمان وزاره في جدة في تموز الماضي. وتذهب بعض حسابات المعارضة على «تويتر»، مِن مِثل حساب «رجل دولة» المعروف بتأييده لوليّ العهد السابق، محمد بن نايف، المعتقَل في سجون وليّ العهد الحالي، إلى أن أميركا التي تتعامل مع ابن سلمان وفق قاعدة «الأحمق المفيد»، ستسعى إلى استبداله حين يصبح ضرره على مصالحها أكبر من فائدته. وعلى رغم أن بعض التقديرات، ولا سيما الخليجية، تقول إن الأميركيين ليس في يدهم فعْل الكثير ضدّ الرياض، إلّا أن الانتفاضة الديموقراطية للمطالبة بالثأر من ابن سلمان، واستبدال اللغة الديبلوماسية التي كانت تجري المحافظة عليها حتى في أوقات الخلاف، بلغة تهجّمات علنية وتهديدات، أوحت بأن الإجراءات المرتقَبة ستكون مؤلمة للأخير، وستكون، بشكل ما، تصحيحاً لـ«خطأ» زيارة السعودية ولقاء وليّ العهد، والذي عرّض بايدن لانتقادات واسعة داخل حزبه، حيث قام نواب وشيوخ بمحاولات كثيرة، منها تقديم عرائض وإعداد مشاريع قوانين، لإقناع الرئيس باعتماد سياسة متشدّدة ضد المملكة.
لكن الإضرار بالمصالح الأميركية والغربية يعطي الإدارة هامش مناورة كبيراً للتحرّك ضدّ ابن سلمان. ويبدو واحداً من الخيارات المتاحة، فرض عقوبات شخصية عليه في قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، والتي احتاج ساسة أميركا إلى جهد لإقناع رأيهم العام باستثناء وليّ العهد من العقوبات التي فُرضت على عشرات المتورّطين السعوديين فيها، خاصة وأن الاستخبارات الأميركية حمّلته مسؤولية مباشرة عن الاغتيال. وإذ كان هدف الاستثناء، آنذاك، إبقاء الأبواب مفتوحة لإيجاد صيغة ما للتعامل مع الرجل، فإن وقوف الأخير الآن في صفّ «الأعداء» بالمفهوم الأميركي، لم يَعُد يوجد ما يبرّر ذلك الاستثناء. ويمكن لإجراء كهذا أن يشوّش على صعود ابن سلمان لتولّي العرش بعد وفاة أبيه، علماً أنه لم يحصل في تاريخ العلاقات أنْ كان رأس الدولة السعودية خاضعاً لعقوبات أميركية.
يُقارن كثر في الخليج تحرُّك ابن سلمان لخفض إنتاج النفط، بذلك الذي قام به الملك فيصل بقراره فرْض حظر نفطي على الغرب إبّان حرب تشرين 1973، لكن بعض المعارضين باتوا يشبّهون تحدّي ابن سلمان لواشنطن بتحدّي صدام حسين لها. وبمعزل عن توصيف ما يقوم به الرجل عملياً، فالظاهر، أقلّه إلى الآن، أن مستقبله لن يكون واعداً.