«موسم العسل» السعودي - القطري: بحثاً عن حماية بالمُياومة
بين الحين والآخر، تَظهر بعض حقائق الدور القطري الملتبس في نزاعات المنطقة، والذي يُعدّ الدفءُ الراهن في العلاقات مع السعودية أحد مظاهره. إذ يُناقض هذا الدفء التوتّرات التي وسَمت علاقة الطرفين طوال التاريخ الحديث، منذ أن انتزعت الدولة الصغيرة دور «الشقيقة الكبرى» كمُضيف رئيس للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، وانطلقت القيادة القطرية، بالارتكاز على هذه الاستضافة، في توسيع نفوذها، الذي أخاف المملكة، إلى حدّ جعل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يُشارف لحظة كادت تُغيّر وجه الخليج بالكامل، لو أنه تمكّن من تنفيذ تهديده باجتياح قطر وإسقاط الحُكم فيها عام 2017
لو لم يكن الوتَر الذي ضرب عليه الشاعر النبْطي القطري المعارض، محمد ابن الذيب، في غاية الحساسية، لما كان الحُكم في قطر، الذي أتقن فنون السياسة، قد سجنه، وسجّل على نفسه هذه النقطة السوداء. وابن الذيب، للتذكير، عايَر الأمير السابق، حمد بن خليفة آل ثاني، في قصيدة «الياسمين» عن ثورة تونس، بالاستقواء بالقوات الأميركية، فاستحقّ حُكماً بالسجن لمدّة خمس عشرة سنة، أمضى منها خمساً وراء القضبان، ثمّ أُفرج عنه عام 2016، بعفو من الأمير تميم.
قوّة قطر تتأتّى أساساً من انتزاعها دور السعودية كقاعدة رئيسة للقوات الأميركية في الشرق الأوسط. وهذا المشروع بدأ مع انقلاب حمد بن خليفة آل ثاني على أبيه عام 1995، وهو الوقت نفسه الذي شرعت واشنطن تبحث فيه عن مكان أفضل لنشر قواتها بعد حرب الخليج، حين بدأت تتراجع شعبيّة الوجود العسكري الأميركي في المملكة، ما اضطرّ القيادة السعودية إلى رفض السماح بانطلاق القوات الأميركية لاحقاً من أراضيها لغزو أفغانستان، ثمّ العراق في 2003، حيث قام الأميركيون عامذاك بسحْب 60 ألف جندي من «قاعدة الأمير سلطان الجوية» إلى «قاعدة العُديد» في قطر.
الحاجة السعودية إلى الدوحة تشمل ملفات حساسة (
الانتقال إلى قاعدة العديد، وليس غيرها، لم يكن صدفة، ولا كان كذلك بناء القاعدة عام 1996، العام التالي لانقلاب حمد، والذي حاول فيه الأب العودة في محاولة انقلاب مضادّة فاشلة دعمتها السعودية والإمارات. فالأماكن التي تستطيع فيها القوات الأميركية في الخليج ضمان أمنها ليست كثيرة. في السعودية، كانت هذه القوات قد تعرّضت لعدّة تفجيرات وعمليات إطلاق نار أهمّها تفجير أبراج الخُبر عام 1996. وإذا كانت الكويت أفضل حالاً قليلاً، فإنها ليست آمنة تماماً، لا من جهة الحدود السعودية ولا من جهة الحدود العراقية، فضلاً عن الخشية من قوّة التيار الإسلامي وخاصة السلفي فيها، والثقل الشيعي. وفي البحرين، السلطة منفصلة عن الشعب تماماً، ولا تستطيع ضمان أمن الأميركيّين في البرّ، بينما الإمارات بلد مكشوف أمنياً نظراً للطبيعة المتنوّعة للسكّان التي تسهّل الاختراقات الاستخباراتية، فيما يمكن لأيّ تمركز في سلطنة عمان أن يُغري دولاً أخرى بدعم التيّار الإسلامي في داخلها، فضلاً عن أن قيادة السلطنة آثرت المحافظة على شيء من الحياد، ورفضت ضمناً إقامة قاعدة أميركية فوق أراضيها. مُقابل تلك البيئة الآمنة التي انفرد حمد بالقدرة على توفيرها، نظراً لإمكانية السيطرة على قطر بفضل تعداد سكانها الذي لا يتجاوز الـ2.5 مليون نسَمة منهم أقلّ من 350 ألف قطري، حصل الأمير على تفويض بالقيام بدور كبير في سياسات المنطقة، مع هامش مناورة واسع. لكن الديبلوماسية القطرية طوال العقدين والنصف الماضيين، كانت دائماً تستند إلى عضلات «قاعدة العُديد»، مهما كانت الوجهة التي تمضي فيها. أمّا نقاط القوة الأخرى، مِن مِثل وجود القاعدة التركية، فهي إضافات لا تخرج عن السياق ذاته.
تحت إدارة دونالد ترامب عام 2019، حاول محمد بن سلمان استعادة هذا الدور من قطر، إثر الهجمات على منشآت «أرامكو» في بقيق وهجرة خريص، من خلال استدعاء القوات الأميركية، لكنه لم يستطع ذلك بالنظر إلى أن أموراً كهذه تُقرّرها المؤسسة الأمنية الأميركية، لا الرئيس. ومع وصول جو بايدن، الذي لا يَجمعه ودّ بابن سلمان، إلى البيت الأبيض، لم يكن أمام وليّ العهد السعودي من خيار، سوى محاولة فتح أبواب واشنطن انطلاقاً من قطر، بعد فشله في تشريعها بالمفاتيح الإسرائيلية، وصعوبة بيْع التطبيع مع إسرائيل في الداخل السعودي، في مقابل دعم أميركي لتولّيه العرش. والحاجة السعودية إلى الدوحة تشمل ملفّات حسّاسة كثيرة، منها مثلاً تحسين العلاقات مع أنقرة، القائم على صفقة تُنهي مقاطعة السعودية للمنتَجات التركية وضخّ استثمارات سعودية في تركيا، مقابل دفن قضية اغتيال جمال خاشقجي، بغضّ النظر عن الإخراج السعودي الرديء لهذه المسرحية، والذي تَمثّل في تصوير الأمر على أنه جاء بإلحاح من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي سيأتي «صاغراً» إلى الرياض، على حدّ تعبير الذباب الإلكتروني في المملكة. كذلك، مثّل أمير قطر وسيطاً لابن سلمان في التفاوض مع إيران، بما يشمل ملفّ اليمن الذي زاد التدخّل القطري فيه أخيراً لمصلحة الرياض، وفق ما أظهر الطلب السعودي من قطر تزويد المملكة بصواريخ دفاعية مضادّة، لاعتراض الصواريخ التي تنطلق من اليمن، والإدانات القطرية للقصف اليمني للسعودية، مع أنه ليس سوى ردّ على العدوان. وفوق هذا كلّه، يمكن لتميم أن يكون ظهيراً لابن سلمان في صراعه المستجدّ مع وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، وهو الأمر الذي سعى إليه ابن سلمان أيضاً من خلال تحسين العلاقة مع سلطان عُمان، هيثم بن طارق.
هذه كلّها ملفّات لها مصبّ واحد، هو تثبيت سلطة ابن سلمان. فهل يعني هذا أن الدوحة تبنّت عملية تعويم وليّ العهد السعودي الذي بيّت قبل أربع سنوات فقط، النيّة لاجتياحها عسكرياً، ثمّ عندما فشل، هدّدها بقطْع أيّ اتصال برّي لها بالجزيرة العربية، من خلال حفْر قناة على الحدود معها وملئها بالتماسيح والقروش؟ من مصلحة قطر تحقيق هدوء في الخليج، لتمرير كأس العالم لكرة القدم في العام الجاري، لكن الطبيعة المتقلّبة لأنظمة الحُكم في المنطقة، التي صارت تطلب الحماية بالمُياومة، مع تَغيّر استراتيجيات الحليف الأوّل لها، الولايات المتحدة، يمكن أن تُفضي إلى تَغيّر التحالفات والعداوات مراراً وتكراراً. ما هو مؤكد هو أن قطر ضمِنت أن تكون صاحبة اليد العليا في العلاقة مع المملكة، بغضّ النظر عن تلك التقلّبات.
يمكن لقطر أيضاً أن تمثّل نموذجاً ملهِماً لابن سلمان، وخاصة في طريقة التعامل مع الولايات المتحدة، كونها مرّت بالحالة نفسها التي تمرّ بها السعودية الآن. إذ كان الرئيس السابق، دونالد ترامب، معادياً للدوحة لأسباب منها ما يتعلّق بمصلحته مع ابن سلمان وشركائه في رباعيّ المقاطعة الخليجي - المصري، إلّا أن القطريّين استطاعوا قلْب الوضع لمصلحتهم من خلال حملات العلاقات العامة التي قادوها داخل الكونغرس والإدارة. يومها، كان وزير خارجية ترامب، ريكس تيلرسون، يمثّل رأس الحربة في مناصرة المؤسسة الأميركية لقطر، التي اتّضحت أهمّيتها للولايات المتحدة خلال الانسحاب من أفغانستان، وربّما تُوضح الأسابيع المقبلة هذه الأهمية أكثر، مع التطوّرات التي تشهدها كازاخستان، التي كان لافتاً الاهتمام القطري بها، من اتصال تميم بالرئيس الكازاخي قاسم جومرت توكاييف، إلى تغريدات حمد بن جاسم التي استنتج فيها أن «بوتين يعيد لروسيا هيبتها».