«حرْب الشركات» بين أبو ظبي والرياض: أوراقٌ سعودية خاسرة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1189
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

يخوض ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، معركة أخرى تبدو خاسرة سلفاً، تتمثّل في السعي إلى انتزاع دور الإمارات، وتحديداً دُبي، كمركز مالي وتجاري وعقاري وسياحي عالمي، ونقْله إلى الرياض. لكن مشكلته في هذه المعركة، كما في سابقاتها، هي أنه يرتجل سياسات لم تخضع لدراسة كافية، في الوقت الذي تفتقر فيه بلاده إلى البيئة الاجتماعية والقانونية اللازمة لأداء مِثل هذا الدور

قد لا يستطيع محمد بن سلمان، في سعيه لانتزاع دور دبي في المنطقة، أكثر من تخريب هذا النموذج (لربّما كان ذلك أحد أهدافه)، الذي قام في الأساس على كونه مركز خدمة خلفياً للاقتصاد السعودي، بالنظر إلى أن المملكة غير مؤهّلة لتوفير بيئة عالمية مؤاتية، تُخوّلها التحوّل إلى مركز مالي وتجاري، بفِعْل الطبيعة المحافِظة لمجتمعها. ما يجري اليوم من محاولات تغريب للمجتمع السعودي، أوكلها ابن سلمان إلى مستشاره تركي آل الشيخ، لا يتعدّى حتى الآن محاولةَ استقطاب الشباب بطُرقٍ تقترب من الفلتان وتبتعد عن الحرّيات، خاصة بعد مهرجان «ميدل بيست» الموسيقي، والذي لم يَخْلُ من مظاهر انحراف مِن مِثل تعاطي «الماريجوانا» والتحرّش الجنسي. صحيح أن كلّ المجتمعات الخليجيّة محافِظة، لكن الفارق بين السعودية والإمارات، هو أن ثلثَي سكّان الأولى من السعوديّين، ما يضطرّ الوافدين إليها للتأقلم مع عادات اجتماعية يعود الكثير منها إلى مرحلة سابقة للإسلام، قبل أن تأتي القوانين «الوهّابية» وتُعزّزها وتزيدها تزّمتاً (باستثناء السماح للمرأة بالخروج من دون مَحرم وقيادة السيارة وإلغاء «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والتي كانت تُعاقِب حتى على ممارسة أيّ نشاط في أوقات الصلاة، لم يتمّ تغيير تلك البُنية القانونية عملياً؛ فإلى الآن مثلاً، لا تستطيع المرأة الخروج إلى الشارع بلا نقاب)، بحيث قد يستحيل على أيّ سلطة تهميشها إلى درجة تجعل المجتمع بكُلّه يتقبّل الثقافة الليبرالية التي تُعتبر صنواً للتجارة الدولية المحكومة بقواعد الغرب، وما الحملة التي انطلقت أخيراً للمطالَبة بوقف فعاليات «موسم الرياض»، باعتباره «فسقاً وفجوراً» إلّا دليل على ذلك. أمّا في الإمارات، حيث أن 90 في المئة من السكّان وافدون، غالبيتهم من غير المسلمين، فالمجتمع جاهز لتقبّل نمط الحياة الغربي، حتى إن كان الإماراتيون أنفسهم محافظين؛ إذ تَعلّم هؤلاء الفصل بين حياتهم كخليجيّين لهم عاداتهم الخاصة التي يمارسونها في ما بينهم، وبين كونهم مواطنين في دولة لها وظيفة عالمية.
هكذا، يُغفل المسؤولون السعوديون، أو يتغافلون، عن أن المملكة تحتاج إلى تغييرات جوهرية في البنية القانونية، تواكب مسعاهم لتغيير ثقافة المجتمع، في ما يمثّل ورشة ضخمة تواجه عقبات كبرى، وتحتاج وقتاً طويلاً. ذلك أن الإمارات بدأت عملية التحوّل منذ تأسيس الدولة (لم تصبح دبي بين ليلة وضحاها سوقاً للعقارات الفاخرة وسوقاً حرّة للبضائع، ولا سيما تلك الآتية من الصين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها من دول آسيا)، وما كان ممكناً لها أن تصير نقطة اتّصال رئيسة بين آسيا والخليج، لولا البنية القانونية المُخصَّصة للأعمال، والمنفصلة عن تلك المُخصَّصة للسياسة، والتي تَغيّرت عبر وقت طويل، وما زالت تتغيّر، وآخر مظاهرها نقل العطلة الأسبوعية من الجمعة والسبت إلى السبت والأحد؛ فهل يتقبّل السعوديون إجراءً مماثلاً، إذا كانت إمارة الشارقة نفسها لم تستسغ إلغاء عطلة الجمعة، فاضطرّت لجعل الإجازة الأسبوعية 3 أيام؟ حتى الآن، أكثر ما استطاع حكّام السعودية تقديمه للغربيّين والآسيويّين الذين يريدون العيش في المملكة، هو «كومباوندات» مغلَقة منعزلة عن المجتمع السعودي، يمكن لهؤلاء ممارسة حياتهم وفق النمط الذي يرغبون فيه، داخل أسوارها، وهي قائمة حالياً لأولئك الذين لا يستطيعون أصلاً إدارة استثماراتهم في المملكة من خارجها.

لكن على رغم كلّ تلك العوائق، يبدو السعوديّون متيقّنين من أنهم سينتزعون دور الإمارات، فيما الواقع يقول إنهم قد لن يصلوا إلى أكثر من جعْل الرحلة بين الرياض ودبي معكوسة. فرجال الأعمال الذين يعملون في السعودية انطلاقاً من مقارّ شركاتهم الإقليمية في دبي، يقومون برحلات لأيام معدودة إلى المملكة لإنجاز أعمالهم، ثمّ يعودون، وإذا ما أجبرهم ابن سلمان على الإقامة في السعودية، يبقى لديهم خيار الانتقال إلى دبي لتمضية إجازاتهم الأسبوعية، ثمّ العودة للعمل في المملكة. وعلى رغم أن بعض الشركات التي تعتمد على السوق السعودية في عائداتها عمدت، بالفعل، إلى نقل مقارّها الإقليمية إلى الرياض، إلّا أن ذلك لا يعني أن خطوتها ستفتح الباب على هجرة جماعية من دبي؛ إذ إن الشركات المذكورة قد تُبقي، توازياً، مقارّها في دبي، وفي مواقع عربية أخرى. وما يعزّز هذه الاحتمالات هو أن الإماراتيّين قرّروا المواجهة على ما يبدو، وما تحويلهم العطلة الأسبوعية إلى السبت والأحد إلّا خطوة في هذا السياق، فيما يُسجّل أيضاً إعلانهم تقليصاً إضافياً في قيود التأشيرات الممنوحة للمستثمرين والمقيمين (وإلغاؤهم الرقابة على الأفلام الأجنبية)، في ما يؤمل أن تكون نتيجته انتقال شركات متعدّدة الجنسيات من شرق آسيا إلى الإمارات، بسبب «اللوائح الأكثر صرامة في أماكن أخرى» -في إشارة إلى السعودية -، وفق ما أعلنه وزير الدولة الإماراتي لريادة الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسّطة، أحمد بالهول الفلاسي.
يعمل ابن سلمان، لتحقيق هدفه، على ثلاثة مسارات: الأوّل تخفيف القيود الاجتماعية في المملكة ممّا يجعلها مكاناً أكثر جاذبية، وهذه هي المهمّة الأصعب؛ والثاني تقديم حوافز قانونية وتجارية مِن مِثل إلغاء تأشيرة الخروج، وتسهيل الحصول على إجازات عمل للراغبين وزوجاتهم، وتخفيف نظام الكفالة، وتقديم حوافز ضريبية كمنْح الشركات المنتقّلة وضع «الأوفشور»؛ والثالث هو معاقبة الشركات التي لا تنقل مقارّها إلى الرياض، بحرمانها، اعتباراً من عام 2024، من نيل عقود من الحكومة السعودية والمؤسّسات التي تدعمها، وهي عقود بمليارات الدولارات. تتذرّع الرياض، في مسعاها الأخير، بالحاجة إلى تدريب الكوادر السعودية، لكن ذلك يتناقض مع كون معظم الشركات التي طُلب منها الانتقال، تقيم مقارّها الإقليمية في دبي. إذ تلقّت نحو 44 شركة، معظمها لتكنولوجيا الطاقة أو متخصّصة بحلول النقل مثل المترو والقطارات، أو للمواد الاستهلاكية أو الاستشارات الهندسية أو الاستشارات القانونية، تراخيص لإقامة مقارّها الإقليمية في الرياض، فيما من المفترض أن تكمل عملية نقل مقارّها خلال عام (بعضها أنهى تلك المهمّة بالفعل). ومن بين مَن نالوا التراخيص المُشار إليها: «بيكر هيوز»، و«شلامبرغر»، و«ديلويت»، و«بيبسيكو»، و«يونيليفر»، و«سيمنز موبيليتي»، و«فيليبس»، و«بي. دبليو. سي»، و«بيتشيل»، و«هاليبرتون»، و«دي. دبليو. أف»، بحسب ما أُعلن في مؤتمر استثماري في الرياض. وتريد المملكة، وفق الرئيس التنفيذي لـ«اللجنة الملكية لمدينة الرياض» فهد الرشيد، استغلال إمكاناتها غير المطروقة للحصول على حصّتها من الأعمال في المنطقة، وهي تستهدف الشركات التي تبلغ عائداتها السنوية مليار دولار فما فوق، في حين تتوقّع أن تجتذب 480 شركة من هذا الحجم بحلول 2030. كذلك، تَتوقّع السعودية أن تضيف عملية نقل المقارّ لوحدها، بخلاف المشاريع التي ستنفّذها، 18 مليار دولار إلى حجم الاقتصاد السعودي، وتَخلق 30 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030.
لكن الكثير من المستثمرين ما زالوا حذرين من ابن سلمان، الذي قام قبل أربع سنوات باحتجاز أمراء وضباط ورجال أعمال في ما وُصف بأنه «حملة لمكافحة الفساد»، جرت خارج القضاء وبعيداً عن نظر الرأي العام. وعلى رغم تطمينات وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، إلى أن السعودية تريد أن تكون مكاناً آمناً لإقامة الأعمال، وأن «الحملة لمكافحة الفساد» يجب أن تُعتبر مؤشّراً إلى أن بلاده تفتح صفحة جديدة للمستثمرين حيث يمكنهم الحصول على فرص متساوية، فقد تراجَع الاستثمار الأجنبي المباشر، في 2017، السنة التي وقعت فيها «حادثة الريتز»، إلى 1.42 مليار دولار من 7.5 مليار دولار في 2016، السنة التي سبقت تولّي ابن سلمان ولاية العهد (عاد وارتفع هذا المؤشّر في 2018، لكن إلى حدود 4.2 مليار دولار)، في حين وصل الاستثمار الأجنبي المباشر في الإمارات العام الماضي، إلى 13.8 مليار دولار.