هل تنجح دبلوماسية الرياض الناعمة في عكس أضرار سياستها العدوانية؟
في الأشهر التي تلت الهجوم بالصواريخ والطائرات بدون طيار على منشأتين نفطيتين سعوديتين، وهو الهجوم الذي يعتقد على نطاق واسع أن إيران قامت به، اتخذ ولي العهد السعودي منعطفًا غير معتاد تجاه المزيد من الدبلوماسية لتهدئة التوترات مع أعدائه الإقليميين.
وبحسب ما ترجم "الخليج الجديد" عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، كثف الأمير "محمد بن سلمان" من المحادثات المباشرة مع المتمردين الحوثيين الذين يقاتلهم في اليمن منذ أكثر من 4 أعوام؛ ما أدى إلى انخفاض الهجمات من الجانبين خلال الفترة الأخيرة.
وفي الوقت نفسه، قدم ولي العهد السعودي إيماءات لتخفيف الحصار الخانق الذي فرضه هو وحلفاؤه على قطر، حتى إنه شارك في محادثات غير مباشرة مع إيران، الخصم الرئيسي للمملكة؛ لمحاولة إخماد "حرب الظل" التي تدور في جميع أنحاء المنطقة.
سر التحول
ويقول المحللون إن التحول من المواجهة إلى التفاوض؛ يعد إدراكًا واقعيًا من "بن سلمان" لحقيقة أنه لم يعد بإمكان المملكة الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية، ولم تعد الرياض تثق أن الولايات المتحدة ستدافع عن صناعة النفط السعودية من الهجمات الأجنبية مهما كانت العقبات كما فعلت في العقود السابقة.
وعلى الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين والسعوديين اتفقوا على أن إيران كانت وراء هجمات 14 سبتمبر/أيلول، على محطات معالجة النفط في "بقيق" و"خريص"، ما خفض من إنتاج المملكة من النفط إلى النصف بشكل مؤقت، إلا أن رد الرئيس "دونالد ترامب" اقتصر على مجرد خطاب ساخن.
وبالنسبة للسعوديين، أوضحت هذه الاستجابة الفاترة، حقيقة أنه على الرغم من عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقوها على الأسلحة الأمريكية، بما يعادل أكثر من 170 مليار دولار منذ عام 1973، فإنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة لتقديم المساعدة.
ويقول المحللون إن السعوديين، الذين يشعرون بالقلق من الاضطرار إلى الدفاع عن أنفسهم في جوار صعب وغير قابل للتنبؤ به، قد مدوا يدهم بهدوء إلى أعدائهم لتهدئة الصراعات.
وقال "ديفيد روبرتس" الباحث في شؤون المنطقة في جامعة "كينجز كوليدج" في لندن: "أعتقد أننا سننظر إلى 14 سبتمبر/أيلول كلحظة أساسية في تاريخ الخليج. فبعد أن تحطمت فكرة أن الولايات المتحدة ستحمي السعوديين، أدركت القيادة السعودية أخيرا حاجتها إلى مزيد من التكيّف".
وبالنسبة للولايات المتحدة، يعد التحول السعودي نحو الدبلوماسية مفارقة محرجة، وتضغط إدارة "ترامب" والكونغرس على السعوديين لإنهاء الحرب في اليمن، وقد دفعتهم الإدارة إلى المصالحة مع قطر، دون جدوى إلى حد كبير.
والآن، ربما تكون الضربات الإيرانية قد فعلت الكثير لتحقيق هذه الأهداف أكثر من الضغط الأمريكي.
سياسة عدوانية
وأصبحت السياسة الخارجية للسعودية أكثر عدوانية بعد أن برز "بن سلمان" على الساحة عام 2015، حيث كان حينها يبلغ من العمر 29 عاما فقط. وقد أغرق المملكة في حرب مدمرة ضد المتمردين المدعومين من إيران في اليمن، وفرض مقاطعة عقابية على قطر؛ حيث اتهمها بدعم الإرهاب والتعامل بود مع إيران، وتعهد بمواجهة إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وقال النقاد إن الأمير الشاب كان متهورًا وقاسيًا ومزعزعا للاستقرار في المنطقة. علاوة على ذلك، فشلت حملات اليمن وقطر في تحقيق النتائج المرجوة.
وانتهى المآل بحرب اليمن إلى طريق مسدود مكلّف، مع آثار جانبية خطيرة للأزمة الإنسانية المدمرة في البلاد. في حين استخدمت قطر ثرواتها الهائلة وعلاقاتها الدولية للتغلب على الحصار. ولاحقا، أبرزت الهجمات التي طالت مصفاة النفط في "بقيق" ضعف صناعة النفط السعودية، جوهرة التاج الاقتصادي للبلاد.
وأدت هذه الأحداث إلى ما وصفه "روب مالي"، وهو مسؤول كبير سابق في إدارة "باراك أوباما"، بعملية "إعادة ضبط" للسياسات السعودية.
وقال "مالي" إن الاستعداد المفاجئ لمواصلة الدبلوماسية في قطر واليمن "يعكس رغبة السعودية في تعزيز موقفها الإقليمي في وقت يشوبه الغموض والضعف".
ورأى المحللون أن عدم وجود رد أمريكي كبير على الهجمات يمثل ضربة للسياسة المعروفة باسم "مذهب كارتر"، الذي يعود إلى عام 1980، عندما تعهد الرئيس "جيمي كارتر" باستخدام القوة لضمان التدفق الحر للنفط من الخليج العربي بعد الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفيتي لأفغانستان.
وقد أيد الرؤساء اللاحقون، الديمقراطيون منهم والجمهوريون، "مبدأ كارتر" ورأوا أن صادرات النفط السعودية ضرورية للاقتصاد العالمي ومصالح أمريكا.
وبعد الهجمات الأخيرة، أرسل "ترامب" مزيدًا من القوات الأمريكية إلى المملكة لتشغيل أنظمة صواريخ "باتريوت"، وهو دعم كان أقل بكثير مما توقعه السعوديون من رئيسٍ اعتبروه صديقًا حميمًا يشاركهم العداء تجاه إيران. وقد أمر "ترامب" بشن غارات جوية على إيران، ثم ألغى ذلك القرار فجأة.
وقال "ستيفن كوك" الباحث في مجلس العلاقات الخارجية: "ما لم يفهمه السعوديون؛ هو أن دونالد ترامب لديه نظرة باراك أوباما إلى العالم أكثر مما أدركوا. يتعلق الأمر بالخروج من الشرق الأوسط".
مراجعة السلوك
وعانت سمعة السعوديين في واشنطن بشدة من الحرب في اليمن، وحصار قطر، ومقتل الكاتب السعودي المعارض "جمال خاشقجي" على يد عملاء سعوديين في إسطنبول العام الماضي.
وفي الوقت الذي انتشر فيه الغضب في الكونغرس وأجزاء أخرى من الحكومة، واصل "ترامب" دعم المملكة كحليف عربي مهم ومشتر موثوق للأسلحة الأمريكية. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، يدرك السعوديون أنه يمكن لرئيس جديد أن يتخذ نهجا مختلفا تماما.
وقال "إميل حكيم"، محلل شؤون الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: "من الصعب، حتى بالنسبة لترامب، الدفاع عن المملكة في كل منعطف خلال حملته الانتخابية. لذلك أعتقد أن السعوديين أذكياء بما يكفي لتخفيف حدة سلوكهم لبعض الوقت".
وظهرت الخلافات أيضًا بين المملكة العربية السعودية وحليفها الإقليمي الأقرب، الإمارات العربية المتحدة. وفي يونيو/حزيران، بدأت الإمارات بسحب قواتها من اليمن، تاركةً للسعوديين عبء حرب قبيحة يعتقد القليلون أنهم قادرون على الفوز بها.
وفي يوليو/تموز، استضافت الإمارات محادثات نادرة مع إيران حول الأمن البحري، في محاولة لتهدئة التوترات في الخليج العربي وحماية سمعة البلاد كمركز أعمال آمن.
وفي حين أن تلك المبادرات لم تسفر بعد عن اتفاقات رسمية، فقد خففت الضغوط في المنطقة.
وفي اليمن، أطلق كلا الجانبين أكثر من 100 سجين لإظهار حسن النية، وأصبحت الهجمات عبر الحدود التي قام بها الحوثيون أقل تواترًا. وفي الشهر الماضي، أبلغ مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، "مارتن غريفيث"، عن انخفاض بنسبة 80% في الغارات الجوية التي شنها التحالف الذي تقوده السعودية خلال الأسبوعين السابقين.
وقالت "رضية المتوكل"، رئيسة "مواطَنة"، وهي جماعة يمنية لحقوق الإنسان، إنه منذ ذلك الحين، لم يُقتل أي مدني يمني في الغارات الجوية.
وأشارت إلى أن التراجع الحالي هو الأول الذي ينتج عن المحادثات المباشرة مع الحوثيين. وشككت في أن السعوديين لم يكونوا ليختاروا هذا الطريق دون وقوع هجوم "بقيق".
وفي المواجهة بين السعودية وحلفائها من جانب وقطر من جانب آخر، كان التقدم الملموس نادرًا، لكن المحادثات الهادئة بين قادة الدول خففت من حدة النزاع.
وقد خففت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي السعودية، التي كثيرًا ما أهانت أمير قطر، "تميم بن حمد آل ثاني"، من حجم هذه الإهانات. ويقول مسؤولون قطريون إنه على الرغم من أن قطر لم تغلق شبكة "الجزيرة" الفضائية كما طلب السعوديون، إلا أن الانتقادات الموجهة إلى قطر من قبل المنافذ الإخبارية المؤيدة للحكومة وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية قد هدأت بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة.
وبعد أن كانت تعاقب المواطنين الذين يسافرون إلى قطر، تفعل السعودية الآن العكس، وقد أرسلت فريق كرة القدم للعب في بطولة في الدوحة، العاصمة القطرية. وعلى الرغم من أن أمير قطر لم يقبل دعوة من العاهل السعودي الملك "سلمان بن عبدالعزيز"، لحضور اجتماع قمة إقليمي في المملكة هذا الشهر، إلا أن رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية فعلا ذلك.
واكتسب القطريون أيضًا الكثير من القبول في واشنطن. وبينما أشاد "ترامب" في البداية بالحصار، وأيد الادعاء السعودي بأن قطر تدعم الإرهاب، فقد قام في وقت لاحق بتغيير مساره.
وفي العام الماضي، استقبل أمير قطر في واشنطن، وأرسل "ترامب" هذا الشهر ابنته ومستشاره الرئيسي، "إيفانكا ترامب"، إلى مؤتمر كبير في الدوحة.
لكن العداء تجاه قطر لم يخف في الإمارات، التي كانت رائدة الحصار، والتي لا تزال تعتبر الدوحة قريبة بشكل خطير من الإسلاميين في المنطقة.
وردت قطر على عدم الثقة هذا، حيث تحدث المسؤولون عن احتمال التصالح مع السعودية ولكن ليس مع الإمارات؛ ما أدى إلى تقسيم التحالف بين البلدين فعليا.
وكان التقدم الأكثر إلحاحا وندرة هو ما حدث بين السعودية وإيران. فبعد أعوام من التصريحات الساخنة والتنافس على دعم الأطراف المتعارضة في النزاعات الإقليمية، تدخّل مسؤولون من باكستان والعراق كوسطاء لمحادثات بين الجانبين عبر القنوات الخلفية بهدف تجنب وقوع نزاعٍ أوسع.
ولا يزال من غير الواضح إلى أي مدى ستنجح هذه المحادثات في تخفيف التوترات، خاصةً وأن الانفتاح السعودي الرسمي مع إيران قد يثير غضب "ترامب"، الذي يحاول عزل إيران ومعاقبتها.
وقال "مالي"، المسؤول السابق في إدارة "أوباما": "لن تنظر واشنطن بلطف إلى التواصل السعودي الإيراني في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة عزل إيران. إن عدم الثقة الكاملة في إدارة ترامب شيء، وتحديها علنًا شيء آخر تمامًا، ومن غير المرجح أن يفعل بن سلمان ذلك".
المصدر | نيويورك تايمز - ترجمة "الخليج الجديد"