نيويوركر: الحكومة السعودية تقود حملة قمع عابرة للحدود لإسكات منتقديها
ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد
في صباح يوم 18 أغسطس/آب 2017، رحلت "رنا" على متن رحلة الخطوط الجوية السعودية تجاه "ميونيخ"، ألمانيا، وهي غائمة العينين، تقتني حقيبة جلدية صغيرة.
وكان زوجها، الغريب عنها تقريبا، الذي تزوجته قبل يومين فقط في الرياض، بجرة قلم من أبيها، يسير أمامها.
وعندما اقترب الزوجان من شباك استلام جوازات السفر، سلمها على مضض جواز سفرها، الذي كان قد أخذه منها قبل الهبوط.
واسترقت "رنا" لمحة داخل جوازها للتأكد من أن الملاحظة التي كانت قد كتبتها في حمام الطائرة لا تزال موجودة بين الصفحات الجديدة. تقلص الطابور إلى الأمام، واختلج قلب "رنا" بينما قام ضابط ألماني بمعالجة أوراق زوجها، ثم لوح إلى "رنا" بالتقدم. ناولت "رنا" وثائقها إلى المسؤول على الجانب الآخر من النافذة الزجاجية، وبين الأوراق كان هناك طلب قصير مكتوب باللغة الإنجليزية: "أريد أن أتقدم بطلب للحصول على اللجوء"، وأسفله بلغة ألمانية ضعيفة، "mein Mann weiß nicht"، أي "زوجي لا يعرف".
لقد كانت هذه لحظة العمر لها. لقد كانت تتويجا لذكريات "رنا" القديمة التي تهيمن عليها نوبات والدها العنيفة، الذي كادت إساءة معاملته لها ذات مرة أن تقود والدتها إلى الهروب مع "رنا"، التي كانت آنذاك طفلة صغيرة.
وكانت هذه التجربة بمثابة درس مبكر حول المعايير الأبوية في المملكة العربية السعودية، حيث تخلت أم "رنا"، تحت ضغط من عائلتها، عن آمالها في الطلاق، وعادت إلى زوجها.
وفي وقت لاحق، أوضحت لـ "رنا" رأيها، حيث قالت: "من الأفضل أن نتحمل سوء المعاملة داخل زواج محترم، من أن تعيش المرأة في عار".
وفي المدرسة، رزحت "رنا" تحت ساعات طويلة من التعليم الديني، حيث تعلمت أن تحترم الرجال لأن لهم "القوامة" عليها.
وفي جامعة الأميرة "نورة بنت عبدالرحمن"، تسبب نشاط بسيط لها عبر الإنترنت في تحويلها إلى المكتب التأديبي، حيث هددتها الإدارة بالاتصال بالشرطة. وفي وقت لاحق، بينما كانت تحاول مساعدة صديقة تعاني من العنف المنزلي، رفضت السلطات محاولة "رنا" تقديم تقرير للشرطة.
وبعد الجامعة، تم منع "رنا" من الحصول على وظيفة كمترجمة للغة الإنجليزية مرارا وتكرارا من قبل والدها، الذي اعتبر هذا العمل مخجلا. وتمكنت في النهاية من بدء أعمال إصلاح صغيرة للهاتف مع العديد من صديقاتها، لكنها سرعان ما واجهتها أسوأ كوابيسها، فقد رتب والديها لزواجها.
وفي لقائهما الأول، أبلغها الشاب المتقدم أنه يتوقع أن تبدأ في إنجاب الأطفال على الفور، وأنها سوف تكرس نفسها لتربية الأطفال. لقد قالت لي: "عندما رأيته رأيت نهاية حياتي".
وكانت "رنا"، التي كانت في الرابعة والعشرين من عمرها في ذلك الوقت، لا تزال غير راغبة في الاستسلام. وتذكر: "لقد أدركت أنه لن يكون هناك مستقبل لي في المملكة. لم يكن لدي أي خيار سوى أن أجد مخرجا".
وفي هذا، جعلت زوجها الجديد شريكا دون علمه، حيث وافق على أخذها في شهر عسل، ما منحها ذريعة للحصول على جواز سفر ووثائق سفر، وهو شيء لا يوجد امرأة سعودية يمكنها فعله دون إذن من وليها الذكر.
ووافق عندما اقترحت أن يسافرا إلى ألمانيا، التي حددتها، بعد بحث مستفيض، باعتبارها أفضل وجهة لجوء في أوروبا.
وبعد لحظات من تسليم جواز سفرها في ميونيخ، في أول يوم لها خارج بلدها الأصلي، تمت مرافقة "رنا" بعيدا عن زوجها، الذي سرعان ما أصيب بالهستيريا. وخلال الساعات الـ 14 التالية، كانت تتنقل بين مرافق احتجاز مختلفة، كل منها مكتظ بالمهاجرين من جميع أنحاء العالم، قبل تخصيص غرفة لها في منزل قريب في منتصف الطريق.
كانت أفكارها تتقلب في سريرها تلك الليلة، رغم ما كانت تشعر به من الإرهاق، ولكن كانت هناك فكرة واحدة تهيمن عليها، حيث قالت لي: "لقد تركت ورائي حياة اختارها لي آخرون، وفي النهاية، كان علي أن أختار لنفسي. لقد فكرت، الاختيار هو الحرية".
ولكن، حتى مع إفلات "رنا" من القبضة الخانقة لزوجها وأبيها، فقد وضعت نفسها، عن غير قصد، في مرمى عدو جديد أكثر شراسة.
وفي الوطن، هيمن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، على الديوان الملكي، وكان يعمل بلا كلل لإظهار صوته كمصلح ليبرالي. وأنفق مليارات الدولارات في حملة دولية للعلاقات العامة للترويج لتمتع رعاياه بحرية وازدهار لم يسبق لهما مثيل، وكذا لتقديم بلاده بوصفها "قوة استثمارية" لرأس المال العالمي، ونظيرا محترما بين أقوى الاقتصادات في العالم.
وكثيرا ما لعب ولي العهد على وتر تمكين المرأة كدليل على الصحوة الليبرالية في بلاده، ووعد بزيادة القوة العاملة النسائية إلى 30% بحلول عام 2030، وسمح للنساء بقيادة السيارات للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
وحظيت أجندة ولي العهد الطموحة بتشجيع من العديد في دول الغرب، الذين أشادوا به باعتباره مبشرا بدول خليج عربية أكثر اعتدالا وديمقراطية.
ومع ذلك، في الداخل، كان "بن سلمان" يستولي على السلطة عبر وسائل استبدادية صارخة. وبحلول نهاية عام 2017، قبل نحو عام من مقتل الصحفي السعودي البارز "جمال خاشقجي"، احتجز "بن سلمان" مئات الأشخاص، بمن فيهم رجال أعمال وأعضاء من العائلة المالكة، في محاولة لكبح المعارضة، سواء الحقيقية أو المتخيلة.
وفي الوقت نفسه، كان ولي العهد يشرف على حملة قمع هادئة للسعوديين في الخارج، ويعمل من خلال السفارات والقنوات الخلفية لإسكاتهم، عبر الابتزاز والتخويف والإعادة القسرية.
ولم تكن هذه الجهود مخصصة للمعارضين المعروفين مثل "خاشقجي" فقط، الذي فر من المملكة في نفس الوقت الذي هربت فيه "رنا".
وبشكل متزايد، قامت الحكومة السعودية بتوسيع شبكة الرقابة والمضايقة لتشمل مواطنين سعوديين عاديين يمتلكون خلفية سياسية ضئيلة أو معدومة.
التحكم في الصورة
ويبدو أن السبب في ذلك هو مسألة التحكم في الصورة. فعلى الرغم من امتناع "رنا" عن نشر آرائها النقدية للحكومة، فإنها كانت لا تزال تمثل قلقا "ديموغرافيا" لـ "بن سلمان".
وازداد عدد طالبي اللجوء السعوديين بشكل كبير منذ بداية صعود ولي العهد، من 555 حالة عام 2015، وهو العام الذي ظهر فيه على الساحة السياسية، إلى أكثر من 1200 عام 2017.
هذا بالإضافة إلى عدد كبير من السعوديين الذين اختاروا، مثل "خاشقجي"، أن يعيشوا في منفىً اختياري بموجب إجراءات تأشيرات منفصلة. وكان النقد الضمني الذي يعبر عنه هذا النزوح كافيا لإثارة غضب ولي العهد.
وسوف تتعلم "رنا" قريبا ما علمه "خاشقجي" للعالم فيما بعد؛ فالحاجة الملحة للملك الشاب للتحكم في سمعته لم تسعها حدوده الوطنية.
لقد بدأ الأمر برسالة ظهرت عبر تطبيق "واتس آب" على هاتف "رنا"، بعد بضعة أسابيع من وصولها إلى ألمانيا. وكانت قد تم نقلها آنذاك إلى بلدة صغيرة شمال شرق البلاد، حيث كانت تقيم في مجمع مخصص لعائلات اللاجئين. وجاءت الرسالة من إحدى صديقات "رنا" وشريكاتها التجاريات السابقات في الرياض، حيث أبلغتها أن متجر إصلاح الهواتف الصغير، الذي ساعدت في إطلاقه، في ورطة مع الحكومة. وفي زيارة أخيرة إلى البنك، تم إبلاغ الشريكة بأن اسم "رنا" قد تم حظره؛ ونتيجة لذلك، جمدت السلطات أصول الشركة.
ولقد حيرت الأخبار "رنا"، التي أنهت شؤونها بجهد مضني قبل أن تفر من المملكة، وسجلت في مكتبين حكوميين منفصلين، بما في ذلك وزارة التجارة والاستثمار، لمنح توكيل رسمي إلى شركائها.
واستعانت شريكات "رنا" بمحامٍ أبلغهم بأنه في حين أن أوراقهم سليمة، إلا أن السلطات لن تلغي قرارها. وقالت "رنا": "كل ما حاولوا القيام به فشل. فقد أصرت السلطات فقط على أن أذهب إلى السفارة لإصلاح المشكلة". وتم تغيير اسم "رنا"، بالإضافة إلى أسماء نساء أخريات في هذه القصة، لحماية سلامتهن.
وتستخدم الدولة السعودية في كثير من الأحيان التمويل وغيره من "الخدمات الوطنية" كوسيلة لجذب مواطنيها إلى لقاءات مباشرة مع المسؤولين الحكوميين. وتلقت إحدى طالبات اللجوء السعوديات، التي هربت إلى فرانكفورت صيف عام 2018، تحذيرا عبر رسالة نصية في نفس وقت هبوط طائرتها، بأن الحكومة جمدت حسابها المصرفي. وتم إخطارها فيما بعد بأن بطاقة هويتها الوطنية وجميع الامتيازات الممنوحة للمواطنين السعوديين، بما في ذلك تجديد جوازات السفر، والبنوك الإلكترونية، وتصاريح الإقامة، تم إلغاؤها. وتم توجيهها للعودة إلى السعودية لإصلاح المشكلة.
كما استخدمت السلطات السعودية النشاط البنكي كوسيلة لتقييد مواطنيها، كما يقول "آدم كوغل"، وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، يركز على المملكة العربية السعودية.
واستشهد بقضية 3 نساء سعوديات فررن إلى لبنان، مع 7 من أبنائهن، عام 2016. ويقول: "بعد مرور 20 دقيقة على تسليم بطاقات الائتمان الخاصة بهم للتسجيل في فندق، ظهرت السلطات اللبنانية وقبضت عليهم وسلمتهم فيما بعد إلى السعوديين.
وكانت حالة "خاشقجي" متوقفة على الأوراق أيضل، بعد أن طلب وثائق حكومية لزواجه المرتقب من القنصلية السعودية في إسطنبول، في 28 سبتمبر/أيلول، حيث طلب منه أن يعود بعد أسبوع. وخلال تلك الفترة، تم إعداد المصيدة لقتله.
وكان لدى "رنا"، الهادئة والواثقة بطبيعتها، شكوك جدية بشأن دخول سفارة بلدها في برلين.
ورغم أن ذلك كان قبل مقتل "خاشقجي" بأشهر، كانت "رنا" قد سمعت الكثير من القصص، بعضها موثقة والأخرى عبارة عن شائعات، عن اختفاء السعوديين في الخارج.
وقالت "رنا": "داخل السفارة، أنا لست في ألمانيا، أنا موجودة على أراضيهم. قد أختفي ولا يعرف أحد، ولن يكونوا قادرين على مساعدتي". ولم تكن أي من شريكات "رنا" قد عرفت مسبقا خطتها للهرب من البلاد، لكنهن جميعا فهمن ترددها في الاجتماع مع المسؤولين . وأكدت "رنا": "الآن، وخاصة في ظل حكم محمد بن سلمان، يشكك الجميع في الحكومة".
وفي هذه الأثناء، حاولت "رنا" التركيز على حياتها الجديدة المربكة في ألمانيا.
وفي المخيم، كانت تصادق عددا قليلا من السعوديات اللواتي، مثلها، هربن من منازلهن بسبب القمع على أمل في حياة جديدة. وانجذبت بشكل خاص إلى "فرح"، وهي مدربة لياقة سابقة تبلغ من العمر 25 عاما، من الرياض، ذات شعر داكن، وجسم رياضي. وقالت "رنا" بابتسامة: "إنها جميلة وجريئة للغاية، على العكس مني".
ويعد الشيء الوحيد المشترك بين الاثنتين هو انزعاجهما من الوضع القائم في الدولة السعودية. وفي غضون أيام من وصولها إلى ألمانيا، بدأت "فرح" تتلقى الرسائل على "تويتر" و"سناب شات"، من حسابات مؤيدة للحكومة، تحذرها من أنها ستدفع ثمن إهانة سمعة السعودية.
وبدأت "فرح" أيضا في السماع من أصدقاء في المملكة بأن السلطات كانت تستجوب الأشخاص المرتبطين بها. وخلال الاستجواب، حسبما قال أصدقاؤها، كشف المحققون معلومات شخصية عن حياة "فرح" في ألمانيا، بما في ذلك تفاصيل عن مكان وجودها وأنشطتها. وقالت لي "فرح": "كان ذلك مخيفا. كيف عرفوا الكثير عن حياتي؟ هل هناك شخص هنا يعرفني يقدم لهم معلومات؟"
وبينما كنت (الكاتبة) أشارك "فرح" الشوكولاتة بالحليب، في الشقة ذات الجدران العارية، التي تدعوها "رنا" الآن المنزل، اكتسب الحوار جوا عائليا. وخرجت علينا "رنا" من المطبخ تحمل صينية من الإسباجيتي بالصلصة والجبن، وهي واحدة من الوصفات القليلة التي كانت تتقنها منذ الحصول على مكان خاص بها، وانضمت إلينا على الأريكة التي يمكن فتحها لتصبح سريرها.
وكانت كلتا المرأتين على علم بأن الحكومة تعاقب بشكل روتيني أقارب الذين تعتبرهم غير موالين أو خطرين على الدولة. واستشهدت "فرح" بقضية "عمر عبدالعزيز"، وهو ناشط سعودي يعيش حاليا في كندا. وبعد أن استهزأ "عبدالعزيز" بجهود الحكومة السعودية لإسكاته، ألقت الدولة القبض على شقيقيه في جدة.
وبالمثل، بعد أن هرب "خاشقجي" من الدولة، قامت الحكومة بمضايقة أفراد عائلته، ووضع ابنه، "صلاح"، تحت حظر السفر. وتم استجواب أفراد عائلة "فرح" بعد فترة قصيرة من هروبها، وقطعوا منذ ذلك الحين اتصالاتهم معها. وقالت "فرح": "لم أكن أريد أن يحدث أي شيء لعائلتي"، حتى لو لم نكن قريبين من بعضنا البعض.
وتقول "رنا" إن معظم أقاربها وأصدقائها يترددون في التحدث معها، خوفا من الانتقام الحكومي. وقالت لي: "في بعض الأحيان، أحصل على فيديو أو ملاحظة صغيرة من أحد أشقائي الصغار على سناب شات، لكن هذا كل شيء. أنا لا أفتقد السعودية على الإطلاق، لكنني أفتقد والدتي".
القبضة الوحشية
ومع ذلك، سعت النساء إلى خلق شعور بالحياة الطبيعية، ودمج أنفسهن مع الدروس الألمانية، و"نتفليكس"، مع العمل بدوام جزئي.
لكن هدوء حياتهن قد تحطم في أبريل/نيسان 2018، عندما واجهت "فرح" اثنين من الرجال العرب خارج مبنى سكني لها. وكانت رسالتهم واضحة، حيث تحدثا باللهجة العربية. وأوضحت "فرح": "لقد قالوا لي إنهم يعرفون معلومات عني، لقد عرفوا من أنا، امرأة سعودية هربت من البلاد. لقد قالوا لي، سوف تندمين".
ولم يقدم الرجال أي هوية حكومية، ولم يقدموا أي تهديدات محددة. ولكن "فرح" كانت على يقين من أنهم من الموالين للنظام. وفي نفس الوقت تقريبا، حصلت على صورة مشفرة على "واتس آب"، من رجل يدعي أنه موظف في وزارة الداخلية. وفي الصورة، ملف يحتوي على اسم وصور "فرح" على مكتب، وتضمن الملف أمرا باعتقالها.
وبعد بضعة أسابيع، ظهر رجلان، يقودان سيارة "إس يو وايت" كبيرة الحجم، في شارع مهجور حيث كانت "فرح" تسير وحدها في الليل.
وبينما كانت السيارة تتجه ببطء نحوها، اختبأت "فرح" خلف شجرة. وخرج الرجلان من السيارة، على ما يبدو ليبحثا عنها. وكان الظلام حالكا للغاية لتحديد هوياتهم، لكن "فرح" اشتبهت في أنهما كانا نفس الرجلين اللذين واجهتهما أمام شقتها. وقالت: "لقد كنت على يقين من أنها محاولة لاختطافي"، قالت ذلك وهي تضع وجهها بين يديها. وأضافت: "فكرت بأنني سأختفي الليلة، هذه هي النهاية". لكن لحسن الحظ، ظهر اثنان من المارة في الشارع، وسرعان ما عاد الرجلان إلى سيارتهما وأسرعا.
لطالما استخدمت المملكة العربية السعودية الإكراه ضد مواطنيها في الخارج، لكن الأدلة تشير إلى أن هذه الممارسة تكثفت تحت حكم "بن سلمان".
وفي أكتوبر/تشرين الأول، قال مسؤول سعودي لـ "رويترز" إن ولي العهد أصدر "أوامر دائمة بالتفاوض بشأن عودة المعارضين"، مضيفا أن هذا يعطي المسؤولين "سلطة التصرف دون الرجوع إلى القيادة". ووسع "سعود القحطاني"، وهو مستشار كبير سابق لولي العهد تورط في قتل "خاشقجي"، دائرة الاستهداف لتشمل المعارضين الناشطين وحتى غير الناشطين.
ويقول "عبدالله العوض"، وهو أكاديمي سعودي وأحد كبار زملاء مركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم بين المسلمين والمسيحيين بجامعة جورج تاون: "قبل بن سلمان، كان لدى معظم السعوديين إحساس عام بأن هناك خطوط حمراء، إذا بقيت بعيدا عنها، فربما تكون آمنا. ولكن لا توجد طريقة لمعرفة أين هو الخط الأحمر بعد الآن. وأصبحت رسالة الحكومة الآن هي، ليس بالضرورة أن تكون سياسيا لاستهدافك. فبمجرد كونك صريحا قليلا، حتى في القضايا الاجتماعية أو الدينية، يمكن أن يجعلك ذلك هدفا، وقد تتعرض للضرر".
وتقول "هالة الدوسري"، وهي أكاديمية وعلمية سعودية تقيم في مركز حقوق الإنسان والعدل العالمي في جامعة نيويورك، إن استراتيجية الرقابة الاستباقية هذه تعتبر علامة تميز المملكة العربية السعودية تحت قيادة "بن سلمان".
وأضافت: "يريد بن سلمان السيطرة الكاملة على الخطاب العام. ولذا فإنه ليس لديه أي تسامح مع أي شخص قد يتحدى أو يعقد صورته".
ويشعر العديد من الطلاب السعوديين، الذين يدرسون في الخارج في المنح الدراسية الحكومية بهذا الأمر.
وفي الأعوام الأخيرة، كان العديد منهم قد تم تهديده أو تم تجميد منحته انتقاما لانتقادات متصورة منه للحكومة. وفي بعض الحالات، يبلغ الطلاب عن اتصالات تردهم تطلب منهم العودة إلى المملكة، أو تطلب منهم إبلاغ السفارة أو القنصلية المحلية للتفاوض بشأن استئناف المنح الدراسية.
وقال "هاني البندي"، وهو سعودي متخرج من جامعة إنديانا: "تلقيت مكالمة من امرأة قالت إنها كانت تعمل لصالح الحكومة السعودية. وقالت إن تغريداتي السياسية جعلتني عدوا للبلد، وإذا لم أتوقف، فإنهم سيقطعون كل التمويل المدرسي لي ولزوجتي". وخوفا من تعريض مستقبله للخطر، امتثل "البندي".
كما أفاد عدد من الطلاب عن لقاءات مع نظرائهم الذين كانوا يخشون أن يكونوا مخبرين حكوميين. ويقول "كوغل"، من هيومن رايتس ووتش: "يتلقى الطلاب السعوديون رسائل ضمنية وواضحة للابتعاد عن أي حديث سياسي. نحن نشهد علامات متزايدة، خاصة تحت حكم بن سلمان،أنه يتم مراقبة أنشطة الطلاب وأحاديثهم داخل الحرم الجامعي".
وفي أكتوبر/تشرين الأول، قبل يوم واحد من اختفاء "خاشقجي"، كشفت المجموعة البحثية الكندية "سيتيزن لاب" مؤامرة واضحة من جانب الحكومة السعودية لاستخدام برامج التجسس لاختراق الحسابات الشخصية لـ "عمر عبدالعزيز"، الطالب السعودي والناشط، الذي يدرس في "كيبيك".
وتم إلغاء منحة "عبدالعزيز" عام 2013، بسبب انتقاده للحكومة السعودية. وفي دراما موازية، تعرض ما يقرب من 9 آلاف طالب سعودي يدرسون في كندا بإلغاء المنح الدراسية الحكومية بشكل مفاجئ في شهر أغسطس/آب، حين تصادمت أوتاوا والرياض حول مصير النشطاء السعوديين المسجونين.
ومثل "رنا"، يخشى العديد من السعوديين الآن من أن أفضل محاولاتهم للرقابة الذاتية قد لا تحميهم في عصر التهور والسيطرة الخارجة عن الحدود.
استهداف ممنهج
كانت "رنا" قد وصلت خارج البوابات المحصنة للسفارة السعودية في برلين قبل الساعة التاسعة صباحا بقليل. "عودي إلى الرياض"، هكذا كانت رسائل شريكاتها اللاتي يواجهن متاعب مالية خطيرة.
وقالت: "كانت الشركة تعاني بالفعل، لأنهن لم يتمكن من العثور على أي طريقة للوصول إلى أموالهم".
وكررت السلطات فقط إصرارها على أن تزور "رنا" نفسها السفارة السعودية. وقالت "رنا": "لقد عرضت الأمر على اللاجئين السعوديين الآخرين، وحذروني جميعا من الذهاب". وعارضت "فرح" أيضا هذه الفكرة بشدة، لكن اهتمام "رنا" بأصدقائها تجاوز في النهاية مخاوفها على نفسها. وقالت: "شعرت بالذنب لأنني أضعهم في هذا الموقف. وقررت أن أذهب، حتى لو كان الأمر محفوفا بالمخاطر".
وفوق الجدران المطلية بالكروم للسفارة، كان العلم السعودي، المزخرف بالخط العربي والسيف المرسوم، يرفرف في النسيم الدافئ. ووقفت "فرح"، التي أصرت على مرافقة "رنا"، تستعد للاحتجاج على الرصيف مباشرة في الخارج. ودخلت "رنا" بدون موعد. لقد كانت تريد تجنب إعطاء السلطات السعودية أي إشارة مسبقة بزيارتها. وعند المدخل، حيث كانت الموظفات يرتدين الزي الرسمي، العباءات والحجاب، دونت تفاصيل هويتها وسلمت هاتفها الخلوي.
ومرت ساعات قبل أن يتم استدعاؤها. وقضت الوقت في غرفة الجلوس، تنظر بشكل متقطع خارج النافذة إلى ساحة قريبة.
وفي النهاية، وصلت امرأة شابة في حجابها لمرافقتها. وتحدثت إليها المرأة ببهجة ميكانيكية، مشيرة إلى الفوائد العديدة للحياة في السعودية، وكانت تتباهى بالفرص التي تقدمها البلاد للنساء. واختارت "رنا" عدم الرد. وبعد لحظات، وصلا إلى غرفة صغيرة كان ينتظرها فيها رجلان، أحدهما يعاني من الوزن الزائد، وآخر نحيل الجسم وداكن البشرة، وجلست المرافقة بجانبهن. بدأت "رنا" بالحديث: "السلام عليكم"، تجهموا، ووجهوا "رنا" إلى كرسي.
كانت "رنا" تأمل في نقاش قصير حول حسابها المصرفي السعودي. وبدلا من ذلك، تحملت استجوابا لمدة ساعة. واتهم العملاء الثلاثة "رنا" بتعمد إهانة صورة الدولة السعودية، عن طريق تصدير قضيتها بشكل زائف باعتبارها قضية حقوق إنسان. وتذكر "رنا" أنهم رددوا أكثر من مرة: "هذا ليس أكثر من تمرد ضد عائلتك. ألا ترغبين في قضاء رمضان مع عائلتك؟ يمكننا ترتيب هذا".
وأوضحت "رنا" بأدب أنها لا تهتم بالعيش في بلد شعرت فيه بالحرمان من حقوقها. وأثار هذا الجواب جولة جديدة من الغضب، حتى مع تأكيدهم على تعهد المسؤولين بعدم "اعتقالها" في الرياض. لكن إصرارهم مثل تهديدا ضمنيا لـ "رنا".
وفي مرحلة ما، بدأ الرجل نجيل الجسم يلمح إلى أن "رنا" قد أتت إلى ألمانيا لممارسة الجنس، قائلا إنه يعرف أنها لم تكن تعش بمفردها. وطالب المسؤولون أيضا بأن تمنحهم "رنا" بطاقة الهوية الألمانية الخاصة بها لتصويرها لتسجيل بياناتها. ورفضت "رنا" ذلك. وفي وقت لاحق، وعدها المحققون: "لا تقلقين، ستتمكنين من أخذ جواز سفرك والخروج من هنا اليوم". ورأت "رنا" أن نيتهم كانت تذكيرها بقدرتهم على منع مثل هذا الخروج.
وحاولت "رنا"، دون جدوى، توجيه الحوار مرة أخرى إلى قضية شريكاتها. وقالت: "بدأت أدرك أنه ليس لديهم نية لمساعدتي في مشكلة العمل. بعد ذلك، ركزت على أمرين فقط، ألا أتكلم عن أي شيء حول حقوق الإنسان، والخروج من هناك في أقرب وقت ممكن". وأخبرت المجموعة بأنها "تفكر" في العودة إلى المملكة العربية السعودية. وهنا، أخبرها المسؤولون الساخطون أن شريكاتها سوف يعانين طالما بقيت في ألمانيا.
وخرجت "رنا" من السفارة في وقت متأخر بعد الظهر. وفي الخارج، كان القلق يملأ وجه "فرح" بعد ساعات من الانتظار. وقالت إنها كانت تستعد لاستدعاء الشرطة، وطلبت معرفة ما حدث في الداخل. ثم شقت الاثنتان طريقهما نحو محطة القطار. وبدأ "رنا" تتساءل لو أنها جعلت الوضع أسوأ؟ فبعد أن أظهرت وجهها ولكنها رفضت رغباتهم، هل ستكثف الحكومة الآن من مضايقتها، أو من مضايقة أصدقائها وعائلتها في الوطن؟
لا تزال "فرح" و"رنا" منزعجتين من استهدافهما. وقالت "رنا": "في السفارة، عاملوني كمجرمة". وأكدت "رنا": "لم أكن أتوقع هذا. أنا لست هنا لأحاول أن أسبب المشاكل، أنا لست ناشطة، أنا فقط أريد حياة هادئة، وأن أعود إلى شقتي كل ليلة بسلام". وإلى جانبها، كانت عينا "فرح" البنيتان الحادتان محاطتين بالظلال، حيث قالت: "أخشى حتى أن أكتب تغريدة على تويتر الآن".
وقبل حلول العام الجديد بقليل، تشاركت "رنا" و"فرح" الشيشة والشاي مع "لينا"، وهي طالبة لجوء وصلت مؤخرا من الرياض.
وللهروب من السعودية، اخترقت هاتف والدها، وسجلت دخولا إلى تطبيق "أبشر"، وهو تطبيق جوال رائج مرتبط بوزارة الداخلية السعودية. ومنه تمكنت "لينا" من استخدام امتيازات الولي الخاص بها لإصدار تصريح للسفر، ثم السفر بعد فترة وجيزة. وعند وصولها إلى ألمانيا، علمت "لينا" أن أسرتها أبلغت السلطات. وتم إبطال حسابها المصرفي السعودي وملفها الوطني على الفور، لكن "لينا" اعتبرت أنه ثمن صغير للحرية. وتقول "لينا": "بعد 26 عاما من الإساءة، أي مكان هو جنة مقارنة بالسعودية".
لكن مستقبلها كان موضع شك عندما رفضت الحكومة الألمانية طلبها للحصول على اللجوء. وخلال جلسة الاستماع، قالت "لينا" إن القاضي رد على طلب "لينا" بالإشارة إلى "الحريات والإصلاحات الجديدة" التي بدأها "بن سلمان".
وأضافت: "قالوا لي، لقد تغيرت المملكة العربية السعودية، هناك حقوق للنساء هناك الآن". وهنا، كانت النساء الثلاث يضحكن ساخرات من هذا الحديث. وتم منع "فرح" أيضا من اللجوء الصيف الماضي.
وقالت "فرح": "لقد أخبروني أنه كان خطأي لكوني ناشطة، وأن الحكومة كانت تتغير في السعودية على أي حال، وأنني كنت أسبب المشاكل".
ودخلت كلا الفتاتين حاليا في عملية لاستئناف القرار. وأخبرني متحدث باسم المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين في برلين: "في جلسة الاستماع الشخصية، يحصل طالب اللجوء على الفرصة لشرح أسبابه الشخصية للجوء. وعلى أساس هذا البيان، ينظر إذا ما إذا كان يستحق القرار، وما هو نوع الحماية المطلوب".
وتمت الموافقة على قضية "رنا"، في ربيع عام 2018، لكن أغلبية السعوديين الذين تعرفهم تم رفضهم.
وقالت: "هناك شعور بأنه بما أننا لا نهرب من حرب، مثل السوريين، على سبيل المثال، فإن حالاتنا ليست خطيرة. ويقول كثير من الناس إن الأمور تتحسن بالنسبة للنساء في ظل حكم بن سلمان".
وفي حين أنه من الصحيح أن النساء السعوديات يمكنهن، منذ يونيو/حزيران 2018، قيادة السيارات، وأن الحكومة السعودية قلصت بعض القيود القانونية على النساء، إلا أن "رنا" ورفاقها يخشون من السجن أو الأسوأ إذا عادوا.
وقالت "لينا": "ستقتلني عائلتي. أنا متأكدة". وتشير "فرح" إلى أنه لا يمكن إنقاذ النساء من السجون في المملكة إلا من قبل أوليائهن".
وأضافت: "كان أبي ليضعني هناك ويتركني للأبد. هذا ما يحدث مع النساء طوال الوقت". وهذا ما قالته "رهف القنون"، في يناير/كانون الثاني، عندما تم اعتراضها في بانكوك أثناء محاولتها الهرب إلى أستراليا.
وكانت "رهف" قد تمكنت من إرسال رسالة قالت فيها لـ "رويترز": "إخوتي وعائلتي والسفارة السعودية بانتظاري في الكويت. حياتي في خطر". وبعد يومين من المواجهة، تم إطلاق سراح "رهف" في رعاية وكالة الأمم المتحدة للاجئين.
وترك مقتل "خاشقجي"، والاقتراب من ترحيل "رهف"، "رنا" وصديقاتها يشعرن أنهن أكثر ضعفا من أي وقت مضى.
وقالت "لينا": "لقد أظهر بن سلمان لنا أنه يستطيع أن يفعل أي شيء يريده. العالم قد دعاه يفلت من القتل، لذلك الأمور أسوأ بالنسبة لنا. وهو يشعر بأنه أقوى، وليس أضعف، الآن".
وكثيرا ما تتشارك النساء الشقق، ويقضين الليل في مجموعات بدلا من النوم بمفردهن. كما أنهن يستمرن في تجنب كل مظهر من مظاهر النشاط أو الخطاب السياسي، وهو فوز جزئي ربما لـ "بن سلمان". لكن أيا من احتياطاتهن لا تقضي على الخوف المستمر من وصول أيدي الحكومات إليهن.
وتقول "رنا": "لا نشبه الناس الذين فروا من الحرب في بلادهم. فهم عندما يأتون إلى هنا، فإنهم قد تركوا القنابل وراءهم، وأصبحوا آمنين. لكن بالنسبة لنا، فالخطر لا يزال يتبعنا".
المصدر | سارة عزيزا - نيويوركر